العشائر والجذور الاجتماعية للسياسات العراقية المعاصرة
مقدمة بقلم أ.م. د. عبد الحسين شعبان(*)
حين طلب منّي الصديق الخبير النفطي د. وليد خدوري أن أقدّم كتابه الجديد إلى القارئ العربي، اعتقدت أنه مؤلّف آخر له علاقة بالسياسات النفطية التي اعتاد الكتابة عنها، ورفد المكتبة العربية لعقود من الزمان بأبحاث وكتابات ودراسات وتحليلات ومقالات لكبريات الدوريات والصحف باللغتين العربية والانكليزية، إضافة إلى عدد من الكتب، ولكنه فاجأني بعنوان كتابه الجديد الموسوم “العشائر والجذور الاجتماعية للسياسات العراقية المعاصرة”.[1]
وتساءلت مع نفسي ما الذي يجمع العشيرة بالنفط؟ مع أن الصلة أصبحت وثيقة هذه الأيام بين الاثنتين، بل إن صراعات عشائرية مسلحة اندلعت بخصوص النفط، شملت عشائر وقوى سياسية وقطاعات تجارية انشغل بعضها بالتهريب والأتاوات، لكن قراءة مخطوطة د. وليد خدوري نقلتني إلى حقل آخر يتعلّق بعلم الاجتماع السياسي والتاريخ الاجتماسياسي للعراق المعاصر منذ الدولة العثمانية وعشية تأسيس المملكة العراقية وما بعدها، لاسيّما بخلفيته الثقافية المفتوحة ورؤيته الشمولية الواسعة.
المخطوطة التي نحن بصددها هي أطروحة نال عليها خدوري شهادة الدكتوراه PhD العام 1970 من جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، ولم يتسنّ له نشرها في حينها، وأستطيع القول أنها مادة حيوية، بل راهنية، على الرغم من الفارق الزمني (50 عامًا بين كتابتها ونشرها)، حيث أن دور العشيرة عاد بقوة إلى واجهة المشهد السياسي واتّسع وتعاظم لدرجة كبيرة في ربع القرن الماضي، خصوصًا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003.
I
كنت قد توقّفتُ وأنا أقرّظ كتاب خدّوري عند المعلومات القيمة والمعطيات الغنية والجداول التفصيلية (زاد عددها عن 30 ) منها جدول رقم 2 حول تاريخ النزاعات العسكرية في العراق منذ سقوط الدولة العباسية على يد قوات المغول بقيادة هولاكو عام 1258م وحتى الحرب العالمية الأولى وانتهاء الاحتلال العثماني للعراق، إضافة إلى الاستنتاجات المهمة التي توصّل إليها، فالعشيرة التي شهدت فترة ازدهار ونفوذ وامتيازات في العهد الملكي، تعرّضت إلى انحسار ونكوص وتراجع في العهد الجمهوري، واستمرّ الأمر لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، لكنها منذ أواسط التسعينات عادت لتأخذ دورًا اجتماعيًا جديدًا، عبر وظيفتها “المكمّلة” للدولة التي منحتها امتيازات خاصة ولأغراض سياسية بحتة، وذلك تحت مسمّى “العرف العشائري” والذي أصبح أكثر تداولًا بحكم الأمر الواقع،وإنّ ظلّ القانون يعاقب على من يلتجئ إلى المحاكم غير النظامية[2].
يمكنني القول أن الدولة العراقية المعاصرة ظلّت منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) 1921 تعاني من أربع سلطات تتنازع على المجتمع والفرد، ويحاول كل منها بسط سلطانه بالتداخل أو بالتخارج مع بعضها البعض.
أولها- سلطة مؤسسات الدولة بما فيها من قانون وقضاء وأجهزة تنفيذ وضرائب وغيرها، والتي تم تكريسها بالدساتير العراقية ابتداء من القانون الأساسي (أول دستور دائم)، والذي تم تشريعه بإشراف بريطاني العام 1925، وصولًا إلى القوانين العراقية النافذة في المجالات المختلفة.
وثانيها – سلطة المؤسسة الثيوقراطية الدينية والمنافِسة لسلطة الدولة، لاسيّما فيما يتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والإرث وبعض القضايا التي يتم إدراجها تحت عنوان ” الحقوق الشرعية”.
وثالثها- سلطة شيخ العشيرة وتفريعاتها فيما يتعلق بالأعراف العشائرية، وهي سلطة حاول الاحتلال البريطاني للعراق تقويتها مستفيدًا من دورها أيام الدولة العثمانية، وذلك حين شرّع ” قانون دعاوى العشائر” [3].
ورابعها- سلطة العادات والتقاليد البالية والثقيلة والتي تختلط أحيانًا مع بعض الطقوس والشعائر الدينية والطائفية.
وتشكل سلطة العادات والتقاليد قاعدة لشكل هندسي ثلاثي الأضلاع يجمع المؤسسة الدينية بشيوخ العشائر وكل ما له علاقة بالنظرة الاجتماعية المحافظة.
وقد أدى حل الجيش والقوات المسلحة والقوى الأمنية المختلفة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 إلى إضعاف سلطة الدولة وتدهور نفوذها ومكانتها وهيبتها وتضخم ترسانات ما قبل الدولة وما دونها لتصبح فوقها، مثل المؤسسة الدينية بشقيها الشيعي بشكل خاص والسني، وشيوخ العشائر الذين يستمدّون دعمًا مباشرًا أو غير مباشر منها لتساوقهم مع أطروحاتها المحافظة، وذلك في إطار توافق يقدّم فيه رؤساء العشائر الولاء والطاعة لما يسمّى بالمرجعية الدينية، مقابل رضاها وقبولها بالأحكام التي يصدرونها وفي الكثير من الأحيان تكون مخالفة لأصول الدين وفروعه ولمبادئ الشريعة الإسلامية.
