عن غيفارا وانسحاب القوات الأمريكية من العراق
ثلاثة أحداث تستحق التوقف عندها هذا الأسبوع، على الرغم من عشرات السنين وآلاف الأميال التي تفصل بينها. الحدث الأول هو الإعلان العراقي الرسمي عن «انتهاء المهمة القتالية لقوات التحالف وانسحابها من العراق».
أثار الإعلان بدلا من الفرحة الشعبية العارمة بالتخلص النهائي من قوات الاحتلال، ردود أفعال متباينة، إقتصرت على الأحزاب والميليشيات، مع بقاء الشعب المُدرك لزيف ما يجري متفرجا، خاصة بعد أن صرح جون كيربي، المتحدث باسم البنتاغون، بأن انتهاء المهمة القتالية في العراق لا يعني انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. وأنه «لن يكون هناك تحول دراماتيكي» متمنيا للشعب العراقي « استمرار كفاءة وثقة قواتهم الأمنية في ميدان القتال ضد داعش».
يشكل الحدث الثاني أو الأصح مناسبة ذكراه، الخلفية التي لم تفقد قدرتها على إضاءة ما يجري، حاليا، من وقائع لتساعد على التحليل والفهم العميق، من خلال ربطها مع بعضها البعض، بعيدا عن عقلية « الغيتو» السائدة، في التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، عند النظر في واقع بلداننا. وإذا ما حدث الربط فإنه لا يخرج عن محيط الربط ببلدان الاستعمار القديم واستمراريتها بالنيوكولونيالية، والهيمنة الاقتصادية العالمية. فكل ما يحدث، يُربط فورا بأمريكا وبريطانيا وفرنسا، مثلا، أما أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والهند وحتى الصين، فإنها مجرد أماكن قلما تُذكر إلا إذا حدث وانطلق منها، حسب وجهة نظر شرطة العالم، ما يُهدد « أمنها».
الحدث الثاني هو الذكرى السنوية لخطاب تشي غيفارا، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك – 11 ديسمبر/ كانون الأول 1964. الخطاب الذي بات معروفا بجملته الأخيرة « الوطن أو الموت». الجملة التي لا يزال الشباب يرددونها في فلسطين والعراق وبقية البلدان العربية وفي أرجاء العالم، بمواجهة الاحتلال والقمع والاستغلال والهيمنة الإمبريالية. شباب قد لا يعرفون شيئا عن خطاب غيفارا إلا أنهم يُدركون جيدا معنى النضال من أجل الحرية والكرامة، الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، للتمتع « بحياة جديدة والمطالبة بحقهم المطلق في تقرير المصير والتنمية المستقلة لدولهم». وهنا تكمن قوة خطاب غيفارا وقدرته الساحرة على رؤية ما هو أبعد من الآني في مختلف البلدان، بضمنها الدول الرأسمالية.
« كيف ننسى خيانة الأمل؟ «، جاء هذا التساؤل المرير في خطاب غيفارا عن جريمة إغتيال القائد الأفريقي باتريس لومومبا، الذي وضع ثقته بالأمم المتحدة. وهو تساؤل لا يزال يُطرح حول دور الأمم المتحدة الذي تريد الإمبريالية تحويله « إلى بطولة خطابية لا طائل من ورائها، بدلاً من حل مشاكل العالم الخطيرة».
للحركات الشعبية أدوات نضالية استحدثتها الأجيال الجديدة مع الإبقاء على ذات القيم الإنسانية التي بقيت منغرزة بالوجود الإنساني عبر تاريخه، بشرط الحفاظ على الوحدة الداخلية ، والإيمان بالعدالة، وذلك التوق المستدام للحرية والكرامة والمساواة
يُضيء التساؤل الحدث الثالث الذي تصادف ذكراه هذه الفترة أيضا. ففي عام 2004، عاشت الفلوجة، مدينة المقاومة، وحشية قوات الغزو الامبريالي، بأبشع صورها من القصف باليورانيوم المُنضَب وتدمير حوالي 70 بالمئة من المدينة إلى قتل وجرح وتهجير الآلاف من السكان. ولم تكن قوات الاحتلال لوحدها مسؤولة عن الجرائم بل شاركتها طبقة من المتعاونين العراقيين، من « العبيد الاستعماريين». طبقة يُعرفّها غيفارا، بأنها تساهم في تجميل صورة « الحضارة الغربية» المكونة في حقيقتها، من الضباع وابن آوى. « من حيوان يتغذى على لحوم الشعوب العزّل. هذا ما تفعله الإمبريالية بالرجال.» موضحا بأنه « ربما يعتقد العديد من هؤلاء الجنود، الذين حولتهم الآلة الإمبريالية إلى أقل من البشر، بحسن نية أنهم يدافعون عن حقوق جنس متفوق».
وتكاد الصورة التي رسمها غيفارا عن إستخدام المرتزقة في منطقة البحر الكاريبي، في حقبة الستينيات من القرن الماضي، تنطبق بحذافيرها على توظيفهم في العراق « يجب أن نلاحظ أن أخبار تدريب المرتزقة في أجزاء مختلفة من منطقة البحر الكاريبي ومشاركة حكومة الولايات المتحدة في مثل هذه الأعمال يتم تقديمها على أنها طبيعية تمامًا في الصحف في الولايات المتحدة». كما تنطبق على ارتكابهم الجرائم بحق المدنيين بموافقة أو صمت الساسة العراقيين، ومن قبلهم حكام أمريكا اللاتينية، مما يدل، تاريخيا وحاليا، على « مدى الاستهانة التي تحرك بها حكومة الولايات المتحدة بيادقها.»
هل صحيح أن التاريخ يُعيد نفسه بشكل كوميدي؟ أي تعريف للتاريخ ينطبق على العراق؟ تُبين مراجعة حقبة الستينيات، بتعقيداتها السياسية والاقتصادية، وما صاحبها من آمال كبيرة بإمكانية التغيير، عند مقارنتها بالأوضاع الحالية، أن التاريخ مكون من صفحات / حقب، قد تكون منفردة الا ان تراكمها كما التلة المكونة من طبقات أثرية، متراكمة على مر العصور، تجعله يتشكل من خلال التراكم والتواصل المعرفي للمجموعات البشرية والأجيال المتعاقبة. فلا غرابة أن تنقلنا مقولة الرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو «ضعوا حداً لفلسفة النهب وستنتهي فلسفة الحرب أيضاً « إلى القرن الواحد والعشرين، لنجد ان فلسفة النهب لم تنته وخطاب الرأسمالية الاحتكارية، المُشّجع لفساد الحكومات المحلية، أقوى من أي وقت مضى. كما أنها لاتزال تتعامل مع التعايش السلمي كأنه « حق حصري لقوى الأرض العظمى» يُفرض، وفق إرادتها، وبقوانين دولية تُطبق بشكل انتقائي. أما الانتخابات « الديمقراطية» فهي « وهمية دائمًا تقريبًا ويديرها ملاك الأراضي الأثرياء والسياسيون المحترفون» بالإضافة إلى كونها وسيلة للمراوغة وكسب الوقت لضمان إنقياد الشعب لحكومة جديدة تم إختيارها سرا « من أجل حرية مخصية للبلد».
لمواجهة هذا الواقع المحبط، بل ومتحدية إياه، هناك حركات شعبية عديدة تنمو وتتكاثر، ليس في البلدان التي كانت خاضعة للاستعمار القديم، ولاتزال بأشكاله الجديدة، بل وفي بطون ذات البلدان التي ولدت الإمبريالية، خاصة، أمريكا. لهذه الحركات، أدوات نضالية استحدثتها الأجيال الجديدة مع الإبقاء على ذات القيم الإنسانية التي بقيت منغرزة بالوجود الإنساني عبر تاريخه، بشرط الحفاظ على الوحدة الداخلية ، والإيمان بالعدالة، وذلك التوق المستدام للحرية والكرامة والمساواة للجميع بلا تمييز.
كاتبة من العراق