السيد محمد حسن الأمين
عمامة وعلمانية
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكّر عربي من العراق
على سبيل التمهيد
سبقته شهرته، سواء في العراق أو في لبنان أو في العالم العربي ، وحتى قبل أن أتعرّف عليه شخصياً، و كنت سمعت عنه وقرأت له وتعرفت على بعض مواقفه الراديكالية ورؤيته للصراع في لبنان وفي المنطقة، وخصوصاً مواقفه من القضية الفلسطينية والصراع ضدّ الصهيونية.
تعلّق محمد حسن الأمين بالحياة بكل أطرافها وذهب بها إلى نهايتها القصوى بكل ما يستطيع أملاً بالوصول إلى “الحريّة الضرورة” التي كان يطمح في ارتقاء منصّتها، حتى فاضت روحه وهو لا يكلّ ولا يملّ من الدعوة إلى الحق و العدل. ومن تجربته ومن واقع لبنان وأمّة العرب كان يدرك أن لا سلام حقيقي دون عدل، ولا عدل حقيقي دون إحقاق الحق وردّ المظالم. وتلك المعادلة لازمت أطروحاته الفكرية ومواقفه العملية.
صوت وروح
وبقدر ما كان السيد الأمين يمتلك وقاراً وهيبة، لاسيّما صورته بالعمامة السوداء فإنه كان يتمتّع بكاريزميّة خاصة، لاسيّما صوته المؤثّر وهدوءه اللافت ونبرته الواضحة، يضاف إلى ذلك روحه الضاجّة بصخب وتمرّد تفيض منها ضوضاء مضيئة تبشّر بالخير والجمال والسعادة، ولعلّ قول مارك توين ينطبق عليه إلى حدود كبيرة وهو القائل “لن تجد الهدوء أبداً لأن أعماقك هي مصدر الضوضاء”.
هكذا كان السيد محمد حسن الأمين محتفياً بالحياة بكلّ عنفوانها وحيويّتها عارفاً تكوينها غير مبالٍ بدروبها الوعرة مخترقاً منحنياتها ومنعرجاتها وصعودها ونزولها، وكلّ ذلك بدأت ملامحه تظهر في تكوينه الأول في المدرسة النجفية الحوزوية التي شهدت العديد من المبدعين ممّن سبقوه وممّن اختاروا طريق الحياة من مجايليه، ونستذكر بعضاً منهم: محسن الأمين وآل الأمين وحسين مروّة ومحمد شرارة وآل الزين ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين و حسين شحادة وهاني فحص ولفترة قصيرة السيد حسن نصر الله وآخرين.
وكنت في العديد من المرّات أتجاذب أطراف الحديث مع السيد محمد بحر العلوم والسيد مصطفى جمال الدين والسيد أحمد الحسن البغدادي والشيخ عبد الزهراء عاتي وعبد الغني الخليلي وغيرهم عن أجواء الحوزة والرابطة الأدبية في النجف ومنتدى النشر والشخصيات اللبنانية التي لمعت في المدرسة الحوزوية النجفية للعلوم الدينية واكتسبت احتراماً كبيراً من أساتذتها ومن طلبتها ، وعن مجالس الشعر والأماسي الشتوية والصيفية عند نهر الفرات في الكوفة، والقفشات بين الدارسين وهم من بلدان مختلفة، وكنت، بحكم العائلة وسكنها، قريباً من هذه الأجواء حيث مدرسة الخليلي الشهيرة، بالقرب من منزلنا، أتابع الكثيرين منهم حتى بعد مغادرتي في مطلع الستينيات إلى بغداد.
في صيدا يتجدّد اللقاء
قبل أكثر من ربع قرن، زرت السيد محمد حسن الأمين في منزله بصيدا واحتفى بنا أيّما احتفاء، وكانت معي المحامية هدى الخطيب شلق، واستعاد بعض ذكرياته والأحداث التي مرّ بها العراق والنجف واستذكرنا بعض المحطات والتواريخ والمفارقات ، فنحن من عمر واحد وفي مرحلة واحدة، وبقيت أتابعه خلال الفترة المنصرمة، حتى قبل تلك الزيارة الأثيرة التي شكّلت رافعة جديدة في صداقتنا التي تعمّقت مع مرور الأيام بلقاءات وتبادل وجهات نظر وتزاور وكتب ومقالات ، وكان آخرها وقبل رحيله زيارتي له في بيروت بصحبة الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار، فضلاً عن لقاءات في مؤتمرات ومهرجانات في بيروت والرياض وغيرها، وأكثر من مرّة كان اللقاء في مهرجان الجنادرية (المملكة العربية السعودية) ، وكنت قد استمعت إلى شعره في أكثر من مناسبة ومحفل، فضلاً عن إهداءاته لي التي كنت حريصاً على قراءتها ووجدت في قصيده عمقاً فكرياً وصوراً حيويّةً ناطقةً ولغةً أنيقةً رشيقةً .
