یوم الثامن من كانون الأول ــ دیسمبر / 2021
الدكتور/ضرغام الدباغ.
كان الیوم الأخیر في ولایة السیدة الدكتورة أنغیلا میركل
والیوم سیحین لھا أن تنسحب لترعى حیاتھا … ً أستاذة الفیزیاء التي اقتحمت السیاسة منذ أكثر من 30 عاما،
تولت فیھا منصب المستشاریة (رئیسة الوزراء)، وأدارت فیھا دفة الحكم في بلد كبیر، یتمتع ً بعد 16 عاما
بمكانة سیاسیة / اقتصادیة / ثقافیة كبیرة في أوربا والعالم، بمھارة ملحوظة.
ً الدولة في ألمانیا، آلة متقنة الصنع محكمة متینة لذلك تؤدي دورھا بكفاءة المكائن والصناعة الألمانیة عموما
التي یشھد لھا العالم بالنجاح والقوة والأداء المتقن. ولھذا فإن نجاح المستشارة میركل لا یعود لكفاءتھا
الشخصیة فحسب، بل وأیضا لكفاءة أداء الدولة الألمانیة التي تولت قیادتھا. فھي استلمت الحكم من مستشار
كفء وھو السید غیرھارد شرویدر، الذي حقق منجزات تشریعات ومنجزات مھمة، الذي بدوره أستلم دفة
البلاد من أحد مستشاري ألمانیا التأریخیین (ھیلموت كول) الذي في عھده (1990 (تم إحراز الحلم الألماني
العظیم المتمثل بالوحدة الألمانیة وتولت عام 1001 لأول مرة منصب الوزارة، وفي 22 نوفمبر/تشرین
الثاني 2005 فازت في الانتخابات بفارق بسیط ضد المستشار شرویدر وتولت منصب المستشاریة. كأول
إمراة في تاریخ ألمانیا تتولى ھذا المنصب. ھل نجحت میركل في فترة حكمھا ..؟
بتقدیرنا أن الأمور لا تقاس بھذه البساطة. فھي ا ً ستلمت الحكم بفارق بسیط عن مستشار كان ناجحا في
ً ً إدارتھ للحكم ومھد للكثیر من الخطوات المھمة سیاسیا وأقتصادیا، ومؤشرات النجاح المحلیة تتمثل بإیجاد
ً الحلول للمشكلات المشخصة كمعضلات في الواقع الألماني، ففي عھدھا حقق الاقتصاد الألماني تقدما في حین
تراجعت الاقتصادات الأوربیة بفضل سیاسة مالیة صارمة، وصمد الاقتصاد الألماني في ھزة الدیون التي
أندلعت في معظم الدول الأوربیة، وھذه سمة للاقتصاد الألماني بصفة عامة، في أن یمثل قاطرة الاقتصاد
الأوربي. ثم واجھت مشكلات الھجرة وھذه ما تزال مطروحة بسخونة الیوم، وأیضا صعود الشعبویون(الیمن
الألماني المتطرف) الذي یبدو أن لا مستقبل لھ، فألمانیا في العقد الثالث من الألفیة الثالثة لیست ألمانیا
الثلاثینات، ولا یمكن مواجھة المشكلات الألمانیة الداخلیة بشعارات التطرف والتحریض، فھذه سوف لن
، وتسعیر ً تورث سوى تعمیق المشكلات، فضلا عن أن الیمین الألماني فشل في توجیھ خطاب جذاب للجمھور
العداء تجاه الأجانب لا یصلح أن یكون مقدمة لخطاب سیاسي / اقتصادي / ثقافي .
3
كحزب أنفسھم في موقع المعارضة. وإن ً بعد 16 عاما على رأس البلاد، یجد المسیحیون الدیموقراطیون
كانت ممارسة الحكم قد ً ساھمت في تراجع موقعھم كما یحصل عادة، فإن ذلك نتج أیضا من عجز میركل عن
التمھید لخلافتھا. فبعدما استبعدت بشكل منھجي القادة المحافظین الذین یمكن أن یشكلوا منافسة لھا، مثل
اللیبرالي فریدریش میرتس أو نوربرت روتغن، الوزیر الوحید الذي أقالتھ منذ 2005 ،راھنت المستشارة
لفترة على أورسولا فون دیر لاین، قبل أن تسلط الضوء على أنیغریت كرامب- كارنباور التي عدلت عن
الترشح، مفسحة لأرمین لاشیت الذي ارتكب أخطاء وھفوات.
