هشام جعيط
“الفتنة” المستمرة *
الدكتور عبد الحسين شعبان
لم يصادف أن التقيت المفكر التونسي هشام جعيط سوى مرة واحدة يتيمة، وكنت قد قرأت له كتاب “الفتنة- جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر” الذي صدر عن دار الطليعة ببيروت 1991، وأعجبت به كثيراً. ولذلك كان حديثنا قد تركّز حول الكتاب والإسلام السياسي بشكل خاص، والتجربتين التونسية والعراقية في هذا الميدان، حيث كانت ملامح تيار سياسي إسلامي قد توّضحت في كل من تونس والعراق مطلع التسعينيات؛
الأول: ممثلاً بحزب النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوّشي، خصوصاً بعد اضطراره الهجرة، حيث بدأت علاقتي به في لندن، وكان غالباً ما يشارك في فعاليات المنظمة العربية لحقوق الإنسان. وهو قريب من تيار الإخوان المسلمين، لكنه متقدّم عليه نظرياً، وهو ما عبّر عنه في كتابه “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” ج1، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993، وصدر الجزء الثاني 2011.
والثاني: حزب الدعوة الإسلامي الذي استلهم منطلقاته الأولى من حركة الإخوان المسلمين ومن سيد قطب تحديداً، وفيما بعد من تنظيرات السيد محمد باقر الصدر الذي أعدم وشقيقته بنت الهدى العام 1980، ولاسيّما من كتابيه: “فلسفتنا” و”اقتصادنا” ولاحقاً برز تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى، الذي تأسس في إيران 1982 بقيادة السيد محمد باقر الحكيم، الذي قتل إثر تفجير سيارته في النجف عقب الاحتلال الأمريكي للعراق 2003.
استوقفني كتاب “الفتنة” الذي بحث في مسارين أساسيين أحدهما، فلسفي – فكري وثانيهما، تاريخي- راهني، وقد استخدم أدوات المؤرخ في البحث والتنقيب.
في المسار الأول عالج جعيط القضايا الدينية والمجتمعية الكبرى، وفي المسار الثاني نحا منحى التاريخ ليصل من خلال دروسه حتى وإن كانت حسب فريدريش هيغل (1770-1831) ماكرة أو مراوغة إلى الحاضر والحقيقة، التي ظلّ يبحث عنها ويريد تجسيدها.
لمجرد قراءتي لعنوان كتابه “الفتنة” عدت إلى ذاكرتي لاستحضر كتاب “الفتنة الكبرى” لمؤلفه العلامة طه حسين(1889-1973)، الذي صدر جزؤه الأول بعنوان “عثمان”، أما الجزء الثاني فكان بعنوان “علي وبنوه”، والمقصود بالفتنة التي هي حركة الجدل والخلاف السياسي منذ اجتماع “سقيفة بني ساعدة” وحتى خلافة عثمان تلك التي أدخلت الإسلام الأول في دوامة الأزمات والنزاعات والانقسامات السياسيّة حتى وإن اتخذت طابعاً دينياً، وصولاً إلى معاوية وعليّ.
يعتقد هشام جعيط أن الفتنة ما تزال موجودة في الوعيّ الإسلامي، وتشكّل إحدى علامات الصراع الدائر، لاسيّما بواعثها وتعقيداتها وتشابكها واستغلال القوى الكبرى لها، وقد درس ذلك بخلفيّة المؤرخ الموضوعي الذي حاول ربط الوقائع واستقراء الأحداث واستنطاق المعلومات وغربلتها خارج دوائر الاصطفافات المُسبقة أو الانحيازات العقائدية والمذهبية، خصوصا محاولاً الابتعاد عن تأويلها.
وبغضّ النظر عن الاتفاق والاختلاف معه في هذه الجزئيّة أو تلك، وفي هذا الرأي أو ذاك، فإن كتابه المشار إليه ودراساته المختلفة وحفرياته البنيوية تشكّل إحدى المراجعات التاريخية لفترة عصيبة ومفصليّة من التاريخ العربي – الإسلامي، خصوصاً ما استقرّ منها في أذهان العامة، وما هو متوارث من معتقدات مذهبية أججت الصراع وما تزال تفعل فعلها إلى يومنا هذا، بل أحياناً تلهب نار الفرقة، وكأن ما حدث قبل ما يزيد عن 1400 عاماً قد حدث اليوم.
ثلثا عمره البيولوجي
رحل جعيط عن عمر ناهز الـ86 عاماً قضى ثلثيها أو ما يزيد في الجامعة والبحث العلمي والتفتيش في المصادر التاريخية والمخطوطات وقراءة ما كتبه بعض المفكرين والمؤرخين القدماء والمعاصرين.
