الحياة تستحق أن نعيشها
لفتني عنوان كتاب فاشتريته من مكتبة في «الحي اللاتيني» الباريسي، وعنوانه «كلمات النهاية ـ 200 كلمة وداع تاريخية» ويقع في 350 صفحة عن منشورات «أوبورتان» في باريس. تقديم وتأليف كاثرين فونيك. على الجزء الأسفل من غلاف الكتاب، كلمات قالها بعض المشاهير لحظة احتضارهم، منها قول أناتول فرانس: «إذن، هذا هو موتي؟ إنه طويل جداً». وقول ألفريد دوموسيه: آه، النوم! سأنام أخيراً!
لم أُحسن اختيار الكتاب!
ولأنني أحب القراءة قبل النوم حتى يغلبني النعاس، يبدو أنني أشتريت كتاباً ضد النعاس، بل «كتاب الأرق» فهو يضم أقوالاً لمحتضرين مشهورين. يقول الشاعر أبولونير في كلماته الأخيرة قبل الموت: أنقذني أيها الطبيب. أريد أن أحيا، فلدي الكثير الذي أفعله!
ويقول الكاتب برناردين دوسان بير: أشعر أنني أغادر الأرض ولا أغادر الحياة! تقول النجمة سارة برنار، كما نقل الشاعر كوكتو قولها: كم الموت بطيء في المجيء. أريد أزهاراً.. الكثير من الأزهار! يقول بورفيل: هذا ليس عدلاً: أن أموت! يقول الملحن الكبير برامز الذي دفن في المقبرة ذاتها حيث بيتهوفن وشوبرت: أريد أن أشرب كوباً من النبيذ! وسمح له الطبيب بذلك لأنه كان يحتضر وسيموت على أي حال. يقول الفنان بروتون: «أريد أن أدفن واقفاً!».
ويقول أحد أحفاد نابليون بونابرت لأولاده الذين يحيطون بسرير احتضاره: لا تتعبوا أنفسهم بإغماض جفوني على عيني بعد موتي!
وتقول المغنية الشهيرة ماريا كالاس، مطربة الأوبرا: لم يتبق إلا أن أموت. فقد فقدت صوتي.
يقول سيلين: نموت حين لا يعود في أعماقنا موسيقى ترقص عليها الحياة!
ليس في العربية ما يشبه هذا الكتاب!
ما تقدم مختارات من أقوالهم وهم يحتضرون وقبل موتهم، لن نجد ما يشبهها باللغة العربية.. فنحن غالباً نستغفر الله ونحن نحتضر وكلماتنا الأخيرة متشابهة.. وليس بيننا من سيقول مثل الرسام المبدع فان غوغ: أريد أن تكون النهاية! أو مثل أديسون: كم هو جميل «ألهناك». أو قول أندريه مالرو: إنها انعطافة كريهة. أو قول يوري غاغارين (رائد الفضاء): ولدت دون أن أدري لماذا، وسأموت دون أن أدري كيف. والكتاب مزدحم بمئات الأقوال، لكنني أتساءل في لحظة شك: هل ما نطالعه عن أقوالهم الأخيرة صحيح ولم يتم اختلاقه على لسانهم بعد موتهم؟
هل كان يعرف أنه يموت؟
بعد كل ما تقدم، خوفاً من المزيد من الغم أسببه للقارئ، لأننا لا نحب الحديث عن الموت- أتساءل: ولم لا؟ كلنا نعرف أننا يوم نولد تولد معنا جرثومة موتنا الآتي التي لا نعرف متى تفتك بنا.
والحل تقبل هذه الحقيقة دونما مرارة، فالخلود ليس صناعة بشرية، والمهم أن نجعل حياتنا ثرية بالعطاء حتى يحين وقت الوداع. ولسبب ما، يبدو الحديث عن الموت أمراً يسبب الغم لكثيرين، لكن لماذا؟ أقول ذلك وأنا أحاسب نفسي وأذكر على سبيل المثال، طبيباً في المستشفى الشهير في ضاحية نوبي الباريسية حيث كان يعالج زوجي الذي اختطفه مرض السرطان، هذا الطبيب كلما التقى بي في دهاليز المستشفى كان يسألني دون رحمة: حين توفي زوجك، هل كان يعرف أنه يموت؟ وقلت للطبيب بقسوة: ستعرف الإجابة حين تحتضر وتموت!
الموت الجميل الهادئ!
أظن أن الخالق يرحم البشر الذين يموتون خلال نومهم.. إنهم يذهبون إلى النوم ولا يستيقظون، دون آلام الاحتضار. وأتحدث عن الذين يموتون خلال نومهم ولم يقولوا شيئاً ولا ندري بما كانوا يحلمون. أما زوجي فقال لي (وكان آخر ما قاله) وكنت أضمه إلى صدري: ابتعدي كي لا تصابي بالعدوى.. وكنت أقول له: الموت جرثومة تولد معنا وليست معدية، لأن لكل منا جرثومته.. وأعتقد أن لدى كل قارئ ذكرى مريرة عن رحيل أحب الناس إليه.
لحظة تفاؤل!
كتاب «كلمات النهاية» الذي لخصت لكم بعضه ذكرني بأمر متفائل: وهو أننا أحياء، ولا مبرر للحزن، لأننا سنموت ذات يوم.. والسعادة ممكنة بعيداً عن التشاؤم حتى يحين الوقت المحتوم.. وريثما يحل ذلك، الحياة تزخر بالمشاعر العذبة كالحب والعطاء والتواصل مع الآخرين كرفض الظلم والتمرد عليه. الحياة تستحق أن نعيشها بدلاً من الانشغال بإمكانية الموت.
وكما ذكرت في البداية، أشك في أننا سنجد باللغة العربية كتاباً مشابهاً للذي لخصت لكم بعضه (كلمات النهاية) لأننا نعرف (إنا لله وإنا إليه راجعون).. وريثما تحدث عودتنا ربما كان علينا الاستمتاع بالحياة التي وهبها الخالق لنا.
لا تطالعوا كتاب «كلمات النهاية» قبل النوم، بل أي كتاب آخر يحمل شحنة من التفاؤل والإبداع.. فالغم لا ينقص أحداً في عالم (الكوفيد) الذي خلف لنا مؤخراً أحد أولاده، وهو وباء أوميكرون Omicron الذي سبب إفساد أفراح عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية في الغرب وزيناتها الجميلة في باريس.. فلنزين قلوبنا بما يشبهها. وأختم بعبارة منسوبة لخالد بن الوليد لحظة احتضاره، وهي: «لم يعد في جسمي موضع لطعنة سيف أو رمح، وها أنا أموت في فراشي كما يموت الجبناء».. هل قال ذلك حقا؟ ومن نقله عنه؟ نحن نكتفي باستغفار الله لحظات احتضارنا كعرب ونتمنى أن يغفر لنا ذنوبنا، ولذا ليس في العربية ما يشبه كتاب «كلمات النهاية» التي جمعتها كاترين غونيك.