ميّزات أربعة
أستطيع القول أن السيد الأمين محمد حسن امتاز بأربع ميّزات مهمة يندر أن تجتمع في شخصٍ واحد، وكل واحدة منها تشكّل رصيداً معرفيّاً مهماً، فما بالك حين تتداخل وتتفاعل في عقل شخص واحد؟
أولها – ثقافته الموسوعية، فهو لم يكتفِ بالدراسة الدينية الحوزوية، بل أجهد نفسه في الإطلاع على الثقافة المدنية بكلّ صنوفها وألوانها، وهكذا حاول الجمع بين الدراسة المنهجية التي توفرها الحوزة النجفية، في الفقه واللغة والأدب وعلوم الدين، خصوصاً وقد درس المقدمات ثم السطوح وبحث الخارج علي أيدي كبار علماء عصره، وفي الوقت ذاته، حاول قراءة الأدب الحديث والفلسفة والتاريخ وانشغل بالفكر ومستحدثاته والعلم ومكتشفاته، كل ذلك في هارموني متوازن ومتفاعل. وأستطيع القول أنه إضافة إلى تكوينه الديني وانشغالاته العملية بتطويره، فقد اهتمّ بالأدب بعامة والشعر بخاصة، وهكذا كان شاعراً رقيقاً ومثقفاً كبيراً، يزن كلماته ويعرف كيف يرسلها لتكون مؤثّرة.
وثانيها – انفتاحه وقبوله للآخر، فقد كان على الرغم من راديكاليته وثوريّته بالمصطلحات السبعينية، إلاّ أنه يحترم وجهات النظر الآخرى، ويقبل مقارعة الحجّة بالحجّة والرأي بالرأي والفكرة بالفكرة، ولم يكن متزمّتاً حتى وإن كان له آراء مغايرة، إلاّ أنه يقدّر آراء الآخرين، فلم يكن منحازاً بالحقّ أو بالباطل لطائفته أو دينه، بقدر ما كان منحازاً للإنسان أيّاً كانت قوميّته أو دينه أو طائفته ومذهبه، مقدّماً المُثل والقيم الإنسانية التي هي الأساس، والتي تمثّل المشترك الإنساني.
ثالثها – صوته المتميّز شكلاً ومضموناً، وقد حاول الحفاظ على استقلاليّته وإن كلّفته في العديد من الأحيان أثماناً باهظة، لكنه كان حريصاً على إبقاء صورته المستقلّة دون اختلاط مع السائد من الصور المؤثّرة أو المهيمنة أو المتنفّذة، فالمثقّف والباحث والمفكّر والعالم كلّما حاول أن يحافظ على استقلاليّته فإنه يكون قد سلك الطريق الصحيحة التي تقرّبه من مشروعه الخاص ، لاسيّما انضاج اجتهاداته وتعميق رؤيته لمجتمعه وللكون أيضاً. وهكذا يتولّد صوته الخاص، وحسب الروائي الأرجنتيني أستورياس مؤلّف رواية “السيد الرئيس” الكثير الإنطباق والشبه على أوضاعنا العربية، “فالإنسان إله بسبب من صوته “، بالمعنى الفزيولوجي والمعنى الحسّي، إضافة إلى المعنى الرمزي. ومن صوته يُعرف الإنسان ومن نبرته يُؤشر عليه، فما بالك إذا كان مبدعاً متميّزاً.
رابعها – عروبته الطافحة ووطنيته الفائضة، فقد كان بالإضافة إلى تمسّكه بوطنه اللبناني وبقصد العيش معاً أو العيش بشراكة وتكافؤ ومساواة، فقد كان عروبياً بامتياز، وكلّ ما في الوطن العربي يعنيه، وفي القلب من ذلك كانت فلسطين بوصلته، وكان منذ البداية مقاوماً من أجل فلسطين وضدّ العدوان “الإسرائيلي”، ناهيك عن هواه “العراقي” الذي ظلّ يحنّ إليه، خصوصاً بعد تعقّد الأوضاع وعدم قدرته على زيارة العراق في فترة النظام السابق، لكنه كان يتابع شؤونه مثل أي عراقي، وكم كان منشغلاً بالحصار الجائر المفروض عليه، مثلما انشغل بما حصل له بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 وتذرّر العراقيين وتمزّقهم إلى طوائفٍ ومللٍ ونحلٍ وأشياعٍ وأتباعٍ بعضها يمتدّ إلى صناعة خارجية.
