هل انتقلت القوى العظمى للصراع المباشر؟
في دليل الأمن القومي الأمريكي، الذي أصدره الرئيس جو بايدن منتصف العام الجاري، حدد فيه أعداء الولايات المتحدة الأمريكية وهما الصين وروسيا. كذلك حدد المسرح الجغرافي لهذا الصراع وهي منطقة الأندوباسفيك.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الحرب التجارية المشتعلة بين بكين وواشنطن، والخلافات السياسية المتمحورة حول تدخل أمريكا في الشؤون الداخلية الصينية، بالأخص تايوان وهونغ كونغ، وكذلك الاتهامات الموجهة ضدها في موضوع نشر وباء كورونا في العالم، يتأكد للمراقب أن العلاقات بين الطرفين تعاني أسوأ فترة تاريخية.
وقد تقود هذه المرحلة إلى سباق تسلح واستعراض العضلات بالقوة الصلبة، وربما مزيد من إنشاء القواعد والانتشار العسكري، كما أن المؤشرات كافة تدل على وجود اتجاه شديد في دوائر صنع القرار الأمريكية والغربية، وحتى لدى الحلفاء الآسيويين كالهند واليابان، في إقامة مجموعة من الأحلاف العسكرية، لتطويق الصين واحتواء صعودها العسكري والاقتصادي. وهذه الرغبة موجودة لدى بعض الدوائر العسكرية والأمنية الغربية، التي تصنف بكين بأنها العدو الجديد الذي يجب احتواؤه وإحاطته بمجموعة من القواعد والمعاهدات العسكرية والأمنية، وكذلك الحلفاء الأقوياء الذين لديهم الإمكانيات لخنقها ووضعها في إطار لا يهدد الهيمنة الأمريكية على العالم، ولا يزعزع سيطرتها على منطقة آسيا الباسفيك، لكن هل الطريق الذي يقود نحو هذا الاتجاه سهلا ويسيرا؟
حقيقة الأمر أنه طريق وعر وليس سهلا إطلاقا، حيث أن بكين هي الشريك التجاري الأول لكثير من الدول في هذه المنطقة الاستراتيجية، لذلك هنالك معضلة حقيقية لدى الكثير من عواصم آسيا والباسفيك، بين الحلف الأمني مع الولايات المتحدة من ناحية، والعلاقات التجارية والاستثمارية المتينة مع الصين من ناحية أخرى، لذلك وجدنا بايدن قد عقد قمة في الولايات المتحدة في الرابع والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي مع زعماء الهند واليابان وأستراليا، لتشكيل ملامح علاقات مستقبلية لهذه الدول مع الصين، وفق ما تريده واشنطن، لكن يبدو أن شهية هذا الدول لإقامة علاقات مع بكين لا يمكن إيقافها، حتى لو كانت هنالك تحالفات بينها وبين واشنطن، لذلك نرى ظهور تحالفات جديدة بين هذه القوى بين الحين والآخر لتجديد التعهدات ضد الصين، وهو دليل على فشل التحالفات السابقة، فعلى سبيل المثال ظهر في عام 2004 منتدى «كواد» بعد التسونامي الذي ضرب المحيط الهندي، ثم تحول إلى تحالف غير مومأسس بين أمريكا واليابان والهند وأستراليا. كان الهدف المعلن منه هو أن تكون منطقة الأندوباسفيك منطقة حرة مفتوحة للتجارة العالمية، لكن الهدف الضمني والبعيد المدى منه، هو الحد من قدرة الصين أو حتى احتواؤها. وكذلك اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وأخيرا وصلنا إلى تحالف «الأوكوس» بين كل من بريطانيا وأستراليا وأمريكا، والهدف الرئيسي منه هو الصراع على السيطرة البحرية، بعدما أصبحت الصين أكبر قوة بحرية، حسب عدد القطع البحرية في المنطقة، لكن المشكلة التي تعانيها الصين أن سلاح الغواصات لديها غير فعال، والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية التي ستحوزها أستراليا، ستؤذي بكين بشكل كبير، فهذا النوع من السلاح يجعل الغواصات تتحرك بصمت وتسير لمسافات طويلة، وبذلك يتوفر لها عنصرا المفاجأة والسرية، ولان كل نقاط التماس بين الغرب والصين هي نقاط بحرية في تايوان وهونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي، فإن دورها سيكون حاسما.
المؤشرات كافة تدل على وجود اتجاه شديد في دوائر صنع القرار الأمريكية والغربية، في إقامة مجموعة من الأحلاف العسكرية، لتطويق الصين.
لا شك في أن الولايات المتحدة والصين كلاهما يجد نفسه قد انتقل للصراع الجيوسياسي المباشر على شكل النظام العالمي المقبل. وبات كل طرف مهتم كثيرا بتوجيه رسائل للآخر، فواشنطن باتت معنية أكثر من أي وقت مضى بإبلاغ بكين، بأنها قادرة بما تملك من قدرات على تحجيم التقدم العسكري والتكنولوجي لبكين، وردعها عن محاولة تغيير الوضع القائم في المنطقة، وتقليص سيطرتها في المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، وبالتالي ربما يضع قيودا كبيرة على صانع القرار في بكين في ملفات عديدة في مقدمتها على سبيل المثال، الملف التجاري والتلويح باستقلال تايوان، لكن هذا التصعيد من قبل الإدارة الأمريكية الحالية سوف يضع المنطقة على فوهة بركان، لأن الصين لا تسمح بتهديدها والحد من مصالحها. صحيح أن الولايات المتحدة قادرة على إعاقة التحرك الصيني في منطقة الأندوباسفيك، بمساعدة حلفائها في المنطقة وكذلك أستراليا، وهو السبب المباشر في ولادة معاهدة الدفاع الأمريكية البريطانية الاسترالية الأخيرة «أوكوس» لكن الصين أيضا لديها خيارات كثيرة، وتستطيع اللعب بأوراق أهدرتها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هي تقدمت بطلب الانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة عبر المحيط الهادئ. رسائلها في هذا التحرك أنها تريد أن تحتل موقع الولايات المتحدة في هذه الاتفاقية، حيث كانت الأخيرة تريد من هذه الاتفاقية التي تشمل 11 دولة، أن تكون تحالفا بين مجموعة من الدول لمواجهة النفوذ الصيني، خاصة في منطقة آسيا، لكنها انسحبت في عهد الرئيس السابق ترامب في عام 2017، واعتبرتها اتفاقية غير عادلة وتركت حلفاءها، بالتالي انضمام الصين هي لافتة تقول فيها لن نسمح بإبعادنا من هذه المنطقة، وإننا هنا لنأخذ مكان الولايات المتحدة التي انسحبت من الاتفاقية. هنالك هدف آخر أيضا وهو رغبة الصين في إفراغ الاتفاق الأمريكي البريطاني الأسترالي من مضمونه، لأن الدول المشاركة في اتفاقية المحيط الهادئ هي بريطانيا وأستراليا، إضافة الى دول أخرى، بالتالي عندما تنضم الصين إلى هذه الاتفاقية إلى جانب هاتين الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة في اتفاقية «أوكوس» فإن المصالح الاقتصادية في اتفاقية المحيط الهادئ ستقيد المواجهة الأمنية والعسكرية لهاتين الدولتين ضد الصين، وبذلك هي تحاول إفراغ الاتفاق الجديد من مضمونه.. إذن الصين هنا تقول للأمريكيين والبريطانيين والأستراليين، إن ذهبتم للمواجهة العسكرية والأمنية معنا، فنحن ذاهبون لتحالف اقتصادي، لأننا لا نريد سباق تسلح بل نفوذا اقتصاديا. أيضا هنالك ورقة أخرى بيد بكين وهو موقعها في منظمة أخرى هي دول آسيان العشر للشراكة الاقتصادية الإقليمية، حيث إجمالي الناتج لهذه الدول أكثر من 3000 مليار دولار سنويا، وعلى الرغم من خلاف هذه الدول مع الصين، لكن المصالح الاقتصادية هي التي تجمعها بها. من دول هذه الاتفاقية كندا واليابان ونيوزيلندا وكلها حلفاء الولايات المتحدة، وبذلك تثبت الصين مكانتها من خلال هذه الاتفاقيات.
لقد وضع بايدن منطقة المحيط الهادئ كأولوية في سياسته منذ الحملة الانتخابية. كما ركز بشكل لافت للنظر على الصين، على أنها المنافس الاقتصادي والعسكري، كذلك فعلت بريطانيا منذ انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وحديثها عن العودة إلى عظمتها، وضرورة توثيق علاقاتها بدول آسيا القريبة من بكين، والإعلان عن رغبتها بإرسال قوة عسكرية إلى بحر الصين الجنوبي. كما أن أستراليا التي عانت من ضغوط صينية بعد أزمة كورونا، هي أيضا كانت تبحث عن طريقة تواجه بها الصين، وبذلك يمكن القول إن القوى العظمى والحلفاء قد اقتربوا من حافة المواجهة المباشرة. ما هي حدود هذه اللعبة وأدواتها؟ ربما سيجيب عنها الزمن المقبل.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية