من الآداب العالمية : بابا طاهر عريان الهمذاني
أي عمل أدبي صادق يترك أثرا فكريا نفسيا حسيا وأخلاقيا في روح ونفس القارئ وهو يحاول من خلال الصور الذهنية واللغة والرمز في الرواية أو المسرح ، القصة ، الشعر ، بتركيز و إيحاء يحتاج إليه أكثر من التفاعلات الاتصالية اليومية وكذلك الأديب الشاعر الفنان التشكيلي تتيح له مواهبه وخبرته وتجاربه وإحساسه ورؤيته وإيقاعه وغير ذلك من العوالم الجمالية والإبداعية في العمل الأدبي ، كون الأدب منبع راقي من منابع المتعة الروحية والفكرية والحسية والنفسية والذهن الخلاق .
ومن الآداب العالمية ، كتاب وصلني من بغداد من الأستاذ الفاضل رياض الجعفري كتابه الذي أعده وحققه وقدم له بعنوان من الآداب العالمية ” رباعيات بابا طاهر عريان الهمذاني ” الذي يستحق الاهتمام والمتابعة ، الشاعر الكبير الذي تجاوز أدبه وشعره الحدود بتأثيره وقوته وسلطانه على النفوس بلغتها الأصلية أو من خلال الترجمة وقد يسأل القارئ عن ” الهمذان ” أصلها همذانة وتذكر الكتب السريانية أخبار الملوك والبلدان ، إن الذي بناها هو كرميس بن حليمون وهي مدينة كبيرة في الجبال توصف بجمالها وطيب هواءها وكانت محلا للملوك ومحرابا لأهل الدين والفضل ويطلق عليه اليوم ” همدان ” .
العمل الأدبي يجب أن يحقق تناغم فكري واطلاع على أفكار الآخرين والإفادة منها والسير في ركب الأدب العالمي وتعميق محاولة التأثير في الآداب العالمية الأخرى ، وعلى القارئ أن يكون على دراية بأن ما يهم هنا العمل الأدبي وتأثيره ، كتاب رباعيات بابا طاهر عريان الهمذاني يكشف نواحي مختلفة من الفكر المتقد والتفكير الحكيم وخاصة لو عرفنا إن عريان من أوائل من نظم هذا الأسلوب المميز في الشعر التي جاد في ترجمتها الشاعر الكبير صالح الجعفري .
يعتبر العريان فيلسوف وشاعر متصوف صافي البديهة والقلب رقيق المشاعر والروح ، شغفه بالغزل بلا حدود إلى حد كشف سواتر شغاف القلب ، انطوائي ومنعزل لحد الجنون لكن منابر فكره ملتهبة في فضاء الحكمة الروحانية إذ يقول :
( أنا ذاك الخالع العيار أدعى بالولي فارغ الكفين مما ملئت منه العباب حائم اليوم على رابية النور البهي نائم الليل ، فراشي لبنات وتراب ) .
والعيار كثير السفر ، والعياب جمع عيبة وهو ما يشبه الوعاء أو الحقيبة تحفظ فيها الأشياء الشخصية ، يمكننا كشف الأعماق إلى أبعد من طبيعة الخبرة والحكمة والنرجسية بحكم تمتعه بنظرة ثاقبة وقدرة فريدة جميلة مميزة ، فقد تأثر بما مر عليه من خبرات وتجارب ورؤية عميقة في حياته ، تأثرا عميقا ولا شك قادر على استيعاب واستلهام كل الرؤى وتسخيرها في رباعياته الشعرية ، بتميز دقيق باستعمال اللغة والصور المشرقة والأفكار الملهمة بشكل بهي ودقيق يقترن مع الخيال الخلاق ، ويتناغم مع خيال القارئ وإحساسه ومشاعره وأفكاره وهذا التفاعل بين الشاعر والقارئ يولد عوالم ثرية وعميقة إضافة غن الشاعر بابا طاهر عريان الهذاني يهتم بتركيز على وضع أسس وإلقاء الضوء عليها في شمولية الحياة من جمال وحب وحكمة وتعقيد وتناقض ومفارقات تجسد عالما مؤثرا ليكون بصمة عالمية في تاريخ الأدب العالمي من التألق والتميز والسمو والإبداع الفكري والتعبير والوصف الجميل الذي لمس شغاف القلب ، وحينما يبدأ ويعلن عن نفسه بشفافية ودقة متناهية وصور شعرية مؤثرة وبحس مرهف تتخيل حكيم كبير .
( لي قلب يشبه الطير كسيرا ذا شجون أو كفلك البحر قد أجنحة تياره
قيل : يا طاهر جس التار أسمعنا اللحون
قلت : هل يسمع تار قطعت أوتاره ؟ )
يرسم الشاعر عوالمه الممكنة والمستحيلة يجيز من خلالها أن يقدم معاني وأسس الطبيعة البشرية التي يتحرك ويتفاعل خلالها العالم الخارجي ، طبيعة البشر الشر الخير ، الجمال القبح ، الجمال والضباب ، كيف إن بذورها تنطوي على سمو أو دمار النفس وإظهار الفقر وإزهاق الروح بعكس نطفة الخير التي تؤكد وجودها ومقرها ومثواها في القلب والروح ، هذه العوالم بين الخير والشر تاتي برؤى قد تكون مجهولة المعالم ( لست أدري ) ربما تكون عناصر الشر متجلية وإن كانت رؤاها رمادية ( من سبب فقري ) .
يستلهم الشاعر تقديم المجهول بشكل يصور من خلاله العوالم الأخلاقية تصويرا مبدعا ( من أزهق روحي ؟ ) وهي دلالات فكرية ووسائل جمالية شفافة لها الأثر الكبير في رؤية الطبيعة البشرية خلالها والذي يفتح مجالا واسعا للتأمل والتحليل والتدبير والتدبر والوصول إلى ثمرات إيجابية بما يتصل بالإنسانية حينما يستعمل أصوات وإيقاعات ورموز وإيحاء يثير الفكر والهاجس والروح فينا من تأثير تجلي صور ذهنية بخيال خلاق قد يبيح للمجهول فضوله وشره وعمقه بتفاعل إحساسه وتأثيره وعشقه ( ما آثر العشق على قلبي الجريح ) وهكذا يجسد الشاعر الشيء الكثير من الإحساس والرؤى والحكمة والجمال عن كيفية فهم العالم والبشر بين المجتمع والحياة .
( لست أدري من كساني العري ؟ من سبب فقري ؟
لست ادري وأنا الجلاد من أزهق روحي ؟
أفلا تعطيني الخنجر كي أفتح صدري
لأرى ما أثر العشق على قلبي الجريح ) .
تذكر بعض المصادر نقلا عن مراحل دراسته إن الشاعر كان مواظبا فجر كل يوم على رياضة الغسل والسباحة وكان يحطم ويزيل الثلج المتراكم على سطح ماء حوض المدرسة المكشوف وكان يراه رفاقه عريانا بالحوض ومنذ ذلك عرف بالعريان ، فقد يوحى العريان إلى صور كثيرة في مخيلة القارئ ، وفي مصادر أخرى ذكرت صفات له كالواله والمجنون والمجذوب وهذا يظهر إنه كان من عقلاء المجانين كما أكد المستشرق ” ادوارد هيرون ” في مقدمة كتابه ” مرثيات بابا طاهر ” واختلفت الآراء في تحديد عصره بسبب انطوائه وعزلته فمن الباحثين من جعله من القرن الرابع الهجري وبعضهم الآخر من أدباء ورجال القرن الخامس ولم يصلوا إلى زمن وعصر محدد .
يخلق الشاعر عوالم متخيلة وعوالم واقعية كأنه يأخذ بيد القارئ إلى عالم التأمل لكن بصورة أسهل وأمتع ويجعل المتلقي أكثر وعيا بالبيئة والمجتمع والثقافة وأكثر فهما لقيمها ومعانيها ومضامينها حينما لم يمدح الشاعر في حياته الملوك والأمراء ولم يلمس أكتافهم ولم يقترب من مجالسهم لا من الطغاة والمستبدين والفاسدين ولا جبابرة زمانه كون عزة نفسه تأبى أن تكون قصائده الراقية في صروح عباد المال والجاه والمنصب والكرسي والمظاهر وأبالسة الدمار والخراب النفسي والقتل الروحي وأبالسة الملذات والجهل والشهوات لهذا لم تعلق قصائده فوق عروش السلاطين ولا تنقش على جدران الملوك ولا تطرز على أبواب الأمراء لكن ظلت مشرقة في قلوب عشاق الأدب والحقيقة وقد عبر ووصف بشكل دقيق هذه الصور الإنسانية بدقة متناهية جميلة .
( إن بلغت الفلك الدوار أحفيت السؤال :
كيف قدرت ؟ وما السر بهذي القسم ؟
فلأولاء رفاء ، ونعيم ، وظلال
ولأولئك خبز من شعير بدم ! ) .
الرفاء ، الخير والزاد الوفير ، يرتقي أدب وشعر بابا طاهر عريان إلى المستوى العالمية فقد اجتاز الحدود والدول وترجم شعره إلى عدة لغات وحقق أدبه انتشارا وشهرة واسعة بفضل ما يمتلك من خصائص فنية في تصوير إبداعي لبيئته ووصفه بحكمة وقدرة متمكنة من مضامين وتعبير راقي عن قضايا تهم المجتمع والإنسان ومن هذا المصطلح العالمي أول من استخدمه الشاعر الألماني ” غوته ” الأدب العالمي وكان يعني الأدب والشعر الذي يرتقي إلى المستوى الإنساني عامة في مضامينه وفي نفس الوقت لا يبتعد عن عمقه البيئي المحلي ، وكان غوته يحلم غن آداب العالم سوف تلتقي في زمن ما ،فهو أدب إنساني قبل كل شيء يعني الإنسانية في كل زمان ومكان .
المصدر :
رباعيات بابا طاهر عريان الهمذاني ، ترجمة الشاعر صالح الجعفري ، حققه وأعده وقدمه رياض صالح الجعفري ، رقم الإيداع 388 لسنة 2012 م بغداد .
بقلم الكاتب
عصمت شاهين دوسكي