كم كان ذلك يحزنه، فتراه أحياناً أقرب إلى التشاؤم لكن دون يأس لأن روح المقاومة والتحدّي، بل والتمرّد كانت تعتمل في نفسه، ولأنه كما قال لي: أنه يعرف العراقيين بأنهم لا يستكينون ولا يستحقون مثل هذا المصير. وكم كان يسخر على طريقته حين يُراد تطبيق الوضع اللبناني الطائفي واقتسام المغانم على الوضع العراقي، سواءً دستورياً أو عملياً، لأنه كان يعرف خلل التجربة اللبنانية ومأساة لبنان التي أدخلته حرباً أهلية دامت 15 عاماً، لم تنته إلاّ باتفاق الطائف وبتداخلات دولية زادته قيوداً وانقساماً، فكيف يمكن اقتباس تجربة مثل تلك التجربة المريرة ؟
روافد أربعة
في كلّ تلك المواصفات والسجايا، بل والمناقب التي كوّنت شخصيّته، فثمة روافد مؤثّرة ساهمت في بلورة وعيه وإعادة صياغته وتوجيهه بما يتساوق مع منبعه الأول:
الرافد الأول – عائلته، ذات المكانة المتميّزة التي نبغ فيها أعلام كبار، وكان إسم السيد محسن الأمين (العاملي) مؤلّف كتاب أعيان الشيعة، أحد أركانها الأساسيين ( والكتاب عبارة عن موسوعة ضمّت عدّة مجلدات، ترجم فيها لما يقارب 12000 شخصية منذ صدر الإسلام الأول إلى ما قبل عصره. وقد درس محسن الأمين في النجف لنحو عشر سنوات ونصف السنة، وغادرها العام 1901، كما عاش في دمشق في حي الأمين، وتوفي في بيروت في 30 آذار / مارس 1952 ودفن في حي السيدة زينب بدمشق، علماً بأن ولادته كانت في العام 1865 )، وقد أكمله نجله السيد حسن الأمين، الذي عاش في العراق لعدّة سنوات منذ العام 1938 ولغاية العام 1940 ثم من العام 1945 إلى العام 1949 .
وكان والد السيد حسن الأمين قد أوفده للدراسة في النجف في العام 1927 ، لكنه لم يمكث سوى 3 أسابيع وغادرها مفضلاً الدراسة الأكاديمية على الدراسة الدينية، فدرس لاحقاً في كلية الحقوق في دمشق وتخرّج منها، وقد عمل في العراق مدرساً للغة العربية في مدينة الحلّة ، وفي الفترة الثانية أستاذاً للأدب العربي في كلية الملكة عالية، وقد أخبرني أنه أول من نشر قصيدة للشاعرة نازك الملائكة دون علمها. وخلال فترة وجوده في العراق، كان على اتصال مع عدد من الأدباء والشعراء المحسوبين على الوسط اليساري والحداثة الثقافية. وكان لدي مراسلات معه حين كنت أجمع موادّاً لكتابي عن سعد صالح (جريو) “الوسطية والفرصة الضائعة”، الذي نشرته فيما بعد ، علماً بأن حسن الأمين نشر مقالاً موسعاً في جريدة الحياة (اللبنانية) من وحي التواصل بيني وبينه في أواسط التسعينيات، جرت فيه الإشارة الموسعة إلى الدور الريادي الثقافي والسياسي لسعد صالح في الأربعينيات.
الرافد الثاني – دراسته في النجف، التي احتضنته يافعاً ثمّ شاباً وكانت منبعاً حقيقياً اغْترف منه الكثير وارْتشف من علومه أعذبها، وكانت خزينه الذي لاينضب، وقد عاش في النجف حسبما قال لي أجمل سنوات عمره حين جاءها وهو في الرابعة عشر من عمره ( العام 1960 وغادرها وهو في النصف الثاني من العشرينات من عمره في العام 1972 )، وكان قد تزوج وهو في النجف ووُلِد نجله الأكبر الإعلامي المعروف السيد علي في النجف أيضاً. وفي النجف كذلك أكمل دراسته الحوزوية – الأكاديمية فيما بعد في كلية الفقه العام 1972 .
الرافد الثالث– الثقافة المدنية الحديثة، فقد كان يميل إلى التجديد والحداثة وروح العصر، محاولاً تجاوز ماهو تقليدي وساكن وراكد من التراث بقراءات جديدة للأدب الحديث والمعاصر وفي انفتاح كامل، وهو ما أعطاه امتيازاًجديداً، فإضافة إلى إتقان اللغة والنحو والصرف واطلاعه على التراث، وخصوصاً تراث الإمام علي ونهج البلاغة والتفسيرات القرآنيّة ومدارس الفقه، فإنه سعى لمعاشقة ذلك بالإطلاع على الثقافة الحديثة، ولم يتوقف عند مدرسة واحدة، بل حاول الأخذ من جميع المدارس، فلم يتوقّف عند منصّة أو فكرة واحدة، بل عمل بكل ما يستطيع على ملاقحة دراسته الدينية بالعلوم الحديثة.
