ذاكرة رصيف…
الروائي/عبد الجبار الحمدي
لم يظن يوما أنه سيكون حاكيا أو عابر سبيل مثل تلكم الفئة التي اتخذت جوانب وحواشي ظهره ليكونوا كُتاب عرائض او مدوني بيانات، مذ كان وجهه وسطح ظهره قد غطي بالتراب والحفر حتى ألبسوه حلة جديدة، كسوا عريه بعد أن داست عليه عشرات الآلاف من احذية ونعل مختلفة منها مستهلك كصاحبها ومنها ملمع كضاربي الابواق والساكسفون… مرغت وجهه كما ظهره الأمطار والطين حتى خلقت من طينته وجها يلبسه على انه رصيف متجدد… لكنه ابدا لن يرضى بهذا الوصف… فالحثالى من البشر ومرتزقي المال، الشهادات الزور، بائعات الهوى، وقوادي الذمم، سراق الجيوب المتطايرة، كثرة الطلاق وأصحاب التزوير عملهم رائج… إلا من ذاك المتسول الذي بالت عليه الأيام فجعلته منسيا كما البقعة التي يجلس عليها، متخذها سريرا طبيا منتهي الصلاحية، حتى عندما رصفوني تركوا له تلك الفسحة لتمكينه منها ولرغبة مني بذلك… فالمتسولين وجه من وجوه النمط الجديد، فالحضارة باتت تقاس بكثرة متسوليها ولكن بطرق مستحدثة ومتحضرة… و يبدو ان هذا المنفرد بجنسه قد تُرك لأنه من البوالين على أرصفة وجدران حكومية.. ليس غريبا ان اسرد حكايته فقد واكبته منذ اللحظة التي جاء بها بدعوة أقيمت ضده دون علمه بعد أن علم بها من صاحب له ومحام منافق بأن اولاده وبناته قد أقاموا قضية حجر عليه بتهمة أنه أصيب بالزهايمر والخرف… ولخوفهم وحرصا عليه وحتى يكون اهتمامهم به كعائلة تحت اشرافهم وجب عليهم القيام بذلك… كان منهارا في تلك اللحظة التي وقف اما كاتب العرائض ليكتب عريضة تظلم يدحض التهمة فهو لا زال يمتلك قواه العقلية والبدنية.. وقف لأكثر من عشرة دقائق وهو ينصت لكاتب العرائض يسأله عن اي طلب يريد، ما هي الشكوى او الطلب الذي يرغب بتحريره،. لكنه فاجئ الكاتب قائلا: هل لي بورقة بيضاء اخي الكريم؟ ثم رمى بورقة مال على الطاولة الصغيرة المتهرئة مثل كاتبها… لم يسأل ولم يعترض، ناوله الورقة وزادها بأخريات خوفا من خطأ ربما يقع فيه.. فرجل مثله لم يمارس مهنته ربما يسقط الكلمات في غير محلها ويرغب بإعادة الكتابة… جر نفسه الى حيث مكانه الذي اتخذه كدعامة… جلس القرفصاء، فرك مقدمة رأسه ثم فرك عينيه… اخرج نظارة من علبتها وضعها على عينيه ثم دار لا إراديا على الجدار، اسند الوريقات ثم راح يكتب ويردد بصوت مسموع… سيدي القاضي… أنا أدعى عبد العظيم محمد سليمان وكما يبدو سيدي من أسمي اني لست عظيما وليس والدي رسولا ولا جدي نبيا… سميت بذلك دون إرادتي وكذلك ابي وجدي… وإلا لو كنت كذلك ما خانوني من انجبت وإن كان هناك الكثير ممن خانوا الانبياء والرسل ومن اتشحوا بالعظمة، لكن لا قناع مستعار يبقى على وجه أمرد… سيدي أولادي إن صحت الكلمة اقاموا ضدي دعوة بأني فاقد للأهلية واصبت بمرض الزهايمر وهي دعوة باطلة، لا أعرف من أوحيى إليهم بأن يرثوني وانا حي، واقسم أني قد اعطيتهم اكثر من حقوقهم بالشرع والقانون لكن يبدو النفس امارة بالسوء، فبعد ان توفت والدتهم اصبت بالكآبة فخمسون عاما من العشرة لابد لها ان تجعلك وزوجك جسدا وروحا، كانت رحمها الله خير زوجة وخير صديقة وخير سند وعون… جاهدت معي حتى أنعم الله علينا من آلاءه ونعمه الكثير، وأقسم لك مرة أخرى أني وإياها لم نبخل عليهم لا بمال او تعليم او اهتمام فهم أبناءنا فلذات أكبادنا حتى فاض الماء عن الكأس واصبح لابد لهم من الارتباط والخروج الى عالمهم الحديث… فقمت والمرحومة بما يلزم في توفير السكن الجيد والعيش الرغيد سواء كان ولدا او بنتا…
