في ضيافة العشوائيات البغدادية وسكانها الرائعين
علاء اللامي*
أمضيت عدة أيام في ضيافة قريب لي يسكن في أحد الأحياء العشوائية شرقي محافظة بغداد/ بمنطقة تدعى العبيدي، قبل أن أسافر إلى أهلي في الجنوب. يضم هذا الحي آلاف المساكن، وكنت أتوقع أن أجد حياً عشوائيا مزريا بأكواخ من الصفيح، تملأ طرقاته وساحاته القمامة والقاذورات، كما اعتدنا أن نرى في الصور التي ينشرها الإعلام، وهي موجودة فعلا في بعض المناطق. ولكني -هذه المرة – وجدت حيا عاديا بشوارع وأزقة مستقيمة ونظيفة نسبيا، وبنايات من طابق وطابقين، ما يعني أن الأحياء العشوائية ليست سواء من حيث النوع، ولكنها سواء من حيث المعاناة من التهديد المستمر لساكنيها بالإزالة وانعدام البنية التحتية والنظرة التمييزية والمنحازة ضدهم.
إن عشرات الآلاف من العراقيين البسطاء الذين يسكنون هذا الحي غالبيتهم من مهجري تمرد داعش، وخاصة من قرى وبلدات محافظة ديالى ومن محافظات أخرى. وقيل لي إن هذه المنطقة كانت أراض زراعية في عهد النظام السابق وإن جزءا منها كان يستغله ابن مسؤول كبير كمزرعة لتربية الأبقار. وبعد الاحتلال، استولى اشخاص من محازبي النظام الجديد على هذه الأراضي وادعى احدهم بانه يملك عقودا زراعية بملكيتها أو استئجارها من الدولة واخذوا يقسمونها الى قطع سكنية صغيرة ويبيعونها على المواطنين المحتاجين والمشردين الذين فقدوا مساكنهم، غير أن دوائر الدولة المختصة ظلت ترفض تمليكهم مساكنهم، وتهملهم تماما، وتهددهم بين وقت وآخر بطردهم وتهديم مساكنهم، رغم انهم يملكون سندات تمليك موقعة من قبل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وقد شاهدت نموذجا من هذه السندات ذات اللون الأصفر بعيني، وكانت تحمل أرقاما وتواريخ، وموقعة بشكل غير رسمي باسم “أخوكم نوري المالكي”، وقد وزعها على السكان محمود الحسن، القيادي في دولة القانون، والمستشار القانوني للمالكي، خلال الموسم الانتخابي الأسبق، وحين راجع السكان الدوائر الرسمية لاستكمال إجراءات التمليك سخر منهم الموظفون وقالوا لهم “بلّوها واشربوا مايها“!
لقد اعتمد السكان في هذا الحي على أنفسهم في تدبير أمورهم، وإقامة بنية الحي التحتية البسيطة؛ وقد حكى لي بعضهم كيف أنهم، وبعد أن فشلت مساعيهم مع دوائر الدولة لتزويد حيِّهم بالمجاري والمرافق الأخرى، وبعد أن أصبحت رائحة حيِّهم لا تطاق، أطلقوا حملة لجمع تبرعات من السكان الفقراء أصلا، وأنجزوا بها وبجهود شبابهم مدَّ شبكة مجاري خاصة بالحي. ولكن بقيت مشكلة الأزبال التي تتراكم في ساحات قريبة وبعيدة عن المساكن، فالبلدية الأقرب إليهم لا تهتم بهذا الشأن، وسياراتها لا تمر إلا نادرا وبجهود فردية وأحيانا مقابل بعض المال.
