رداً على أحمد أصفهاني: حول الفرق بين “سوريا” و”سوريا الكبرى”
علاء اللامي*
بالإشارة إلى مقالة الكاتب أحمد أصفهاني تحت عنوان “حوار مع علاء اللامي… سوريا، الشام، سوراقيا: تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة” المنشورة في “الأخبار عدد 7 كانون الأول 2021″، أود تسجيل الآتي:
*أشكر الكاتب على اهتمامه بما نشرت، والتكرم بالتعليق عليه بما يعزز لغة الحوار النقدي الفكري الرصين في ميدان التاريخ والعلوم اللصيقة به لمقاربة حقائق التاريخ والجغرافيا والحياة. تلك الحقائق النسبية بطبيعتها والتي لا يمكن لأحد أن يحتكر النطق باسمها أو ادعاء تمثيلها، شخصا كان أم جهة حزبية أو أكاديمية في عصرنا. وآمل أن تكون ملاحظاتي التعقيبية هذه، تعبيرا عن الاحترام لكاتب الرد على مبادرته وتطويرا لقناعاتنا المتقاربة أو المتباعدة على طريق تلك المقاربة المأمولة بين المتحاورين.
*أعتقد أن الكتابة والتأليف المنهجي العلمي في أبواب العلوم الإنسانية وخاصة تلك التي تتواشج وتمتزج قليلا أو كثيرا مع بعض العلوم التجريبية – المختبرية – كعلم الآثار “الإركيولوجيا” وعلم الإناسة “الأنثروبولوجيا”، تراكمية واحتمالية ومتسائلة، تنأى نسبيا عن الجزم والقطع في أمور التاريخ القديم. سبب ذلك هو أننا لا نملك من هذا التاريخ إلا القراءة الاحتمالية للذكريات والسرديات المدونة عن أحداثه واللقى الأثرية إن وجدت. هذا ما أشرت إليه في بداية مقالتي وكرره مقتبسا كاتب الرد بقولي “يثير هذا السؤال تحفّظات تاريخية وجغرافية وأناسية كثيرة، فهو من جهة يدخل في دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية وخصوصاً على مواقع الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي، وهو من جهة أخرى يكتسب شرعية الطرح والمناقشة من منظور التحقّق المنهجي العلمي الإناسي والمناهج القريبة منه”.
*الواقع فقد جاءت مقالة السيد أصفهاني – أمين الحزب القومي الاجتماعي السوري – أهدأ وأرصن كثيرا من مقالة متشنجة أخرى نشرت على موقع الحزب بعنوان “علاء اللّامي وصراعُهُ مع الأسامي” بقلم جورج يونان، أراد بها كاتبها استكمال مقالة أصفهاني كما كتب، ولكنه اشتط كثيرا وشخصن الحوار فاتهمني بتبني الفكرة “الإقليمية” واعتبر الموضوع صراعا بين علاء اللامي و”الأسامي”، معتبرا أن “الكيانات السّياسيّة الّتي يتحدّث عنها اللّامي هي من مخلفّات سايكس – بيكو ومؤتمر سيفر ومعاهدة لوزان…إلخ”. والواقع، هو أنني لم أتحدث عن هذه الكيانات بل عن أسماء الأقاليم العربية كما ورد وترسخت في الجغرافيا العربية الإسلامية القديمة، وهي العراق والشام والحجاز واليمن ومصر والمغرب، ولكن يبدو أن الكاتب يجهل الفرق بين هذه المصطلحات القديمة الراسخة وبين مصطلحات سايكس بيكو القطرية من قبيل “سوريا ولبنان…إلخ “. لستُ بصدد الخوض ما سميته “دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية” ولهذا سأكتفي بهذا التوضيح للتفريق الاصطلاحي بين الشام وما شابهه، وسوريا وما ماثلها، وأعود الى رد أصفهاني:
*أبدأ بالتعليق على عبارة وردت في عنوان المقالة التعقيبية وهي “تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة”، فأقول: جوهر ما أردتُ قوله في مقالتي هو أن “هذه هي الأقاليم الرئيسة العريقة المكوّنة للجغرافيا العربية والمتداخلة مع بعضها – تندرج – ضمن جدلية «الوحدة في التنوّع، والتنوّع في الوحدة» بعد ظهور الإسلام، والممتدّة على “الفَرْشَة الأنثروبولجية الواحدة/ كما نظَّر لها الراحل جمال حمدان” قبل وبعد الإسلام. مع ضرورة توخّي الانتباه إلى الفرق النوعي الشديد الأهمية بين الإنثروبولوجي ببعده الثقافي، والإثنوغرافي بجوهره العرقي؛ فالأول – الإنثروبولجي – يقود إلى الوحدة الثقافية الحضارية ذات الجوهر الإنساني، والثاني – الإثنوغرافي – تقوم عليه النزعة القومية العرقية، الأوروبية المنشأ، وذات الجوهر العنصري من النمط الألماني”. من الواضح أن الهدف الجوهري لرد السيد أصفهاني هو أنه يريد أن ينتزع منا اعترافا بالهوية الواحدة الصماء والمنجزة والكاملة بين مجتمعات عربية معاصرة، من خارج نطاق جدل “الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة” التي لا ترفض الوحدة الهوياتية وفق مفهوم التنوع، والتنوع في إطار الوحدة الانثروبولوجية الثقافية غير العرقية الإثنوغرافية، فهذا النوع من فرض الهويات والقسر الفوقي انتهى عمليا إلى الفشل الذريع نظريا وعمليا وتحول في حالة معينة إلى عداء مستحكم بين بلدين عربيين يحكمها الحزب القومي المنادي بالوحدة العربية نفسه، ولا أظن أن النسخ المشابهة من هذا الفرض والقسر الهوياتي سينتهي نهاية مختلفة!