الرافد الرابع – بلده الأصلي لبنان، الذي عاد إليه بعد إنجاز دراسته وكتابة رسالته العملية، ولبنان كما نعرف بلد الإنفتاح والتنوّع والتعدّدية، وعلى الرغم من الأوضاع المأساوية التي عاشها في الحرب الأهلية 1975- 1989 ، فإن هذا البلد الصغير بحجمه وعدد سكانه وموارده، إلاّ أنه كبير جداً بما يحتويه من كفاءات وبما يملكه من فضاءات للحريّة والإبداع والفن، ناهيك عن كونه ملجأً للمثقّفين والمعارضين الفارّين من بلدانهم.
وقد مثّل التعدّد الثقافي قاعدة للعيش معاً، حاول إتفاق الطائف لعام 1989 وما أعقبها من تشريعات لعام 1990 أن يرسيها على أسس جديدة، إلاّ أن التداخلات الخارجية العربية والإقليمية والأجنبية ساهمت في إيصال لبنان إلى ما وصل إليه دون نسيان الصراعات غير المبدئية للزعامات السياسية التقليدية وغير التقليدية، التي هي الأخرى مسؤولة على نحو كبير في الأزمة الحالية التي يعيشها لبنان، وهي أزمة غير مسبوقة.
وفي لبنان دخل سلك القضاء، فزاد ميله أكثر نحو العدالة، حيث أصبح قاضياً لمدينة صور في العام 1977 ، وبعدها انتقل إلى محكمة صيدا الشرعية وبقي فيها إلى العام 1997 ، وكان مستشاراً في المحكمة العليا.
كان مرانه الأول في عدد من المجلات النجفية مثل: مجلة النجف و مجلة الكلمة ومجلة عبقر، وقد سار على نهج والده على مهدي الأمين وهو ما أسماه حسن الأمين “خير خلف لخير سلف” ، وكتب إضافة إلى الشعر عدداً من المؤلفات ذات النزعة التجديدية التي لا ترى تعارضاً بين العلمانية والإسلام، ومن كتبه “نقد العلمنة والفكر الديني” و “بين القومية والإسلام” و “الإسلام والديمقراطية” و “الشهيد محمد باقر الصدر: سمو الذات وخلود العطاء“، كما كتب في النقد العربي وأوضاع المرأة وظروفها في لبنان.
شيء لا يشبه الوداع
في ظل اجتياح وباء كورونا، كان السيّد الأمين يتعامل مع الواقع السياسي بكل تفاصيله بروح وثّابة، ولم يدّخر وسعاً في كل ما يستطيع كي يقول الحق، ولم يبالِ باستشراء الفايروس وهشاشة النظام الصحي التي انكشفت على نحو كبير، فضلاً عن التعامل مع حركة الإحتجاج التي كانت شاملة عامة، لأنها مسّت جميع الفئات والطبقات، خصوصاً التصرّف بأموال المودعين وانهيار سعر الليرة.
أخيراً وبعد فترة صراع وكرٍّ وفرٍّ مع “الذئب الذي ظلّ يترصّده” و حاول محاصرته من كل جانب، تمكّن الفايروس الذي استفحل واستشرى على نحو واسع من الانقضاض عليه وبين مصدّق ومكذّب، وبين إغفاءة ويقظة قرّر هذه المرة وعلى غير عادته في المواجهة الرحيل بهدوء كامل، وكأنه قدّر الظرف الملتبس والحجر الصحي الذي يمرّ به العالم.
هكذا قرّر السيد الأمين أن يغادرنا دون أن يحاول إحراجنا كي لا نأتي لنودّعه. ومع ذلك حين شاع خبر الوفاة، زحف المئات من المشيّعين لتقديم واجب العزاء، على الرغم من محاولة العائلة عدم إبلاغ سوى بضعة أشخاص بوفاته وعدم إقامة مجلس فاتحة له بسبب الظروف، لكن أهل صيدا وأحبّته وأصدقاءه أقاموا له مجلس عزاءٍ حضرته بنفسي شارك فيه النساء والرجال في أجواءٍ يتخلّلها شعورٌ بالفداحة والفقدان لغياب عالم جليل ورمز كبير، حيث وافته المنية في 10 نيسان / أبريل 2021 وتم دفنه في قريته شقرا في جبل عامل.
رحل الأمين وكان:
أميناً لِمُثلِه؛
أميناً لِقِيمِه؛
أميناً لعروبته؛
وأميناً لإنسانيّته.