ولم يكن ذلك بمعزل عن تواطؤات معلنة ومستترة من داخل الدولة ومؤسساتها والقوى المهيمنة عليها لاعتبارات سياسية ومذهبية، لدرجة أن القيم العشائرية تغوّلت على الدولة وقانونها وتضخم دورها مع تراجع القيم المدينية والقانونية، والدولة أية دولة لا بدّ لها من حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم وضبط النظام والأمن العام، وإن قصّرت في ذلك ستحل محلّها وترتفع فوقها مرجعيات أخرى، وقد حصل ذلك بالفعل بغياب سلطة الدولة بعد الاحتلال، إذْ ما لبثت العشائر أن دخلت في صدام مع القانون مقدّمة أعرافها وقواعدها على القانون، ثم انتقل صراعها المسلح فيما بينها وذلك سعيًا في مناطق النفوذ، وخصوصًا في جنوب العراق، لاسيّما في المناطق الحدودية وعلى مكاسب وامتيازات اجتماعية واقتصادية وشخصية.
وكان الدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول(أكتوبر) العام 2005 قد نص في المادة 45 : ثانيًا – على ما يأتي ” تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع وتمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان”؛ فكيف تستقيم تلك الفقرة مع فكرة بناء دولة مدنية ديمقراطية، خصوصًا إذا ما عرفنا أن الكثير من القرارات التي اتخذتها محاكم عشائرية هي بالضد من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فضلًا عن تعارضها مع المبادئ الإسلامية السمحاء؟ فما الذي يربط بين إهداء 50 فتاة بعضهن حتى قاصرات من قبل عشيرة القاتل إلى عشيرة المقتول بحقوق الإنسان؟ بتبرير إتمام الصلح العشائري كما حصل في البصرة، وهناك الكثير من الأحكام المخالفة لروح الدستور، بل للفقرة أولًا من المادة المشار إليها 45 [4]
وكانت وزارة العدل قد طرحت مشروعًا تحت عنوان ” التحكيم العشائري” الذي دخل حيّز التنفيذ في نيسان (ابريل) 2018، الأمر الذي يعني أولوية الرأي العشائري وسيادته على الرأي القانوني الحكومي، وهو أمر سيقود الناس إلى الاحتكام للأول على حساب الثاني، حيث سيضعف تطبيق القانون، وسيلتجئ الناس إلى العشائر بدل المحاكم مما يؤدي إلى ضياع الحقوق، فالتحكيم العشائري سيأخذ صفة قانونية ويؤدي إلى تعطيل القوانين النافذة، ويحوّل البلد إلى حكم العشائر وليس حكم القانون، فما بالك حين يكون السلاح هو الحاكم ومنتشر وتتنافس العشائر للحصول عليه وتكديسه واستخدامه لإظهار قوتها ونفوذها ؟
ووصل أمر التأثير العشائري إلى قطاعات عديدة حيث يخشى معلمون وأطباء ومحامون وقضاة وأصحاب مهن أخرى سلطة شيوخ العشائر، إذْ كثيرًا ما يتم اللجوء إلى إقامة الحد العشائري حين يرسب طالبًا أو يموت مريضًا أو يترافع محاميًا أو يحكم قاضيًا، فيدخل الأمر في نزاع عشائري عبر التهديد بالقوانين العشائرية التي تعتبر سلطات موازية للدولة التي تتنافس معها في فرض سيطرتها على المجال العام، وأية دولة ترتضي مثل تلك الازدواجية فهي دولة هشّة وضعيفة، بل ستكون فاشلة.
وحين نذكر ذلك فالمسألة ليست تكهنًا أو احتمالًا أو تقديرًا، بل هي حاصلة بالفعل حيث تعرّض الكثير من المعلمين إلى اعتداءات متكررة وفي المدارس أحيانًا، كما قتل أطباء واستهدف قضاة ومراكز شرطة، وتدخّل بعض أفراد العشائر لإطلاق سراح متهمين من أفراد عشائرهم بالقوة المسلحة، أو قيام عشيرة بأخذ الدّية ” الفصل العشائري” من طبيب بتهمة تسبّبه في وفاة أحد أفرادها، في حين أن الوفاة كانت طبيعية، بل إن بعض العقارات، سواء كانت منازلا أو محالًا تجارية تتدخل النزاعات العشائرية لمنع بيعها أو التصرف بها، وقد تجد في الكثير من المناطق الريفية وغير الريفية وفي المدن بما فيها العاصمة بغداد، لافتات معلقة على الواجهات كتب عليها: “مطلوبة عشائريًا فلا تباع ولا تشترى” أو يتم أحيانًا تهديم منازل أو تهجير عوائل أو انتشار مسلحين أو إيقاف محطة كهرباء أو أخذ فصل عشائري من بعض الأجانب بحجة الإساءة إلى فرد من العشيرة، كما حصل مع شركة كورية رضخت لذلك.
يكفي أن نشير إلى أنه في شهر واحد نجد 800 جلسة حكم عشائري في بغداد، وفي النجف 1200 جلسة حكم، وفي البصرة 2400 جلسة حكم، فما الذي سيتبقى لمحاكم الدولة الرسمية تلك التي فقدت ثقة المواطن بها، بل إن بعض الساسة والنواب والمسؤولين الكبار يلجأ إلى العشائر لحل مشاكلهم[5].
وكلما كانت الدولة ومؤسساتها ضعيفة في فرض القانون واحتكار السلاح كلما ضعفت ” شرعيتها” وارتفعت سلطات أخرى بموازاتها في محاولة لفرض شرعياتها التي تتنافس مع شرعية الدولة. وقد شهد جنوب العراق مؤخرًا، ولاسيّما منطقة الهارثة والقرنة في محافظة البصرة جولات مسلحة بسبب خلافات عشائرية بعضها لأسباب تافهة مثلما هناك أسبابًا مالية واقتصادية وتجارية تتعلّق بالتهريب أيضًا، إضافة إلى قضايا اجتماعية، فضلًا عن استغلالها سياسيًا، حيث استعملت فيها أسلحة خفيفة ومتوسطة وقيل أسلحة ثقيلة أيضًا.