في المحافظات يحدث الأمر نفسه، فذوو الأيادي الطويلة القذرة، كما يسمونهم في العراق، يستولون على أراض زراعية ثم يستغلون حاجة الناس الى السكن فيبيعونها كقطع أراض سكنية بالتواطؤ مع الموظفين الفاسدين في دوائر الدولة. وقد شهدت مشكلة من هذا النوع، طرحها مواطنون من محافظة كربلاء في التلفزيون الحكومي؛ وشكوا من أنهم اشتروا قطعا سكنية واستلموا سندات ملكيتها وحصلوا على رُخص بناء رسمية من الدولة وبنوا مساكنهم منذ عدة سنوات وهم يعيشون فيها، ولكن الدولة استيقظت ذات يوم وأخبرتهم بأنهم متجاوزون، يسكنون في أراض هي ملك للدولة وعليهم الرحيل. وبعد إبراز مستمسكاتهم قيل لهم أنها ليست أصولية وفيها ثغرات! ثم، وبعد جدالات وأخذ ورد قررت المحافظة أن بإمكان الساكنين ان يشتروا هذه القطع السكنية مجددا من الدولة: أي أن المواطن الذي اشترى الأرض بعشرات الملايين من الدنانير عليه ان يشتريها مرة ثانية بعشرات الملايين فمن يقدر على ذلك؟
مشكلة العشوائيات في العراق مشكلة حقيقية وكبيرة وتعد بآلاف الأحياء والتجمعات. وقد “كشفت وزارة التخطيط عن وجود قرابة 4000 مجمع عشوائي في العراق ربعها في العاصمة بغداد”، كما قال المتحدث باسم الوزارة في تصريح له بتاريخ 2021-08-19، وأن “هناك ما يقارب 120 ألف وحدة سكنية تقع ضمن مسمى العشوائيات في بغداد” كما قال أمين العاصمة علاء معن في تصريح له بتاريخ 1 أيلول 2021. فيما يذهب الكتاب عمر الجفال الى أن عدد المساكن العشوائية ببغداد فقط هو 136689 مسكنا، يسكنها حوالي مليونا شخص. وهذه نتيجة متوقعة للنمو السكاني المفرط والذي لا تهتم به الدولة، حيث قفز عدد السكان من عشرين مليون قبل ثلاثة عقود إلى أربعين مليون، والزيادة تقدر بمليون مواطن سنويا أي عشرة ملايين كل عقد، ونتيجة أيضا لإهمال الدولة أو غيابها وعدم بناء وحدات سكنية لائقة ومعتدلة الأسعار للناس؛ فماذا يفعل الناس في هذه الحالة لسد حاجتهم للمساكن والبنى التحتية اللائقة بالبشر؟ هل يعيشون في الشوارع ويستسلمون لقدرهم البائس؟ أعرف عائلة بغدادية معرفة شخصية، وكنت في ضيافتها أيضا وهم في منطقة بغدادية راقية نسبيا، وبعيدا عن العشوائيات، في هذه العائلة تعيش ثلاثة أجيال بمنزل واحد مساحة 150 مترا مربعا، ويضم حتى الآن ثلاثة عوائل متفرعة، وهناك شابان من شبان العائلة من الجيل الثالث ينتظران الزواج!
الأكيد، والمنطقي أن الناس في حال غياب أو اختطاف الدولة من قبل عصابات أو محتلين أجانب، سيبادرون ليحلوا محل الدولة الغائبة أو المُغيَّبة ويكونوا هم الدولة مؤقتا واضطراريا.. وبانتظار أن يحل الناس محل الدولة المشوهة التابعة الفاشلة رسميا ودائما عبر مجالسهم وهيئاتهم التمثيلية الديموقراطية الحقيقية سيظلون يدافعون عن أنفسهم ويجهدون لكي يعيشوا في ظروف إنسانية أو قريبة من الإنسانية.
إن حل هذه المشكلة والمأساة الإنسانية لا تكون بالطرق الشعبوية وعبر المتاجرة والمزايدات الانتخابية؛ فتارة يحركون ملف العشوائيات وأخرى يحيلونه إلى ثلاجات البرلمان، بل بوضع برنامج عملي وقانوني شامل وعميق يبدأ بتملك الساكنين لمساكنهم التي يسكنونها منذ سنوات في أحياء منتظمة كالحي الذي ذكرته في بغداد وببناء وحدات سكنية كافية وتوزيعها بالأقساط على الناس قبل إخلاء مناطقهم إن كانت غير لائقة للسكن بيئيا أو أمنيا.
1-الصور الخمس المرفقة بالمنشور ملتقطة من الحي الذي تحدثت عنه في هذه المقالة ومقترباته. رابط لمشاهدة الصور على صفحة الكاتب على الفيسبوك:
https://www.facebook.com/allamialaa
2- رابط يحيل إلى تقرير إخباري حول تأجيل مناقشة قانون العشوائيات مجددا في البرلمان العراقي: