مسلّة حمورابي في مدخل سفارة العراق بموسكو
أ.د. ضياء نافع
يا لها من مفاجأة جميلة وكبيرة جدا بالنسبة لي شخصيّا, عندما دخلت الى سفارتنا بموسكو قبل أيام , واذا بمسلّة حمورابي تقف في صدارة المدخل , وتستقبل كل من يدخل الى السفارة, مسلّة حمورابي بحجمها الطبيعي , مسلّة حمورابي (بلحمها ودمها!) . وقفت مندهشا أمامها وانا أتأمّل الملك البابلي العظيم وهو يستلم القوانين بخشوع وبرأس مرفوع ليعلنها للشعب ويقول للجميع – بلا استثاء مطلقا – بضرورة العيش حسب تلك القوانين والانظمة في مملكته العتيدة , وفهمت طبعا , هذه الاشارة ( الذكيّة!!!) لنا جميعا في هذا الظرف الدقيق في تاريخ عراقنا الحالي, وتذكرت قصة هذه المسلة عندما قرر مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الروسية ( الذي اسّسته وكنت رئيسا له ) قبل اكثر من عشر سنوات نصب تلك المسلة امام كليّة القانون في جامعة فارونش , بعد انجاز التمثال النصفي للجواهري في معهد العلاقات الدولية (2009 ) , والتمثال النصفي لأحمد بن فضلان في كليّة العلاقات الدولية ( 2011) , وتذكرت ما قاله لي عندها أحد المتحمسين الروس عندما طرحنا الفكرة – ( دراسة القانون في كل العالم تبدأ من قوانين حمورابي , ولنتذكر فقط – العين بالعين والسنّ بالسنّ !) , وتذكرت طبعا كل التعقيدات التي صاحبت انجاز وضع مسلّة حمورابي امام كليّة القانون في تلك الجامعة آنذاك , وكل الحجج التي طرحتها العناصر الروسية المضادة للمسلّة كانت مضحكة وواهية , اذ انها كانت تخفي ( الاسباب الحقيقية المخفية !!!) , وهكذا استلمنا من النحات الروسي مسلّة حمورابي ولم نكن نعرف اين سنضعها , واضطررت ان أتصل بالسفير العراقي بموسكو حينئذ الاستاذ فايق نيروي , وأحكي له الحكاية , فاقترح رأسا جلب المسلّة الى السفارة , وانه مستعدّ ان يتحمّل تكاليف نقلها من مدينة فارونيش الى موسكو , وكان هذا مخرجا من المأزق وموقفا مشرفا من السيد السفير , و هذا ما حدث فعلا , وعندها اتصلت بعمادة كليّة القانون في جامعة موسكو , واقترحت عليهم وضع المسلة في كليتهم , واستقبلني عميد الكلية بترحاب كبير, واعلن عن موافقته على هذا المقترح ( الذي تقدمت به باسم الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية عندما كنت نائبا للرئيس فيها ) ولكن الجهاز الاداري هناك لم يستوعب الهدف من تلك الهدية , واعتقدوا , اننا كنّا نريد تحقيق مكاسب محددة لنا , وبين الموافقة والتردد , لم نستطع الوصول الى اتفاق نهائي بشأن مقترحنا آنذاك , وهكذا بقيت المسلة في القاعة الكبرى بسفارتنا , ولكن السيد سفير العراق الحالي الدكتور عبد الرحمن الحسيني ارتأى اخراج المسلة من القاعة الكبرى ووضعها في مدخل السفارة لقيمتها الحضارية في تاريخ وادي الرافدين وباعتبارها الرمز الاساسي لتلك الحضارات الرائدة في تاريخ الانسانية ودور القوانين في بلورتها, وهي خطوة صحيحة جدا ورمزية وذات دلالة عميقة بكل معنى الكلمة.
وعندما تم منح جائزة نوّار لتعزيز الحوار العراقي – الروسي في دورتها الرابعة في شهر تشرين الاول / اكتوبر من هذا العام ( 2021) , توقفت ابنة المرحوم فيكتور بوسافليوك ( آخر سفير سوفيتي في بغداد وأول سفير لروسيا الاتحادية , و الحائزعلى الجائزة لهذا العام ) طويلا عند مسلة حمورابي , والتقطعت عدة صور لها , بما فيها صورتها الشخصية وهي ترتدي الميدالية الذهبية لجائزة نوّار وتمسك في يدها الشهادة التوثيقية لتلك الجائزة , وقد نشرت هذه الصور في صفحتها , وأثارت تلك الصور تعليقات وتساؤلات كثيرة , وبالذات صورتها عند المسلّة , حيث أجابت عليها وهي تؤكّد اهمية مسلة حمورابي في تاريخ الحضارات الانسانية , واشارت , ان النسخة الاصلية موجودة بمتحف اللوفر في باريس, وان الجائزة التي حصل عليها والدها المرحوم فيكتور بوسافليوك جاءت من بلد حمورابي , وعندما كنت اتابع هذه التعليقات شعرت كم كان قرار السيد السفير صائبا , وقد قلت بيني وبين نفسي , رب ضارة نافعة فعلا كما يقول المثل العربي الشهير , اذ لو تمّ وضع مسلّة حمورابي كما خططنا في البداية , لما كانت تقف الان في مكانها الصحيح واللائق بها في مدخل سفارة البلد الذي ولدت فيه .
مسله حمورابي تقف الان في مدخل السفارة العراقية بموسكو وهي تقول – ها انا ذا امام سفارة وطني …..