وإذا ما أردنا معرفة حقيقة ما يجري اليوم فعلينا مراجعة الخلفية التاريخية للأعراف العشائرية والنزاعات الاجتماعية التي كانت تستغرقها وهو ما يقدّمه كتاب خدوري من خلال قراءة راهنة لربط الماضي بالحاضر، حين يحاول بمنهجيته السسيوثقافية التي اتبعها بإشراف البروفسور مجيد خدوري [6] أن يبحث الظاهرة من الزوايا المختلفة، فلم يترك شاردة أو واردة إلّا وجاء عليها بالتحليل والتدقيق والتوثيق، لهذا أعتقد أنه كتاب لا غنى عنه لدراسة العشائر والجذور الاجتماعية للسياسات العراقية المعاصرة، يضاف إلى كتاب د. عباس العزاوي “عشائر العراق” وكتاب حنا بطاطو “العراق”.[7]
II
حين بدأت بقراءة نص المخطوطة استعدت مع نفسي حوارًا مثيرًا بشأن العشائر والعشائرية بين شخصيتين عراقيتين مدنيتين تاريخيتين، هما كامل الجادرجي الذي يعتبر أحد رواد الفكر الديمقراطي الليبرالي في العالم العربي، وكان رئيسًا للحزب الوطني الديمقراطي الذي تأسس العام 1946 وقد عمل قبل ذلك في إطار جماعة الأهالي التي تأسست العام 1932، وزكي خيري الذي يعتبر أحد رواد الفكر الاشتراكي في العراق وقد عمل في قيادة الحزب الشيوعي العراقي لسنوات طويلة، وكان الحوار قد دار بينهما العام 1946 بخصوص دور العشائر ومستقبلها، ولاسيّما “قانون دعاوى العشائر” والفصل في المنازعات العشائرية الذي كان سائدًا حينها كقانون موازٍ للقانون المدني العراقي.
قال خيري للجادرجي حينها: إن أول ما يجب أن تفعله حكومة ديمقراطية في العراق (يقصد بعد الثورة) هو إلغاء نظام دعاوى العشائر الذي تركته إدارة الاحتلال البريطاني، فقال الجادرجي الأمر يحتاج إلى أن يدرس بتأنٍ أولًا قبل البت به، والمسألة بحاجة إلى تدرّج وتوعية وتهيئة الظروف المناسبة، قبل الإقدام على ذلك لما قد يترك من تأثيرات سلبية.
وكان الجادرجي بوسطيته وواقعيته على حق مثلما كان خيري بثوريته وراديكاليته على حق أيضًا، فقد تمكّن النظام الجمهوري الجديد بجرّة قلم إلغاء القانون كما كان خيري يريد، لكن دور العشائر عاد لاحقًا لأنه لم يتم التدرّج في تقويض أسسه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كما كان الجادرجي يعتقد.
صحيح أن نفوذ شيوخ العشائر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تقلّص بفعل انحسار نفوذ الإقطاع بعد صدور قانون الاصلاح الزراعي في 30 أيلول (سبتمبر) 1958 (بغض النظر عن نواقصه وتطبيقاته السلبية) وساهم ذلك في إضعاف النفوذ العشائري عمومًا [8]، ولكن لم تكن الأمور بهذه البساطة أيضًا والمسألة أكبر من شعارات سياسية عامة، وإنما كان ينبغي بالتطور والتراكم تطويق الظاهرة تمهيدًا لتقليص دورها من خلال حكم القانون، وخصوصًا جوانبها السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا والتخلص من تأثيراتها الضارة على حقوق الفرد وإعلاء مرجعية الدولة.
لقد بيّنت التجربة التاريخية إن بالإمكان بقرار ثوري إلغاء العشائرية، لكن مثل هذا القرار يحتاج إلى تراكم وتطور لبناء دولة مدنية وتعزيز سلطتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أمر لا غنى عنه لتقويض العشائرية والاحتكام إلى الدولة ووحدانية القرار السياسي والقانوني. وقد شهد العراق عشية ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 ارتفاع معدّلات الهجرة من الريف إلى المدينة، الأمر الذي أدى إلى ضعف التأثير العشائري، خصوصًا بانخراط العديد من أبناء العشائر في أحزاب ونقابات وجمعيات، ناهيك عن التباعد المكاني، وبالطبع فقد قاد ذلك إلى ضعف صلتهم بالعشيرة التي هي الأخرى ضعف دورها سياسيًا، لكن آثارها ظلّت قائمة حتى وجدت الفرصة المناسبة، خصوصًا بعد نكوص المجتمع وتراجعه وتعرّضه فيما بعد إلى حروب وحصار، حيث اضطرّت معه الدولة إلى إعادة العشائرية بقرار سياسي في التسعينات لحماية النظام السياسي، بعد أن كانت قد استنكرت وجودها منذ أواخر الخمسينات، وهكذا أصبحت جزءًا من الواقع، بل إن الحكومة لحماية نفسها ساهمت في تصنيع عشائر جديدة.
وإذا كانت العلاقات القبلية والعشائرية قد تخلخلت بفعل تعزز دور الدولة المدنية، وبخاصة لدى سكان الحضر بفعل التطورات في المجتمع العراقي، لكن العشيرة والعشائرية لم تنته كليًا، وقد بدأ دورها يكبر بفعل عوامل موضوعية وأزمات وكوارث حلّت بالبلاد، ولعل من أهمها هو اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988، وما أعقبها من مغامرة غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، وبعد حرب الخليج الثانية في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 التي شهدت تحريرًا للكويت وتدميرًا للعراق، وقيام ” انتفاضة” شعبية بوجه نظام الحكم السابق.
وقد دفعت تلك التطورات المجتمع العراقي إلى الخلف وعادت به القهقري، واتخذت مظاهر مختلفة من خلال سياسات حكومية رسمية، فتارة باسم ” الحملة الإيمانية” وأخرى بإصدار قوانين تنال من حقوق الإنسان وتحط من قيمة المرأة وذلك تحت عناوين “الشرف” و”غسل العار”، وثالثة بإعادة دور العشائر، بزعم حماية البلاد من تسلّلات قوى معارضة قادمة من دول الجوار، وخصوصًا إيران، الأمر الذي أوكل إليها حماية مناطقها، وإلّا فإن يد السلطة ستطالها وستعاقب رؤساءها إن لم يقوموا بالواجب، وبالغ هؤلاء أحيانًا فخطّوا وثيقة بالدم ” للرئيس” تعبيرًا عن وفائهم مقابل بعض الامتيازات، وسرعان ما غيّر بعضهم رحيلهم فوجد في الاحتلال خير معين له لاستمرار دوره ونفوذه، بعد أن كان ضمن طبقة “شيوخ أم العشائر” كما أطلق عليهم الرئيس السابق صدام حسين.
وبموجب الموروث العشائري، الذي منحته الدولة ” صفة القانون” قضى عدد من المسؤولين العراقيين نحبهم بعيدًا عن متطلّبات العدالة ومعايير القضاء الدولية، فتحت اسم “الصولة الجهادية” وقطع ” العرق الخائس” من الشجرة، أي “بتر الجزء التالف” حسب التعبير العشائري، تمت تصفية الفريق أول الركن حسين كامل وأخيه صدام كامل وبعض أفراد عوائلهما، في حين كان المغدور قد تسلّم عفوًا رسميًا من قيادة الدولة بسبب انشقاقه[9].
هكذا غدت الدولة وهي تعفو غير مسؤولة عن مصرعهما إزاء “العرف العشائري” أو “قانون العشائر”، الذي اكتسب “صفة قضائية” خاصة، و كهذا خضعت الدولة لمنطق العشيرة و تلك مفارقة حقيقية بدلًا من أن تخضع العشيرة لمؤسسة الدولة.[10]
وبودّي هنا أن أذكر إن وجود بعض “المحاكم” غير الرسمية أو التمتع ببعض صـلاحياتها حتى وإن لم ينص عليها القانون، لكنها كانت جزءًا من الأمر الواقع، أو “العرف ” السائد، وإن غدت مثل هذه “المحاكم” أو ما يشبه القضاء، أقرب إلى قانون دعاوى العشائر القديم، إلاّ أنها كانت خارج القضاء قانونيًا وفعليًا، وهو ما كان يقوم به خيرالله طلفاح محافظ بغـداد ( الذي كان يطلق على نفسه اسـم والي بغداد) وكان يستثمر موقعه إضافة إلى كونه خال الرئيس السابق، حيث كان يفصل في النزاعات المتعلّقة بالأحوال الشـخصية وبموجب قانون دعاوى العشائر الملغي، كما كان ينظر في الدعاوى المدنية والجزائية، حيث يأمر مركز شرطة بالحبس أو الحجـز على المـواطنين ويصادر الملكيـة أو يطلب التخلّي عنـها مقابل أسـعار رمزية أو صوريّة، إلى أن ضاقت به الدولة ذرعًا، و أخذت الكثير من النوادر تُقال بشأنه، مما أدى إلى تقليص صلاحياته أو تضييق سـلطته[11].
III
سيكتشف القارئ في كتاب خدوري كمًّا هائلًا من المعلومات الغنية والتدقيقات المعمّقة في كل ما يتعلق بالعشائر وتقسيماتها وتنظيماتها وأعرافها وتقاليدها وقوانينها ومشكلاتها، بل كل ما يتعلق بالسياسة العراقية الخاصة بها منذ أواخر الدولة العثمانية وحتى نشوء المملكة العراقية وما بعدها. وتلك الخلفية التي يقدّمها الباحث هي ضرورة لا غنى عنها لفهم طبيعة ما يحصل في مجتمعنا اليوم من دور العشائر، وبالطبع فقد احتاج منه جهدًا كبيرًا ومضنيًا لإبراز الجانب الموضوعي والأكاديمي مبديًا حصافة ودقة في رسم صورة واقعية للعراق المعاصر، ولذلك سأحاول عرضها بشكل مكثّف بهدف مدّ جسر بين الماضي والحاضر.
قسّم خدوري الدراسة إلى خمسة فصول أساسية متوازنة ومحكمة، مع مقدمة تمهيدية وخاتمة مهمة، فبحث في الفصل الأول- أثر الحكم العثماني على العراق الذي استمر لفترة أربعة قرون من الزمان يوم احتل السلطان سليمان القانوني بغداد، وكانت الدولة العباسية قد انهارت على يد الغزو المغولي بقيادة هولاكو 1258، وشهدت البلاد نزاعات واحتجاجات داخلية هيمن فيها غزاة على العراق من تيمورلنك 1393 إلى الشاه اسماعيل الصفوي في 1509 حتى هيمنة العثمانيين [12].
وقد سلّط الضوء على ما عُرف بالانكشارية [13] ودورها في المؤسسات العسكرية العثمانية، خصوصًا بما له صلة بالعشائر، التي كانت مسيطرة بحكم الأمر الواقع على الأراضي التي تتمكن من الاستقرار فيها والدفاع عنها، كما توقف عند دور المماليك التي امتدّت فترة حكمهم حوالي 81 سنة حتى سيطروا على السلطة باستقلال عن السلطان الذين كانوا شكليًا جزءًا من إمبراطوريته، وحاولوا استمالة الأعيان وعلماء الدين وشيوخ العرب وأمراء الكرد [14].
وقد ساهمت الإصلاحات العثمانية في تسريع تفكيك سلطة العشائر تدرجيًا وعززت نمو بيروقراطية وطنية جنينية، استجابة لحاجات المجتمع وتلبية لتطوره وكانت تلك التطورات تحت تأثير مدحت باشا وضغوط دول وقوى أجنبية لتبني دستور لا مركزي على أساس الإدارة اللامركزية والهيئات المحلية من العناصر غير التركية.
أما الفصل الثاني فقد خصصه للخلفية العشائرية للدولة الجديدة التي هي سمة من سمات العراق المميزة منذ القدم، فالسلم كان استثناءً، أما القاعدة فهي للحرب والنزاع. وحسب دراسة لمكي الجميل يستعين بها الباحث تقول أن النظام العشائري يميل إلى الانفراط حين تبادر العشيرة إلى الاستقرار، فتتخلى عن عزلتها فتقبل الاندماج في النظام الوطني، إلّا أن العملية قد تستغرق زمنًا طويلًا وكثيرًا ما تواجه معارضة من أفراد العشيرة وسكان الحضر في الوقت نفسه [15].
وبحسب عبد الرحمن بن خلدون فإن الافتقار إلى الاستقرار في مجتمع بدوي يشكل عائقًا أمام تقدم المجتمع الحضري، كما أنه يعرقل إنضاج الظروف الاقتصادية ويعطل تدفق الثقافات التعددية، ولا حضارة دون استقرار، والتنقل البدوي هو نقيضها.
وينقسم التنظيم السياسي أو الهيكلي للعشائر إلى عدّة وحدات تبدأ من :
1- البيت، اللبنة الأساسية، (الزوج والزوجة والأبناء).
2- الفخذ – قسم فرعي من القبيلة يتألف من عدّة بيوت.
3- العشيرة- بنيان من بيوت وأفخاذ وتعمل مجالس العشيرة القانون العشائري التقليدي.
4- القبيلة – كتلة من العشائر وتكمن أهميتها في عديد رجالها الكبار ويمتلك رئيسها سلطة على رؤساء العشائر.
5 الإمارة- اتحاد قبائل عدّة سياسيًا وعسكريًا ويرأسها الأمير الذي يتمتع بسلطة عليا على تقية زعماء القبائل.
ولعلّ خصائص العشائرية أن المجتمع البدوي المنعزل في الصحراء يحتقر العمل الزراعي، ويقوم اقتصاده على الغزوات والحروب تحت عناوين الشرف والضيافة والتضامن ووفقًا لـ علي الوردي فإن عناصر ثقافة البدوي تتكون من :
1- المروءة
2- الغزو
3- العصبية [16]
وفي الفصل الثالث يبحث في ” السياسات العشائرية في مجتمع إقطاعي- بيروقراطي” ويبدأ مرحلة داود باشا(1813-1831)، وخصوصًا خلال حكم مدحت باشا ويعتبرها مرحلة إصلاحات، حيث بدأت السياسة العثمانية الاتصالات برؤساء العشائر وإقناعهم بالتعاون مع الحكومة، وهكذا تطور النظام العشائري ليصبح شكلًا من أشكال الإقطاع القائم على وهب الحكومة أراضي إلى شيخ العشيرة مباشرة، حيث تولد نظام جديد من السلطة السياسية في العراق، وهكذا انخرطت العشائر بالزراعة، وهو أمر حصل في الشمال الكردي وفي الوسط والجنوب العربي.
وحين جاء البريطانيون بعد احتلالهم للعراق ليعملوا وفقًا لاتجاهين مع العشائر:
الأول – حماية الأمن، أي ضمان أمن القوات البريطانية في التعامل مع العشائر في الريف، سواء خلال العمليات الحربية أم بعد انتهائها.
الثاني – سن قانون دعاوى العشائر استنادًا إلى خبرة بريطانيا في الهند.
ونصّ القانون على أنه ” عند حصول أي نزاع يكون فيه أحد طرفي النزاع من العشائر، فقد يحيله الضابط السياسي إلى المجلس العشائري أو محكمة عشائرية”. ويتألف المجلس أو المحكمة من شيوخ أو محكّمين يجري اختيارهم بحسب العرف العشائري؛ وما لم تكن النتائج التي توصلت إليها هذه الهيئة ظالمة بجلاء أو متباينة وحقائق القضية، فإن الضابط السياسي سيصدر الحكم متوافقًا والنتائج عمومًا.
ويكمن هدف هذه السياسة استراتيجيًا من جانب بريطانيا، الاحتفاظ بالسلطة العليا من جهة وتعزيز سلطة رؤساء العشائر الموالين لها من جهة أخرى، وبرّرت بريطانيا ذلك بأن القانون يتيح لمجتمع العشائر أن يحكم نفسه استنادًا إلى عاداته وتقاليده وتعطي رجل العشيرة عدالة يفهمها ويتقبلها كما جاء في أحد تقاريرها السنوية إلى عصبة الأمم بخصوص انتدابها على العراق.
أما الهدف المباشر (التكتيكي) فهو تخفيض نفقات حماية القوات البريطانية في المناطق الريفية والمساهمة في جباية الضرائب المطلوبة، والعمل على استمالة بعض رؤساء العشائر العربية والكردية بمنحهم امتيازات واسعة ووضع أموال تحت تصرفهم، وخصوصًا بعد انتهاء ثورة العشرين العراقية (30 حزيران/يوينو/1920) علمًا بأن العديد من رؤساء العشائر قد اعترض على السياسة البريطانية في الفرات الأوسط وكردستان، حيث واجهت السلطات البريطانية ذلك بالقوة [17].
وكانت فترة حكم الملك فيصل الأول 1921-1933 اختبارًا حقيقيًا لدولة ناشئة، وعلى الرغم من نظرته الحداثية، لكن خلفيته القبلية جعلته يوازن بين القوى في الريف والمدينة، إضافة إلى البادية مثلما حاول الموازنة بين المصالح الوطنية العليا بين بعض وجهات نظر المعارضة والمصالح البريطانية ، لكنه أدرك غياب الوحدة الوطنية والمجتمعية في مجتمع عانى طويلًا من الفقر والجهل والأمية والتخلّف والاستبداد، وعبّر عن ذلك بمذكّرته الشهيرة حين قال” إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وذلك هو الوحدة الفكرية والملّية والدينية…” وأضاف بمرارة قوله ” وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية، خالية من أي فكرة وطنية، مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة…”[18]
وبخصوص العشائر عمل الملك فيصل الأول على ثلاث محاور:
الأول- الاعتماد على النفوذ البريطاني وشيوخ العشائر الموالين.
الثاني – استخدام نفوذه الشخصي المباشر بالاتصال برؤساء العشائر وهو اتجاه لم يحظَ بارتياح البريطانيين.
الثالث- تعيين أصدقائه الخلّص في إدارة أحوال الألوية (المحافظات ) وكان هؤلاء على احتكاك بالقضايا العشائرية اليومية ولعبوا دورًا كبيرًا في تعزيز سلطة الدولة.
وخصص خدوري الفصل الرابع لحيازة الأراضي، أي للخلفية الاقتصادية للدولة وشملت الأراضي 7 فئات أساسية، والتي حدّدت وقت الحكم العثماني وهي:
1- أراضي الولاة والأمراء والملاكون والملك
2- أراضي الملكية العامة التي تملكها الدولة – الأراضي الأميرية
3- أراضي تمنحها الدولة لكبار الضباط والمسؤولين تحت عنوان ” حق التصرف” أو ” الانتفاع” أو ما يسمى ” حق الرقبة” وهي ملكية كاملة مع سند ملكية.
4- أراضي الوقف لأغراض خيرية أو دينية
5- أراضي مرسومة لأغراض عامة كالطرق والأسواق أو المتروكة.
6- أراضي ” الديرة” المزروعة من العشائر، أي حق الانتفاع والدفاع عنها.
7- أراضي غير مزروعة أو ما تسمى بالموات
وقد حوّل البريطانيون أراضي العشائر إلى ملكيات سائبة للشيوخ والملاكين، وهكذا وجد الفلاحون أنفسهم أقنانًا، وصدر قانون تسوية الأراضي رقم 51 لسنة 1933 الذي حدد حقوق وواجبات المزارعين؛ ويقول خدوري إن نظام الأراضي هو المسؤول عن الفوارق الكبرى في الدخل وعدم وجود سوق داخلية تتوسع وغياب سياسة زراعية عقلانية، لاسيّما في ظل عدم إصلاح الراضي، وبذلك فإن أموال النفط لن تفعل شيئًا لرفع مستوى المعيشة. وينقسم المعنيون بالأراضي إلى أربعة أقسام هم:
1- الإقطاعيون وأصحاب الأراضي
2- صغار أصحاب الأراضي
3- السركال أو الوكيل (أصل الكلمة فارسي أي سرجار ومعناه رئيس الشغيلة) وهو يقوم مقام الشيخ في حالة غيابه ويتمتع بسلطاته.
4- الفلاحون
لقد عملت بريطانيا حتى قبل استكمال احتلالها للعراق على كسب بعض رؤساء العشائر فأصدرت “نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية” وزاد هذا الدور بعد فشل ثورة العشرين من خلال منحهم امتيازات سياسية واقتصادية وشبه قانونية أو قضائية، وساهم ذلك سلبيًا في التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العراق لاحقًا، وحصلت في المجتمع العراقي تشوّهات كبيرة، فقد تكونت بسرعة فائقة طبقة جديدة من كبار الملّاكين، وفقًا لتوصية الخبير البريطاني” داوسن” عام 1929 وعلى غرار ما فعل البريطانيون في الهند، فقد تم وضع قانونين الاول باسم قانون ” اللّزمة”، أي تلزيم ” إعطاء حق إمتياز إستثمار الاراضي لكبار الملاكين ” وقانون تسوية حقوق الاراضي”، الذي عُرف بقانون التسوية.
وبذلك نشأت قاعدة اجتماعية من كبار ملّاكي الأرض موالية للحكم، وتحوّلت الأراضي الأميرية التي كان للعشائر حق التصّرف فيها ” أي زراعتها” باعتبارها حيازة مشتركة وتدفع ريعها ” الأرض” أو ” خراجها” إلى الدولة، إلى مقاطعات للإقطاعيين الجدد من شيوخ العشائر وتجار المدن وكبار موظفي الدولة البيروقراطين [19]، وهو ما كانت المس بيل قد اقترحته على حكومتها بشأن حكم العراق، بإيلاء اهتمام كبير لشيوخ العشائر[20].
وفي الفصل الخامس يبحث في ” الجماعات السياسية في المدينة” فيتناول العثمانيين العراقيين أي من أصول تركية ويخصص جدولًا حول العائلات العراقية والأشخاص الأبرز من أصول تركية، والتي احتلت مواقع إدارية في الدولة وهي عبارة عن 15 عائلة وفروعها، ثم ينتقل إلى المؤسسة الدينية التي تتوزع على بعض الأسر الدينية المحدودة عبر التعيين السياسي أو الوراثة، وتأسست لها هيكلية باسم ” النقابة” وهذه استمرت من العباسيين إلى العثمانيين وحصل النقباء على امتيازات، ليأتي بعدها المفتون (قاضي القضاة) وهؤلاء يعددهم خدوري مثل : العطا والحيدري والجميل والكيخيا والخطيب والمفتي والقيسي والرحبي والطبقجلي والزهاوي، ويرشحهم الوالي ويحوزون على رضا شيخ الإسلام في اسطنبول.