ولعل ما واجه جعيط واجه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995) الذي بحث أيضاً في الشخصية العراقيّة بشكل خاص والعربية بشكل عام، ناهيك عن الصراعات المذهبية وتفسيرات وتأويلات المؤرخين، وكلاهما اعتبر الجامعة ميدانه الأساس في البحث عن الحقيقة وفي تعميق التوّجه التنويري وإثارة الأسئلة المشاكسة، وأغنَيَا المكتبة العربية بكتب ومؤلفات يتداخل فيها التاريخ بالفلسفة، والاجتماع بالفكر، والسياسة بالدين.
وكان النقد وسيلتهما الأساسيّة في الوصول إلى المعرفة. وإذا كان الوردي قد بحث في علم الاجتماع السياسي من زاويته التاريخية، وركّز على الشخصية العراقية وازدواجيتها والصراع بين قيم البداوة والحضارة بمواصلة المدرسة الخلدونية نسبة إلى عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406) مؤسس علم الاجتماع، فإن جعيط انشغل ببيئة الرسول والثقافة والإنثربولوجيا العربية، وخصوصاً في الجزيرة العربية واليمن، مستنداً إلى القرآن بالدرجة الأساسية معتبراً ما كُتب عن الرسول أو نقل عنه (الأحاديث والسيرة النبوية) جاء متأخراً، أي في وقت لاحق، وهو قابل للإضافة والحذف، لأنه شفويّ، وبالطبع قد يخضع للتأويل السياسيّ والتفسير المصلحيّ، كلما تقادم عليه الزمن، انطلاقا من اصطفافات آيديولوجية وسياسية وانقسامات مذهبية، ويعتبر”الوحي والقرآن والنبوة” ثلاثية متلازمة لأبحاثه.
الاستشراق
اعتبر جعيط الدراسات الاستشراقيّة مُثقلة بالمركزية الأوروبية الاستعلائية الكولونيالية ولاحقاً بالثقافة النيوليبرالية الأمريكية، على الرغم من دراسته في فرنسا واعتماده المنهج التاريخي الذي حاولت المدارس الاستشراقية الغربية دراسة التاريخ العربي- الإسلامي والإسلام كدين من خلاله. وفي هذا المجال قام بتأصيل فكري ثقافي للتاريخ الإسلامي دون الغرق في الاستراتيجيات المركزية للاستشراق.
وبالعودة إلى تاريخ الاستشراق ودراسات المستشرقين فهي ليست بريئة أو أكاديمية صرفة، أو اجتهادات تحتمل الخطأ والصواب، إنها في الكثير من الحالات مغرضة وفوقية تحاول إسقاط مناهجها على الواقع كما أنه ليس حديثاً، بل يمتد إلى حروب الفرنجة (1095-1291) وسقوط الأندلس(غرناطة) في العام 1492. وهو بهذا المعنى فضاء متحيّز وفوقي يفترض أفضلية للغرب تفرض بالقوة العسكرية أو بالاستتباع، والأخير يعني “الاغتراب” تأثراً بالمنهج الاستشراقي، حيث يبرر البعض أن السير في عالم الحداثة يفترض قطع الصلة بالتراث، لأنه يشكّل عائقاً أمام التقدّم.
وإذا كان جعيط يعتبر الحداثة “تيار لا يُقاوم فهو المجرى الحتميّ للتاريخ”، فهذا يعنيالانفتاح على العالم، لأن الإسلام والبلاد الإسلامية ليسوا جزراً معزولة، بل هم جزء من الحضارة الإنسانية ويفترض أن يلعبوا مثل هذا الدور في المستقبل. أي أن البلاد الإسلامية لا يمكنها أن تغلق الباب وتقفل النوافذ أمام تيار الحداثة، الذي هو عابر للجغرافيا والأمم والقوميات والأديان والحدود، ولا أحد يستطيع أن يعفي نفسه منه.
حاول جعيط الذهاب إلى ما هو مسكوت عنه، فناقش في “المُسلّمات”، وأثار نقاط استفهام عديدة حول تاريخنا، بما فيها السيرة النبوية لاسيّما من منظور المدرسة الاستشراقية التي تسعى على نحو مباشر وغير مباشر إلى إثارة الكثير من الشكوك والارتياب، خصوصاً خلال نصف القرن الماضي.
لعل جعيط يتميّز عن غيره من المفكرين الحداثيين كونه يعتبر الإسلام عنصراً أساسياً في تشكيل الشخصية العربية والإسلامية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه جزء لا يتجزأ من الهويّة، لكنه دعا إلى أن يكشف العرب أنفسهم وليس عبر مستشرقين غربيين يمينيّين أو يساريين، عن ماضيهم باتّباع المناهج المعترف بها عالمياً. وأجد نفسي في اتفاق مع وجهة نظر جعيط في هذا الميدان، لأن الثقافة بما تشمل من لغة وتاريخ ودين وعيش مشترك وعادات وتقاليد تشكل أساس الهوّية. وبقدر ما انشغل جعيط بالاستشراق، فقد اتهمه البعض أنه تأثر بالمدرسة الاستشراقية، في قراءة النص الديني خارج سياقه التاريخي، وبأدوات لا تنسجم مع الحقل المعرفيّ في الدراسات الإسلامية، خصوصاً ميله للمدرسة التاريخية التي قالت بتأويلات وتخمينات لا ترتقي إلى المنهج الأكاديمي. كما اتهمه أنصار المدرسة الاستشراقية بأنه تقليدي ومحافظ.
صدمة الحداثة
يعتبر جعيط أن تحوّلاً عميقاً حصل في تطور الإنسانية، خصوصاً في العقود الأخيرة فما بالك ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، حيث يمثل هذا التطور ما يعادل عشرة آلاف سنة عاشتها البشرية منذ اختراع الزراعة وتدجين الحيوانات والاستقرار، وحتى سومر ومصر وصولاً إلى غاليلو وديكارت والحداثة الصناعية المبنية على عقلنة التاريخ والفلسفة والسياسة وإعادة صياغة العقل ارتباطاً بالثورات العلمية – التكنولوجية المتلاحقة وبمجالات التفكير العلمي.
لقد فتحت بداية الثورة الصناعية الباب أوروبياً للانتقال من مرحلة الإقطاع إلى نمط إنتاج رأسمالي، حيث أخذ رأس المال يتراكم “المركنتيلية” التي ترتبط بالتجارة والسيطرة على الأسواق والمستعمرات ومن ثم احتكارها، ففي هذه الفترة كان المجتمع العربي في حالة جمود حيث عاش صدمة الكولونيالية القائمة على الصناعة الغربية والحداثة المرتبطة بها التي انتجت التطور الرأسمالي غير المتكافئ، وهو ما حاول رواد النهضة مواجهته، ولأن الإسلام مسألة مركزية في المجتمع العربي والإسلامي، فلا يمكن شطبه، وقد أخفق بعض التحديثيين في القرن العشرين حين اعتقدوا إمكانية ذلك، ولاسيّما عن طريق السياسة، لذلك فإن التحديث الكولونيالي قاد إلى فشل الدولة الوطنية، والمسألة تتعلق بالهوّية، وهو ما حاول بحثه في كتابه “أزمة الثقافة الإسلامية” الصادر عن دار الطليعة، بيروت، 2000، مشيراً إلى أن هزيمة 5 حزيران/يونيو1967 كانت هزيمة للمشروع القومي العربي وهي تاريخية عادلة، حسب اعتقاده بسبب عدم ديمقراطيته بشقيّه الناصري والبعثي.
وبما أن الحداثة هي الطور الراهن في تاريخ الإنسانية فإنها ستستفحل مثل الحضارات الزراعية مرتقية بنفسها إلى عالم الحداثة بكل ما فيها من شساعة وتواصل واتصال ومواصلات وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية “الديجيتال”، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة.
فهل هي خيبة ظن من الحداثة بوجهها المتوحش أم أن الأمر يحتاج إلى مواجهة عربية وإسلامية بمشروع نهضوي أساسه استقلال سياسي وتحرر اقتصادي وتنمية مستدامة وديمقراطية وعدالة اجتماعية ووحدة أو اتحاد مع انبعاث وتجدد حضاري لمواجهة صدمة الاستعمار وإخفاق مشروع الدولة الوطنية. ولعل جعيط يعبّر عن ذلك باقترابه من الفكر النهضوي العربي الحديث الذي يضع تلك الأهداف أساساً لما يصبو إليه مشروعه الفكري.
وأختتم باقتباس فقرة من كتابه “الفتنة” الذي بدأتُ حديثي عنه وأنتهي به، لأبرز تميّزه واستقلاله الفكري، في مواجهة تيارين متعاكسين، حين يقول “من واجبي أن أقول للقارئ إن المقصود هنا هو كتاب وضعه رجل ترّبى في كنف التقليد الإسلامي، عليه أن يكافح في وقت واحد ضد الرؤية التقليدية للأمور وضد حداثة تبسيطية…”.
* ولد هشام جعيط في العام 1935 وتوفي في الأول من حزيران/يونيو2021، وكانت عائلته تتمتع بمكانة فقهية دينية وقانونية، وهي عائلة ثقافية ومحافظة في الآن نفسه. وفي هذه الأجواء نشأ مُحباً للفلسفة والتاريخ.