كردستان العراق… ثلاثة وجوه للكارثة
إقليم كردستان العراق، الدولة غير المعلنة التي يعيش مواطنوها الكارثة بأشكال متعددة، يراهم العراقي من خارج الإقليم «شعبا» مرفها، أو على الأقل يعيش نوعا من الراحة والاستقرار وتوفر الخدمات والأمن، بينما يرى الكرد أنفسهم وهم يعيشون وجوها متعددة للكارثة، فالكردي البسيط اليوم، والشتاء القارص على الأبواب، يجاهد في معارك ضارية في سبيل الحصول على لقمة عيش، ووقود للتدفئة، وسقف يحميه من غائلة القسوة التي يعيشها. في غضون ذلك تداخلت ثلاثة وجوه لكارثة هذه الحياة لتروي جزءا من مأساة كردستان المضحكة المبكية.
في الوجه الأول، نقرأ ونسمع في نشرات الأخبار تفاصيل زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لأربيل عاصمة كردستان العراق، حيث فرش له السجاد الأحمر، وأقيمت له إجراءات استقبال بروتوكولية كأي رئيس ضيف يستقبله رئيس وزراء كردستان مسرور بارزاني، ولا توجد في المشهد أي مظاهر تشير إلى أن ما يحدث هو زيارة رئيس حكومة البلد لمحافظة من محافظاته، والانكي من ذلك، أن الكاظمي وهو القائد العام للقوات المسلحة في العراق، ذهب ليخوض جولة مفاوضات مع حكومة الإقليم لتنسيق الجهود بين القوات المسلحة العراقية والبيشمركة، بصفتها «جيش كردستان» للتعاون في عمليات مواجهة هجمات فلول تنظيم الدولة «داعش».
طبقة سياسية فاسدة بكردها وشيعتها وسنتها، يجتمعون لتقاسم الكعكة مرة أخرى في خطوة لتشكيل الحكومة المنتظرة، لتكرر المأساة العراقية فصولها
قوات البيشمركة الكردية التي يُصرف عليها المليارات من الخزينة الاتحادية، تمنع مشاركة مقاتليها في مواجهة هجمات فلول تنظيم الدولة (داعش) إلا إذا كانت هذه الهجمات موجهة لمدن الإقليم، أي أن هذه القوات لا تشترك في أي جهد قتالي تحت المظلة الاتحادية خارج حدود الإقليم، لذلك توجه رئيس الحكومة العراقية إلى أربيل يوم 8 كانون الأول/ديسمبر الجاري وهو يرتدى بدلة عسكرية «كاكية» في رسالة مفادها أن زيارته لغرض عسكري بحت، واصطحب معه وزير الدفاع جمعة عناد، ورئيس أركان الجيش عبد الأمير يار الله، إضافة إلى قيادات أخرى بينها نائب قائد العمليات المشتركة، ورئيس جهاز مكافحة الإرهاب، ووكيل وزارة الداخلية لشؤون الاستخبارات، وعدد من القيادات الأمنية، وكأي مفاوضات بين «دولتين» تم التنسيق بين «العراق» و»كردستان» لتنطلق عمليات مواجهة وتصفية فلول تنظيم الدولة في المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل في محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى، بعدما تحولت مدن وقرى كاملة إلى مناطق رخوة مفتوحة لفلول التنظيم الإرهابي يسرح ويمرح فيها، ويقتل ويهجر السكان المغلوبين على أمرهم نتيجة صراعات الساسة.
الوجه الثاني لمأساة كردستان العراق، تمثل في استمرار التوتر في مدن السليمانية وحلبجة، وبات الموقف متوترا مثل جمر تحت رماد الكارثة، يمكن أن يؤجج حريقا في أي لحظة، فتظاهرات طلبة الجامعات والمعاهد التي انطلقت يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في محافظة السليمانية، والتي قمعتها قوات «الأسايش» المعنية بالأمن الداخلي، بإطلاق الغاز المسيل للدموع، والاعتداء بالضرب على المتظاهرين، في محاولة لتفريق الطلبة الذين قطعوا عدداً من الطرق في مدينة السليمانية، ما تسبب في سقوط عشرة مصابين، من بينهم طالبات في جامعة السليمانية. واتسعت رقعة احتجاجات الطلبة في الإقليم لتشمل مدناً أخرى من بينها أربيل، وطالب المتظاهرون فيها سلطات الإقليم بإعادة صرف المنحة البالغة 100 ألف دينار (ما يعادل 68 دولاراً) شهرياً للطلبة الذين يسكنون خارج مراكز المدن، و60 ألف دينار (40 دولاراً) للساكنين في المدن، معبّرين عن استنكارهم لاعتداء قوات الأمن في الإقليم على متظاهري السليمانية.
وما لبثت أن خفت حدة التظاهرات نتيجة الوعود التي أطلقتها حكومة الإقليم، إذ وافق مجلس وزراء إقليم كردستان في أربيل نتيجة ضغط الشارع، على إعادة مخصصات الطلبة المتوقفة منذ عام 2014، كما أعلنت حكومة الإقليم استعدادها الكامل لتلبية مطالب المحتجين المالية والخدمية، لكن الموقف عاد للتوتر مجددا نتيجة كشف المماطلة التي مارستها حكومة بارزاني، التي لم تنفذ تعهداتها، ما دفع طلبة جامعات السليمانية وكوية وكرميان ورانية إلى تجديد تظاهراتهم يوم 5 ديسمبر الجاري مطالبين بمخصصاتهم المالية البائسة التي يمكن أن تعينهم على مواجهة مطاليب الحياة والدراسة، على أمل تجدد الضغط على الطبقة السياسية في السليمانية وأربيل وإجبارها على الالتزام بتعهداتها.
ولاكتمال المأساة لا بد من السخرية المرة التي تمثلت في الوجه الثالث لمأساة كردستان العراق، إذ كشف تحقيق صحافي استقصائي نشره الصحافي الأمريكي زاك كوبلين في مجلة « The American Prospect» يوم 7 ديسمبر الجاري كشف فيه ملف فساد في الولايات المتحدة أبطاله شخصيات بارزة من آل بارزاني. فبينما يتظاهر طلبة جامعات كردستان من أجل بضعة دولارات هي مخصصاتهم الجامعية، التي تعينهم على المعيشة، ينفق رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني قرابة عشرين مليون دولار من المال الفاسد في استثمارات عقارية في الولايات المتحدة. ووصف زاك كوبلين في تقريره الصحافي إقليم كردستان العراق وحكومته بأنه «إقليم شبه مستقل في شمال العراق، كردستان ملكية وراثية في كل شيء ما عدا الاسم، وقد هيمنت عليها عائلة بارزاني لعقود، إذ استغل رئيس الوزراء الكردي مسرور بارزاني سلطته لمهاجمة وتعذيب وقتل منتقديه».
وقد وصف أمر اكتشاف الفضيحة المالية الأخيرة بأنه مصادفة كشفت جزءا صغيرا من حجم المال الفاسد الذي تستثمره عائلة بارزاني في الولايات المتحدة، إذ يقول كاتب التقرير؛ «تبلغ قيمة المبنى الزجاجي الذي يضم صيدلية عملاقة في قلب ساوث بيتش الجذاب في ميامي 18.3 مليون دولار، وفي عام 2019 وبناءً على سجلات العقارات في ميامي، نسبت الصحافة المحلية شراء المبنى لشركة عقارية مقرها فرجينيا، لكن من قام بالشراء الفعلي، هو شركة وهمية مجهولة في ديلاوير. وفي وثائق التأسيس لفرع فلوريدا لشركة ديلاوير هذه، تم العثور على اسم المالك الحقيقي للمبنى: مسرور بارزاني، رئيس وزراء كردستان العراق».
ويشير المقال إلى مصدر ثروة آل بارزاني الممسكين بحكومة الإقليم بقوله «من خلال النفط والفساد، جمع البرزانيون، كميات هائلة من الثروة، على سبيل المثال، استثمار عقاري في كردستان، مملوك لشركة مرتبطة سراً بأحد إخوة رئيس الوزراء، قُدرت قيمته بـ1.27 مليار دولار. مثل الطغاة الآخرين، تحول البرزانيون إلى ملاذات سرية، من نوع الأماكن التي كشفتها أوراق بنما وباندورا، لإخفاء أموالهم». وكشف التحقيق الاستقصائي المنشور في مجلة «The American Prospect» أن آل بارزاني يمتلكون في الولايات المتحدة ممتلكات سرية كثيرة، والتي تشمل قصورا في كاليفورنيا وفرجينيا، حيث تم كشفهم وهم يخفون الأموال في أمريكا أربع مرات قبل ذلك، إذ استثمر البارزانيون أكثر من 75 مليون دولار في شراء أربعة عقارات، ومن المرجح أن هذه الاستثمارات لا تمثل إلا جزءا صغيرا فقط من الثروة السرية للعائلة في الولايات المتحدة. رد حكومة مسرور بارزاني على فضيحة الاستثمارات الأمريكية، جاء على الطريقة المعهودة، إذ نفت الأمر جملة وتفصيلا، وأصدرت حكومة الإقليم بيانا رسميا وصفت فيه التقرير الصحافي بأنه «ملفّق» ونفت في بيانها الصادر يوم 11 ديسمبرالجاري «صحة الادعاءات المتداولة من قبل البعض بشأن مزاعم شراء رئيس الحكومة عقارا في الولايات المتحدة بمبلغ ضخم، واصفاً تلك الاتهامات بـ»الملفقة كجزء من حملة الافتراء والتضليل». ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل أشار البيان إلى ضرورة «توضيح مجموعة من الحقائق بشأن هذه الاتهامات الملفقة» مبيناً أن «كاتب التقرير ولتلفيق أكاذيبه استند إلى عقد يزعم أنه يحمل توقيع رئيس حكومة إقليم كردستان، لكن هذا التوقيع لا يمت لرئيس حكومة الإقليم بِصلة». ومضى البيان بالقول: «بعد المتابعة والتحقيق، تبين لنا أن كاتب التقرير على صلة بعائلة نائب كردي سابق في البرلمان العراقي، وهو مواطن أمريكي عُرف بمواقفه المعادية لشعب كردستان، ونتيجة لمواقفه وأفعاله الخائنة (ببيع نفسه) عاقبه أهالي كردستان الوطنيين، ولم يمنحوه أصواتهم في الانتخابات النيابية الأخيرة».
في نهاية المشهد المأساوي لا يمكننا إلا أن نتفرج على الطبقة السياسية الفاسدة؛ بكردها وشيعتها وسنتها، ببدالتهم الفاخرة، وضحكاتهم الصفراء وهم يجتمعون لتقاسم الكعكة مرة اخرى في خطوة لتشكيل الحكومة المنتظرة. لتكرر المأساة العراقية فصولها.
كاتب عراقي