ولم تتدخل السلطة العثمانية في تحديدات الطائفة الشيعية، وذلك وفقًا لقواعد الحوزة، علمًا بأن هناك فرامين سلطانية تمنحها الدولة لمن يحق لهم الخدمة في الحضرات العلوية والحسينية والعباسية والكاظمية والعسكرية وغيرها، أما نظام الحوزة فيتم عبر الدراسة الحوزوية : من دراسة المقدمات والبحث الخارج، ليتم الحصول على لقب “حجة الإسلام” ثم لقب “آية الله”، وهي تتموّل ذاتيًا مما يسمى بالحقوق.
وارتبط العديد من شيوخ العشائر، وخصوصًا في الفرات الأوسط والجنوب بالمؤسسة الدينية الشيعية وأدّوا دورًا كبيرًا في ثورة العشرين، وتعودُ دخول علماء الدين إلى الخمس (سهم الإمام) أو الزكاة، إضافة إلى الهبات التي يحصلون عليها.
ويضع جدولًا آخر لبعض الأسر البارزة في المؤسسة الدينية الشيعية والسنية، وينتقل إلى مجتمع التجارة فيستعرض دور المجموعات الثقافية التي يسميها بـ ” الأقليات” مثل اليهود والمسيحيين، إضافة إلى عدد من الشيعة من أصول فارسية، ويعود بعدها ليبحث في المؤسسة البيروقراطية والمواجهات مع الدولة العراقية، فيذكر في الجدول 30 أهم الحركات لغاية العام 1948.
في الختام أقول إن كتاب وليد خدوري هو رفد جديد لعلم الاجتماع السياسي، وإضافة حقيقية للمكتبة العراقية والعربية الخاصة بالعشائر ودورها، وهو تفصيل دقيق لتضاريسها في خريطة سياسية أكبر للسياسات العراقية المعاصرة، والكتاب خزين معرفي لا غنى عنه للباحثين والدارسين للظاهرة العشائرية اليوم، لأنه يوصلهم بالجذور الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للعشائرية التي تتجلّى اليوم كإحدى الظواهر الموازية لظاهرة الدولة ومنافسًا لسلطاتها.
(*) أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفًا في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.
[1] عمل د. وليد خدّوري مديرًا لقسم الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت – 1970). ثم انتقل للتدريس في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، وشغِل منصب مدير الإعلام في منظمة الأقطار العربية المصدّرة للنفط (الكويت)، ومديرًا ثمّ رئيسًا لتحرير نشرة ميدل إيست ايكونوميك سرفي (ميس) في نيقوسيا (قبرص) ثمّ رئيسًا للقسم الاقتصادي في جريدة الحياة بيروت. من أبرز مؤلفاته “بترول الشرق الأوسط – الأبعاد الجيوسياسية”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، إضافة إلى كتابين آخرين قام بتحريرهما عن “غاز شرق المتوسط”، بيروت 2016 إلى 2019. وحرّر الأعمال الكاملة لعبدالله الطريقي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999.
[2] – في سبعينيات القرن الماضي اتخذ النظام السابق قرارًا بمنع المواطنين الإفصاح عن ألقابهم في خطوة كان الاعتقاد السائد حينها أنها ستسهم في تقليص تأثير الانتماء العشائري وتؤدي إلى انحساره بتغليب الانتماء الوطني. وشن حزب البعث حملة شديدة ضد العشائرية. واستمر الحال على الرغم من بعض التساهل هنا وهناك لاعتبارات خاصة، لكنه أصدر قانونا برقم 34 لسنة 1981 نصّ فيه على ” أنزال عقوبة لا تقل عن 20 عامًا سجنًا لكل من احتكم خارج منظومة القضاء الرسمية في الدولة” وكانت العقوبة تطال طرفي النزاع والقاضي في المحاكمة العشائرية. كما اعتمد في قرار مجلس قيادة الثورة الصادر في 24 آذار (مارس) 1997 عقوبة لا تقل عن 3 سنوات لكل من ادعى بمطالب عشائرية.
[3] – المقصود ” نظام النزاعات العشائرية والمدنية” Tribal Criminal and Civil Diputes Regulation والذي ترجمه حنا بطاطو” قانون النزاعات العشائرية “، الذي شرّعه البريطانيون واعتمدوه في شباط (فبراير) 1916، أي قبل سن القانون الأساسي بتسع سنوات، وحتى قبل استكمال احتلال العراق (1914-1918) وقد اصطلح عليه عراقيًا وتم تداوله باسم “قانون دعاوى العشائر”.
[4] – انظر: نص الدستور العراقي الدائم، موقع مجلس النواب العراقي، نص المادة 45 الفقرة أولًا – تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها واستقلاليتها، بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها، وينظم ذلك القانون.