*قلت -قبل قليل – إنَّ المقاربات التأليفية والأحكام والفرضيات المبّرْهَن عليها في العلوم المذكورة احتمالية وترجيحية وتراكمية، لا مكان فيها للقطع والجزم والبت. وهي لا تحتمل مفردات من قبيل “يجب وينبغي وإطلاقا وأبدا”، بل لأخرى من قبيل “ربما وقد ويحتمل والأرجح وأغلب الظن…إلخ”. وبعبارة الكاتب الموفقة “لا توجد حقائق نهائية مطلقة في مجال العلوم الإنسانية”، ولكن هذا الحكم بحد ذاته قطعي “لا توجد”، وهو ينطبق على المتحدث والرّاد عليه، وبناء على ذلك، فلا يمكن تجريد صاحب الفكرة أو الاستنتاج النظري من حقه في الدفاع عن فكرته أو الاستنتاج الذي توصل إليه بالدليل الاستنباطي أو التحليلي أو المادي الآثاري.
لقد نجح الكاتب في الوصول الى جوهر ما كتبتُهُ في مقالتي ولخَّصَهُ هو في رده، وهو قولي “خلاصة القول هي أن أسماء “آسوريا” و”سوريا” – وإلى درجة ما “سريان” – لم تَشِعْ وتطَّرد وتتكرس كعلم جغرافي للجزء الغربي من بلاد آشور إلا جزئياً وبعد زوال تأثير مملكة آشور من المشهد التاريخي، وهو لهذا السبب يكون “سوريا” مجرد اسم لا يحمل أية دلالات أناسية أو لغوية ذات علاقة بأصله إلا على سبيل الذكرى التاريخية والجوار الجغرافي…“، فهل رد الكاتب وفند هذه الفكرة بالدليل؟ أعني هل أثبت لنا “سوريا الكبرى” مصطلحا جغرافيا تأريخيا كانت موجودة قديما، وأقدم مما ذكرتُهُ؟
*لقد كتب جملة مرسلة في موضع آخر من مقالته ذات صلة بما نحن بصدد، فقال فيها “قد تكون عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو «ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي». ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلا أن الاسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين”. هنا نضع اليد على ترجيح الكاتب لصحة ما قلناه عن أن مصطلح “سوريا الكبرى” مستحدث أي أنه ليس قديما وضاربا في التاريخ، ولكنه انتقل من هذه الفكرة قبل التدليل على صحة ما يقول إلى أخرى لا علاقة مباشرة لها بها فأضاف “ولكن الاسم السوري موجود منذ آلاف السنين” بمعنى أنه يهمل الفصل الذي أردت تبينه بين ” سوريا” و ” سوريا الكبرى” وهما مصطلحان مختلفان جوهرا ووظيفة. ثم هل أفلح الكاتب في تأكيد صحة قوله السابق؟
هنا، أتساءل: هل يمكن أو يجوز لكاتب في التاريخ والإناسة والآثاريات أن يقول عبارة مرسلة في موضع البرهنة والتحديد الكرونولوجي “التزميني” من قبيل “منذ آلاف السنين” دون أن يحدد، منذ كم من السنوات أو العقود أو القرون، ويقدم الدليل الحاسم أو الاحتمالي على ما يقول؟ وثانيا فأنا لم أنكر وجود اسم “سوريا”، بل حاولت أن أبين جذره اللغوي وسياق ظهوره وتطوره التاريخي بما توفر – حتى الآن – من أدلة ومنقولات الآراء، كما حاولت أن أفرِّق بينه وبين مصطلح سياسي حزبي آخر هو “سوريا الكبرى” التي تضم – من وجهة نظر القائلين به – بلاد الرافدين وصولا الى الكويت والأهواز شرقا الى قبرص غربا. وحين يشخصن أصفهاني الحوار، وتعتبر (أن علاء اللامي يعاني من “معضلة تؤرقه” وهي جعل بلاد الرافدين تابعة لإقليم اشتق اسمه من إحدى الدول الإمبراطورية التي نشأت فيه)، فهو بذلك يشي بالمعضلة الحقيقية التي يعاني هو منها، والتي جعلته يعتبر بلاد الرافدين هي سوريا الشرقية مقابل سوريا الغربية التي هي “سوريا الحالية” وذلك بقوله (هل قام الدليل على تفاعل حياتي اقتصادي ثقافي بين سوريا الشرقية وسوريا الغربية على مرّ العصور؟ نحن نؤمن بالأمة السورية في بيئتها الطبيعية).