وكانت المستشارة میركل قد لخصت شعارھا في 22 تموز/یولیو بالقول “الحیاة بدون أزمات أسھل، لكن حین
ّ تحل الأزمات، یجب مواجھتھا”. وعددت المستشارة عندھا خمس أزمات كبرى واجھتھا، منھا :
الأزمة المالیة عام 2008 إلى
تفشي وباء كوفید- 19) كوورونا)، مرو ًرا
إنقاذ الیورو ثم أزمة
ملف اللاجئین، وخصوصا السوریین عام 2015
والاحترار المناخي.
غیر أن فتح أبواب بلادھا أمام اللاجئین یبقى أبرز قرار في عھد میركل، یثني علیھ مؤیدوھا باعتباره
قرارا شجاعا ً ً. كما أن میركل حصدت الإشادات لتعاطیھا مع الأزمة الصحیة وجائحة كورونا.
في مجال السیاسة الداخلیة
تمیزت انتخابات 2017 التي كرست میركل مستشارة لرابع ولایة على التوالي، بدخول حزب “البدیل من
ً ً أجل ألمانیا” الیمیني الشعبوي لأول مرة إلى البرلمان كما أن تباینا كبیرا لا یزال یسجل بین الغرب والشرق،
. كما تبقى نسبة الوظائف ً إذ تبقى مناطق في ألمانیا الشرقیة سابقا بمنأى عن المعجزة الاقتصادیة الألمانیة
الصغرى المتدنیة الدخل مرتفعة.
واغتنم ھذا الحزب المعادي للإسلام الذي انبثق جناحھ الأكثر رادیكالیة من حزب النازیین الجدد، المخاوف
سابقا ً مناطق ألمانیا الشرقیة الناجمة عن فتح أبواب ألمانیا أمام المھاجرین عام 2015 لینمو وخصوصا في
ً. وبات الخطر الإرھابي الناجم عن الیمین المتطرف مصدر الخوف الأول، ً ً حیث یلعب دورا سیاسیا م
ھما
و ً متقدما على الخطر الجھادي، بعد وقوع عدة ھجمات دامیة. كما تسجل زیادة في الھجمات ضد الیھود.
كما أن المستشارة الأولى في المانیا الفدرالیة لم تنجح في ترسیخ موقع المرأة في السیاسة، وتبقى نسبة
، وھي نسبة بالكاد أعلى مما كانت عند وصول ً 34 %النساء المنتخبات في مجلس النواب حالیا بمستوى
میركل إلى السلطة عام 2005) 5,32 .(%
أنغیلا میركل أنھا أنھت 4 ولایات من الحكم ( 16 عاما) وانسحبت من ً وداخلیا أیضا، یؤخذ على المستشارة
الساحة السیاسیة وسط شعبیة كبیرة. بید أنھا انتقدت لافتقادھا “للرؤیة”. كما تعرضت لانتقادات “لفشلھا” في
ّ . ً ً ترسیخ موقع المرأة السیاسي ومن غیر أن تكون مھدت لخلافتھا، تاركة إرثا متباینا
الملفات الأوربیة الیوم تعد ملفات بالغة الحیویة والحساسیة، كما لم یكن علیھ الحال في الثلاثینات، فالتنافس
بین الأقطاب الاستعماریة (مستعمرین قدامى: بریطانیا وفرنسا، ومستعمرین جدد : ألمانیا وإیطالیا) كانت
4
رائجة في الثلاثینات، بین قوى قدیمة وقوى صاعدة، والاتحاد السوفیتي الذي كان یسعى لأن تكون لھ مكانتھ
وتأثیراتھ في السیاسة الدولیة، والیوم تبدو صورة الموقف مختلفة بدرجة كبیرة.
وعھد المستشارة میركل واجھ محاولات الھیمنة الأوربیة، وإذا كانت ازمة العلاقات الأمریكیة / الأوربیة في
حقبة أوباما الدیمقراطي، تدور بھدوء وتحت السیطرة، فإنھا بدت مختلفة في عھد ترامب الجمھوري، وبلغ
ً الخلاف لدرجة التوتر، ولم تخفف المواجھة الصینیة ـ الروسیة / الأمریكیة من حدة التباین إلا قلیلا، وتؤشر
ً معطیات عدیدة إلى أن الأوربیین ماضون بأتجاه الاعتماد على الذات دفاعیا، وإدارة العلاقات ضمن العالم
الغربي ستكون واحدة من المھام الصعبة حتى للإدارة الألمانیة الجدیدة.
المستشار الجدید السید أولاف شولتس شغل منصب وزیر المالي في حكومة میركل، وكان قد خلف في ھذا
المنصب المھم (الذي یلي في الأھمیة منصب المستشار) خلفا للسید شویبلة، وھو سیاسي مخضرم كفوء
ومحنك، عرف عنھ الصرامة الشدیدة والدقة، فسار السید شولتس في وزارة المالیة على سیاسة سلفھ.