[5] – أطلق بليغ أبو كلل من المجلس الإسلامي الأعلى سابقًا (تيار الحكمة حاليًا) وصفًا سياسيًا على د. حنان الفتلاوي، تم تفسيره بالإساءة الأخلاقية، وأقامت النائبة دعوى قضائية ضده، لكن القضاء لم يحسم الأمر، فلجأت إلى العشيرة التي حلتها بجلسة عشائرية، وتردد أن الاتفاق تم على دفع غرامات واعتذار علني بثته إحدى القنوات الفضائية التابعة لدولة القانون التي تنتمي إليها النائبة الفتلاوي، وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
[6] – يعتبر مجيد خدّوري من أبرز المؤرخين العراقيين، وقد ولد في مدينة الموصل في العام 1909 وتوفي في العام 2007، وقد استقر فعليًا في واشنطن منذ العام 1947. وكان قد أنهى دراسته الثانوية في العراق والجامعية في بيروت (الجامعة الأمريكية) وأكمل دراسته العليا في جامعة شيكاغو وقد عاد إلى بغداد وعمل أستاذًا في كلية الحقوق، وشارك في الوفد العراقي إلى مؤتمر سان فرانسيسكو التحضيري الذي وضع اللمسات الأخيرة لميثاق الأمم المتحدة والذي انعقد في 25-26 نيسان (ابريل) 1943 بحضور ممثلين عن 44 دولة. وتقديرًا لجهوده اختير في العام 1963 لينضم إلى المجلس العلمي العراقي. وخلال حياته الأكاديمية صدر له أكثر من 35 كتابًا باللغتين العربية والانكليزية، وبادر لتأسيس كليّة الدراسات الدولية العليا (سايس) التابعة لجامعة جونز هوبكنز ومقرّها في واشنطن، حيث كان أستاذًا للدراسات الدولية المتقدمة وبرنامج الشرق الأوسط الذي أصبح مديرًا له. وعمل في جامعات أمريكية عديدة منها جونز هوبكنز وهارفارد وشيكاغو وإنديانا. كما شغِل منصب رئيس الجامعة الليبية في طرابلس، ومن أهم كتبه: العراق الجمهوري، والعراق الاشتراكي، والعراق الملكي (المستقل)، والحرب والسلام في قانون الإسلام، وحرب الخليج : النشأة والآثار للصراع العراقي – الإيراني، والحرب في الخليج: الصراع العراقي- الكويتي (مع ادموند غريب) وآخر كتبه :المفهوم الإسلامي للعدالة.
[7] – قارن: عباس العزاوي – عشائر العراق، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 4 أجزاء، 2005. وكتاب حنا بطاطو: “العراق”، ترجمة عفيف الرزاز، 3 أجزاء، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1990.
[8] – وقبل ذلك ألغي قانون دعاوى العشائر بالمرسوم الجمهوري رقم 56 لسنة 1958.
انظر: جريدة الوقائع (العراقية) الرسمية، في 3/8/1958.
[9] – انظر: عبد الحسين شعبان – مخطوطة كتاب بعنوان: لمحات من النظـام القضائـي في العـراق، قيد الإنجاز.
[10] – كان صهرا الرئيس العراقي صدام حسين قد انشقّا عن الحكم في شهر آب (أغسطس) 1995، وعادا إلى العراق في شباط (فبراير) 1996 بعد صدور عفو عنهما، ولكنهما قتلا بحكم “العرف العشائري” كما بررت السلطات في حـينها وعادت و قالت إنهما “شهيدا الغضب” وتلك واحدة من مفارقات النظام السابق.
أنظر: شعبان، عبد الحسين – الإنسان هو الأصل، مدخل إلى القانون الدولي الإنساني و حقوق الإنسان ،مركز القاهرة- القسم الخاص باستقلال القضاء، القاهرة، 2002.
[11] – انظر مقابلة خاصة مع صلاح عمر العلي، القاهرة، نيسان(إبريل)، 1991، واستعادها الباحث للتوثيق في لندن 2002-2003، وفي بيروت، 2006.
[12] – حكم العثمانيون العراق منذ العام 1534 ولغاية 1914 حيث بداية الاحتلال البريطاني للعراق.
[13] – حكمت الانكشارية في المرحلة العثمانية العراق من العام 1639 ولغاية 1750 وهي قوات نظامية في الجيش العثماني، وهم اسميًا تحت أمرة الوالي، إلّا أنهم سيطروا على الوضع أي على جيش الولاية والوالي نفسه وكانوا يعينون ويعزلون الولاة، وقد استعانوا بالمرتزقة وبأمراء وشيوخ العشائر الكردية بشكل خاص وبعض العشائر العربية، إضافة إلى رجال قدّمهم المماليك، كما يقول عباس العزاوي في كتابه” تاريخ العراق”
[14] – انظر: عباس العزاوي- تاريخ العراق بين احتلالين، الدار العربية للموسوعات، ج4، ط1، 2004، ص 274-279.
[15] – انظر: مكي الجميل- البدو والبداوة في البلاد العربية، مركز تنمية المجتمع فى العالم العربى, 1962، ص 11-12.
[16] – انظر: علي الوردي – دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، دار الوراق، بيروت – لندن، 2007، ص 113.
قارن: محمد عابد الجابري- التراث والحداثة (دراسات ومناقشات)، ط 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2020، ص 344، ويحدّد الجابري ثوابت العقل السياسي العربي، وهي القبيلة والغنيمة والعقيدة.فالقبيلة تعبيرٌ عن العصيبة العشائرية في بعدها السياسي والغنيمة تعبير عن البعد الاقتصادي، أما العقيدة فتتعلق بالبعد الفكري والآيديولوجي
[17] – ويمكن التوقف عند ثورة النجف 1918 وثورة الشيخ محمود الحفيد (السليمانية) 1919.
[18] – انظر: مذكرة الملك فيصل الأول
قارن :عبد الكريم الأزري – مشكلة الحكم في العراق نشر خاص، لندن، 1991.
[19] – يقول زكي خيري في مذكراته أن ياسين الهاشمي ” الذي يحلو لبعض القوميّن اليمينيّين، تسميته على حد تعبيره ببسمارك العرب، نصّب 36 مضخة ليستولي على أراضي العشائر في قضاء سامراء، وهكذا ساهمت البيروقراطية في نهب أراضي الفلاحين ونهب الريع العائد إلى الدولة في الآن ذاته. انظر: زكي خيري – صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم، مركز الحرف، غوتنمبرغ، جزءان، 1996، ج2، ص 77.
[20] – حين شكل عبد الرحمن النقيب أول حكومة عراقية العام 1920 كان أربعة من مجموع 12 وزيرًا من شيوخ العشائر، علمًا بأن مجالس النواب والأعيان (العراقية) على نحو أربعة عقود من الزمان وفي كل فترة الحكم الملكي احتوت على “كوتات” خاصة عمليًا لبعض رؤساء العشائر.