لكن يبدو ان النفس حقيرة بالسوء، فقبل مدة تعرفت على إنسانة محترمة تقارب عمري ورغبت الارتباط بها… وعلى ما يبدو سمعوا بذلك فقُلبت وداعتهم الى طبع ضباع لم اتعرف عليهم ابدا ولا يمكن ان أكون اخطأت في تربيتهم، إنهم ليس من صلبي ابدا، ولا من بطن تلك المرأة التي احببت، فخرجت عليهم بوجه متنمر ولأول مرة منذ وقت نسيت عد أيامه فطردتهم عن شؤوني ورحت قائلا: إنها حياتي وهذا مالي وانا حر… خرجوا يحملون ما لا اعلم من ضغينة، لم يمضي سيدي على هذه الحادثة اكثر من يوم وليلة حتى وجدتني مغمض العينين ومكمم الفاه في مكان تنفر منه الكلاب بعد ان داهمت منزلي مجوعة لا اعلم عددها ضربني البعض على رأسي فأفقدتني وعي الى وقت لا اعرف كم هو؟!… صرخت، بكيت، ترجيت، لكن ابدا لم يُجبني احدا، ايام على هذا الحال، وفي لحظة ليل ام نهار لا اعلم دخل علي احدهم وهو يصرخ قائلا:
يا ابن الكلب تريد ان تتزوج بعد ان خرفت؟ تريد ان تعطي المال الى غير عيالك؟ لا ابدا لن يكون لك ذلك حتى تموت هنا في هذه الحظيرة مع القاذورات فأنت لا تستحق الرحمة، بالكاد اهز رأسي وأتمتم بصوت ارد منه ان يفتح الكمامة كي اعرف كيف اجيبه لعلي استرحم قلبه، لكن يبدو انه أفرغ جوف ترهاته على أذني ثم خرج وهو يقول: إن اردت الحياة سأجلب في المرة القادمة اوراق عليك ان توقعها وإلا سيكون مصيرك حادث عرضي..
أيام مضت، فجاء صاحب الصوت ومعه شخص آخر ميزت ذلك من الرائحة فهي مختلفة وطيبة إنها رائحة امتاز بها ولدي بأن يرتديها فتهيجت مشارعري، ظننت انه جاء لينقذني… فك وثاقي وازيلت الكمامة عن فمي وصرخت عمر ابني رحماك ربي لقد انقذتني شكرا لله… لكن الضربة التي نلتها من الرجل القذر اطاحت بي الى الوراء وهو يردد أخرس يا ابن الكلب… كما قلت لك عليك ان توقع على بعض الاوراق وبعدها يمكنك ان تخرج الى الجحيم… ابني عمر عابس الوجه لا يريد ان يسمع لي ولا يراني، اخرج اوراقا من حقيبة صغيرة ثم مد يده الى ذلك الحيوان كي يجعلني أوقعها… رفضت بشدة، رحت اكيل إليهم بالسباب والشتيمة فلست اباك يا عمر مستحيل ان تكون من صلبي عليك الله لن اوقع اي شيء ابدا.. بنظرة احتقار ينظر لي، نسي سنين الرعاية والحنان والتربية… يبدو ان اكتسابه للطباع المنتنة والحقيرة ببعض ممن عاشر قد جعلته ناكرا للجميل… لم اشعر إلا وضربة على رأسي افقدتني الوعي…
في تلك اللحظة وبعد ان افاق وجد نفسه في مكان مكتظ بالمارة مسندا الى جدار بوال… وفي يده وريقات لم يعي حينما قرأها ماذا تعني ومن صاحبها؟؟!!! فواكب السؤال لكن لا احد يتعرف عليه، ارتصف معي، كان رفيقا منذ ذلك اليوم فأنا كما قلت احمل من الذكريات الكثير عن تلكم المارة والمتسولين، ترى هل يمكن لأحد ان يكتب من أنا ومنذ متى بت رصيف ذكريات؟
القاص الكاتب
عبد الجبار الحمدي