على صعید السیاسة الدولیة
. ففي ظل صعود النزعات ً عاما ً شھد الدور الذي لعبتھ ألمانیا على الساحة الدولیة تطورا على مدى 16
الشعبویة، وصفت صحیفة نیویورك تایمز میركل بأنھا “زعیمة العالم الحر” الجدیدة. وتنامى النفوذ الألماني
في آسیا كما في أفریقیا، القارة التي زارتھا المستشارة أكثر بكثیر من أسلافھا. غیر أن حصیلة سیاستھا
الخارجیة تبقى موضع جدل إذ یبقى وزن ألمانیا الجیوسیاسي أدنى بكثیر من نفوذھا الاقتصادي.ا كما
واجھت نتقادات لتقاربھا مع روسیا والصین
وعلى صعید آخر، فإن استراتیجیة التقارب والتعاون التي انتھجتھا أنغیلا میركل رغم الظروف تجاه روسیا
برئاسة فلادیمیر بوتین، وأبرز تجلیاتھا مشروع خط أنابیب الغاز “نورد ستریم 2 “المشترك، لم تقنع
الكرملین بالتخلي عن سیاستھ المتصلبة، ولم تساعد في تسویة النزاع بین موسكو وكییف.
كما واجھت میركل انتقادات متزایدة لإعطائھا الأولویة للتبادل التجاري مع الصین، ثاني سوق للصادرات
الألمانیة، رغم الاتھامات الموجھة إلى بكین على صعید حقوق الإنسان.
أما بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي، فلم یعد بإمكان ألمانیا الاعتماد كما من قبل على المظلة الأمیركیة، من
غیر أن تضع في ھذه الأثناء إستراتیجیة جدیدة على صعید السیاسة الأمنیة، رغم مشاركتھا بشكل متزاید
في مھمات عسكریة في الخارج.
وذكر تقریر لمؤتمر میونیخ للأمن العام الماضي أن “انخراط ألمانیا” على الساحة الدولیة “یبقى في غالب
الأحیان دون تطلعات شركائھا الرئیسیین والمطالب التي تطرحھا البیئة” العالمیة.
قاطرة الاتحاد الأوروبي
ّ 2011 ،حین أبدت الحكومة ً بید أن أزمات أخرى عرضتھا لانتقادات، وخصوصا أزمة دیون الیونان عام
. وكانت ً ً الألمانیة موقفا متصلبا دفع أثینا إلى شفیر الإفلاس وأثار مشاعر عداء شدید للمستشارة في أوروبا
المستشارة میركل قد اعتنقت نظریة تشارك الدیون في الاتحاد الأوروبي، فھي لم توافق قبل ثلاث سنوات
على اقتراحات الرئیس الفرنسي إیمانویل ماكرون الإصلاحیة، في موقف واجھ انتقادات حتى داخل
ألمانیا.بعدما كانت ألمانیا “الرجل المریض” في الاتحاد الأوروبي مطلع الألفیة، استعادت موقعھا كأكبر قوة
اقتصادیة في القارة، مستندة إلى فائض ھائل في المیزان التجاري وإدارة مالیة صارمة. وتراجعت نسبة
5
ً 2,11 %إلى 7,5 %في تموز/یولیو، في سوق لا تزال ھشة على وقع تفشي البطالة خلال 16 عاما من
الوباء.
كتبت أسبوعیة “دیر شبیغل” الواسعة الانتشار أن “الاتحاد الأوروبي في وضع لم یعد بالجودة التي كان علیھا
عند وصول میركل إلى السلطة عام 2005 ،”مشیرة إلى عدم امتلاك المستشارة “رؤیة” وإلى “الھوة بین
الشمال والجنوب حول المسائل المالیة” وبریكست وصعود الدیموقراطیات غیر اللیبرالیة.
المستشارة میركل أقرت بنفسھا في 22 تموز/یولیو بأنھ منذ 2005″ لم تحصل أمور كافیة” لمكافحة
الاحتباس الحراري، ولو أنھا على اقتناع بأنھا “كرست الكثیر من الطاقة” لھذه المسألة. وأثارت میركل
مفاجأة عام 2011 حین أعلنت عزمھا على إخراج بلادھا من الطاقة النوویة بعد كارثة فوكوشیما في الیابان.
واضطرت میركل التي لقبت في فترة “مستشارة البیئة” وكانت وزیرة للبیئة في عھد المستشار ھلموت كول،
إلى تعزیز أھداف ألمانیا تحت ضغط المحكمة الدستوریة التي اعتبرت أنھا تفتقر إلى الطموح.