*يقول الكاتب “فعندما يقول اللامي إن بعض الأقاليم “بقي كما هو تقريباً، إقليماً قديماً موحّداً قامت عليه دولة حديثة واحدة كما هي الحال في العراق ومصر واليمن”، فهو لا يذكر أن العراق كان يشمل في زمن ليس ببعيد المحمرة (الأحواز) والكويت… وهذا يعني أن دولة العراق الحالية لم “تبقَ كما هي تقريباً”). أعتقد أن سبب الِّلبس هنا، هو أن الكاتب أسقط من قراءته كلمة “تقريبا”، فالواقع أن هذه الكلمة تعني أن “العراق بقي كما كان تاريخيا مع بعض الاستثناءات في جغرافيته” التي تفيدنا بها كلمة “تقريبا”، ولولا وجود هذه الكلمة لكان الحكم كاملا وتاما كما كان في العصر الأكدي أو الآشوري أو الكلداني أو العباسي وهو ما لم يرد في الفقرة.
*يقول الكاتب “فالأسماء ثانوية من حيث المبدأ، ولا ينتقص من قيمتها المعنوية أن تكون مجهولة المصدر أو أجنبية الابتكار. إن اسم سوريا تخفيف يوناني لكلمة أشوريا، وبلاد الرافدين ترجمة لكلمة يونانية تعني بين النهرين (لها جذر آرامي أيضاً)”. هنا يمكن الإداء بمعلومتين:
*الأولى، هي أن بلاد الرافدين ليست ترجمة للكلمة إغريقية “متسيوبوتاميا” في اعتقاد العديد من الباحثين وأنا من بينهم، إنما الأرجح أن تكون الكلمة الإغريقية هي ترجمة لاسم بين نهرين / بت نهرين وبالآرامية (ܒܝܬ ܢܗܪܝܢ)، وهذا ما أشار إليه الكاتب بعبارة “لها جذر آرامي” فالآرامي أقدم تأريخيا من الإغريقي. وثانيا، قد تكون أسماء الأعلام شيئا ثانويا في المقالة السياسية والبيان الحزبي ولكنها ليست كذلك في علوم الإناسة والآثاريات واللاهوت واللسانيات فهي هنا أمور غاية في الأهمية، وتنبني عليها فرضيات ونظريات كبرى فلا يمكن النظر إلى هذه الأمور نظرة عاطفية أخلاقوية تركز على الناحية المعنوية، انتقاصا وتصعيدا، بل علمية منهجية صارمة.
*أختم بتكرار الفقرة التي قال فيها الكاتب “”قد تكون عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو «ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي». ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلا أن الاسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين”، فأقول إن هذه العبارة تحسم جانبا مهما من النقاش في مفصل مهم منه حاولت التركيز عليه أكثر من غيره وهو أن مصطلح “سوريا الكبرى” سياسي مستحدث وذو منحى ترويجي سياسي وأيديولوجي، ويسرني أن يتفق كاتب الرد معي جزئيا، أما القضايا المتفرعة من النقاش فقد وضحت فيها رأيي بشكل أمل أن يكون وافيا… أكرر الشكر والامتنان للسيد أصفهاني على اهتمامه وتعقيبه.
*كاتب عراقي
*رابط يحيل إلى مقالة السيد احمد أصفهاني: حوار مع علاء اللامي… سوريا، الشام، سوراقيا: تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة
Re: مقال