بَغْدَاد.. مفاوضات كهوف المحاصصة
بَغْدَاد.. مفاوضات كهوف المحاصصة
رشيد الخيّون
بعد كلِّ انتخاباتٍ، تُفتح أبواب الكهوف ببغداد لماراثون التَّفاوض، صحيح أنَّها قصور، فلكلِّ قائد ميليشيا وحزب له قصره المنيف، يعتقد أنه ورثه مِنْ هارون الرّشيد أو الإمام الغائب، لكنها كهوف، ففي داخلهنَّ تُنعش المحاصصةِ الفاجِرةِ.
بشرت نتائج الانتخابات خيراً، غير أنّ الشّرَّ ما يجري داخل الكهوف، لتشكيل وزارةِ توافقٍ، ولم تعدّْ في اختيار الوزراء عجيبة ولا غريبة، هذا ما يجري الآن بالعِراق، الذي بدأ تاريخ الوزارة عند المسلمين رسمياً منه.
فإذا اختير الوزير خارج ما تحتاجه البلاد، وما يشترطه مجاله، سيكون عثرةً. نعم، في العقود الماضية، أصبح تاجرٌ لا يُحسن كتابةَ اسمه وزيراً للمعارف، حصل ذلك بضغط الواقعِ عند التَّأسيسِ(1921). لكنَّ ما العُذر، وبعد زخرِ العِراق بالكُفْاةِ، يصبح العريف وزيراً للدفاع، والعامل حامل السّلَّم(الدَّرج) وزيراً للصناعة. حصل ذلك لأنَّ الحزبيَّة كانت شَرطاً، ومع ذلك لم تخل تلك الفترة مِنْ كُفاةٍ، والفترة التي يعيشها العِراق بعد 2003 عُين وزراء خارج المعقول، ولم تخلُ أيضاً مِن المهنيَّة، لكنَّ في الحالتين ظل الوزير أسيراً.
كان المعروف «أرداف الملوك في الجاهليَّة بمنزلةِ الوزراء في الإسلام، والرَّدافة كالوزارة» (الثَّعالبي، فقه اللُّغة)، وما جاء في الآية «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا»(طه: 53-36) المقصود المعنى وليس الوظيفة. فأولُ وزيرٍ في الإِسلام كان أبو سَلمة الخَلال(قُتل:132هج)، مدبر الثَّورة العباسيَّة، وُزرَ بهاشميَّة الكوفة. قيل فيه:«إن الوزيرَ وزيرَ آل محمّدٍ/أودى فمَن يشناك كان وزيراً» (الدَّينوري، الأخبار الطّوال). بعده تولى الوزارةَ للعباسيين(132-656هج) سبعون وزيراً، لسبعة وثلاثين خليفةً: البرامكة، وآل الرَّبيع، وآل سَهل، وآل الفُرات، وآل صَدقة، سُنَّة وشيعة. بدأ اختيار الوزير على كفاءة السَّيف والقَلم، بعدها أُهملت فتولى الوزارة أيّ أحد(فهد، تاريخ العِراق في العصر العباسي الأخير).
أصبح دور الوزير ثانوياً، بعد هيمنة الغلمان التُّرك، فالميليشيا البويهيَّة واالسَّلجوقيَّة، أُلغي المنصب في الأولى وصار ذيلاً للثَّانية. قلما كان الوزير يترك منصبه بلا مصادرة(مجيد، المصادرات في الدَّولة العباسية) وإذلال، يُجبر على العودة إلى داره ماشياً أو إلى الحبس والقتل(الطَّقطقي، الفخري). أحد الوزراء أُجبر أنْ يَقتلَ ولده بتهمة «الزَّندقة»، كذلك مِن الوزراء نُكب وأقرباؤه معه، لأنهم بطانته.
كان الأكثر إيلاماً نكبات: ابن الزَّيات(قُتل: 233هج)، وضع في تنور، بينما الجاحظ صُنف كتباً بدعمه. قُتل الوزير والخطاط ابنُ مُقْلَة(قُتل: 328هج) بعد قطع يمينه، فقال:«كتبتُ بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللُّصوص!«(ابن الجوزي، المنتظم). كان الأفجع مصير الوزير ابن جهير(قُتل 558هج) صفعاً بمداسات الخدم، فقيل:«لم يُسمع بأحد مات تلك الميتة»(الصَّفدي، الوافي بالوفيات).
قال أبو فرج الأصفهاني(ت:356هج)، بحقّ أحد أسوأ الوزراء:«يا سماءُ أسقطي ويا أرضُ ميدي/قد تولى الوزارةَ ابن البَريديِّ»(الحمويَ، معجم الأدباء). ذلك يوم كانت الدَّولة لا اقتصاد معقد ولا تكنولوجيا، فكيف وقد صار رئيس الوزراء يُدير بمسبحته أغزر الدُّول نِفطاً؟! ومسؤول يُطالب بجعل الميليشيات بالعِراق كحزب الله بلبنان. لذا أحاذرُ أنْ يتوافقون عليه في الكهوف رئيساً للوزراء!
فلا قيمة للانتخابات، إذا كانت الكهوف تجتمع لأجل إدامة المحاصصة قاصمة ظهر العِراق، أضع أمام المتحاصصين أحوال وزراء بغداد، في عزّهم وذلهم، وقبل توزيع الحقائب احسبوا لابنِ حبيبات الكوفيِّ قوله على ألسنة النَّاس في وزراء تنصبهم مفاوضات الكهوف:«أسوأ العَالمينَ حالاً لديهم/ مَنْ تسمَّى بكاتبٍ أو وزيرٍ»(الفخري…).