لماذا يتصدّر العراق قوائم الدول «الأسوأ» في العالم؟
لم يعد الدمار الذي ألحقه الإنسان بالبيئة خافيا على أحد، بعد أن بدأت الطبيعة توجه ضرباتها الموجعة إليه، بعد عقود من تحذيرات العلماء بالمستقبل الكارثي الذي يستوجب حلولا جذرية سريعة. لم يعد هناك مجال للمماطلة والتسويف إزاء الأعاصير والفيضانات وإرتفاع درجات الحرارة، والتصحر، وجفاف الأراضي الزراعية، والحرائق المهددة للغابات، وتزايد الغازات وتلوث الهواء.
وصلت أخطار التغير المناخي، في الأعوام الأخيرة، إلى قمة المشاكل والشغل الشاغل لمعظم الدول، سواء في العالم الأول أو الثاني أو الثالث. فأمام غضب الطبيعة تشهد الحدود الفاصلة بين البلدان انهيارا، تزداد سرعته في بلدان العالم الثالث بشكل خاص. صحيح أن الانعكاسات الكارثية باتت تمس الجميع إلا أن دول العالم الثالث، الدول العربية من بينها، تتحمل عبأها الأكبر. لا لأن غضب الطبيعة ينتقيها دون أمريكا وأوروبا مثلا، ولكن لأسباب داخلية وخارجية متراكمة، تتفاعل من خلالها الكوارث، طبيعية كانت أو من صنع الإنسان، لتزيد من تأثير وحجم أية أزمة تصيب أهل البلد.
ويشكل العراق، مع فلسطين، نموذجا واضحا للأزمة البيئية الناتجة عن صناعة الحرب والاحتلال والسياسات الاستعمارية الجديدة في العالم العربي، المؤدية إلى تقويض الأساس الاجتماعي والاقتصادي للحياة في المنطقة. تظهر آثار هذه الأزمة البيئية في تغير المناخ المدمر، وتلوث الصناعات الاستخراجية، واستنفاد الموارد الطبيعية، وندرة المياه، وتلوث الهواء والتربة جراء استخدام الذخيرة الحديثة، كاليورانيوم المنضب، والفوسفور الأبيض، كما في العراق وغزة. وتشير التقديرات إلى أن الحرب ضد العراق سببت إطلاق 141 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون، بين عامي 2003 و2007، أي أكثر من 60 بالمئة من جميع دول العالم.
على الرغم من توفر هذه المعطيات وتوثيقها من قبل منظمات حقوقية دولية، وكون الوضع البيئي الداخلي مرتبطا، إلى حد كبير، بالعالم الخارجي، بقي العراق، حتى الأشهر الأخيرة، في أسفل الاهتمامات الحكومية والشعبية. ولا يكاد يُذكر إلا كهامش في المؤتمرات الدولية أو ضمن قوائم الدول « الأسوأ» في التقارير والاحصائيات الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المعنية بالبيئة وانعكاساتها الاقتصادية والمجتمعية. حينئذ فقط، والحق يقال، غالبا ما ينجح في إحراز مكانة متقدمة لا يضاهيه فيها أحد.
فالعراق مستقر في موقع متقدم في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، ويتصدر قائمة الدول العربية الأكثر فسادًا. مما جعل حتى الرئيس العراقي برهم صالح، عاجزا عن تغطية حجم الخسارة المالية التي تسبب بها الفساد في البلاد على مدى سنوات. وأعترف بأن العراق خسر عشرات، او مئات مليارات الدولارات، إضافة إلى 150 مليار دولار هُرِّبت من الصفقات إلى الخارج منذ 2003، وهو رقم يبدو أصغر من أرقام تختلط فيها التريليونات مع المليارات والملايين، كما يختلط الدينار والدولار.
لفهم الكارثة البيئية الحالية في العراق، من الضروري النظر في الوضع السياسي وخاصة تجزئة الدولة بين تكتلات سياسية، تتنازع إلى حد الاقتتال فيما بينها، مما جرد الدولة من أية قوة وسلطة مركزية
ويُعد العراق من بين الدول الأكثر خطورة حسب مؤشر المخاطر الأمنية، متنافسا مع ليبيا وسوريا واليمن والصومال ومالي وأفغانستان. استنادا إلى جدولة حالة الحرب والمعلومات عن الإرهاب والاقتتال المجتمعي وحركات التمرد والاضطرابات ذات الدوافع السياسية. وفاز العراق بلقب ثاني أكثر دول العالم فتكًا بالصحافيين في عام 2020، حسب منظمة «مراسلون بلا حدود» ولم تسلم بغداد الجميلة، ذات الحضارة العريقة، من ضمها الى قائمة المدن الأقل نظافة في العالم لما تعيشه من إهمال في إعمار ما خرّبه الاحتلال من مبان والبنية التحتية من المجاري والطرق وتصريف المياه ومحطات تزويد الكهرباء.
وفي تقرير، أخير، لبرنامج البيئة التابع لمنظمة الأمم المتحدة، إحتل العراق المرتبة الخامسة لأكثر دول العالم تأثرا بظاهرة تغير المناخ والاحتباس الحراري في العالم. ويمكن تلخيص انعكاساته بنقص المياه الصالحة للشرب والري، والتوظيف العشوائي للمياه الجوفية، وقلة المياه في نهري دجلة والفرات جراء بناء إيران وتركيا السدود، خلافا للاتفاقيات الدولية. مما سبّب ترك الزراعة والنزوح إلى المدن غير المهيأة أساسا لاستقبال النازحين.
على الرغم من هذه التقارير، المرتبطة بالتغير المناخي والبيئي العالمي، وانعكاساته على الحياة، بكافة جوانبها، في العراق، والتي دفعت منظمة «المجلس النرويجي للاجئين» إلى التصريح، في الأسبوع الماضي، بأن نصف سكان العراق تقريبا في حاجة إلى مساعدة غذائية في المناطق المتضررة من الجفاف، لاتزال الحكومة أو بقاياها تتأرجح بين الفساد والاقتتال حول نتائج الانتخابات الأخيرة، مستفيدة في الوقت نفسه من فرصة تزويق موقعها إعلاميا، والانضمام إلى جوقة المنادين بتحسين البيئة، في المؤتمرات الدولية، بدون إتخاذ أي إجراء حقيقي. كما فعل وزير البيئة العراقي عشية انعقاد قمة غلاسكو المناخية والمعروفة بمؤتمر منظمة الأمم المتحدة لتغير المناخ، حين اختار الحديث عن التداعيات الكارثية لتغير المناخ على الأمنين الغذائي والمائي. ولم يشر الى القصور في تنفيذ البرامج الإصلاحية والتنموية التي قلما يتم تنفيذها.
ولفهم الكارثة البيئية الحالية في العراق، من الضروري النظر في الوضع السياسي وخاصة تجزئة الدولة بين تكتلات سياسية، تتنازع إلى حد الاقتتال فيما بينها، مما جرد الدولة من أية قوة وسلطة مركزية تؤهلها لاعمار البنية التحتية ووضع حد لنزاعات المحاصصة الطائفية والعرقية المنعكسة على توزيع الموارد فضلا عن الفشل في إجبار الدول المجاورة على إحترام حقوق العراق. وفي الوقت الذي صنّفت فيه « منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة» العراق ضمن 44 بلدًا في حاجة لمساعدات خارجية مُلحة من الغذاء.
هذه الحالة المأساوية معروفة الأسباب محليا وعالميا، فعدم تطبيق سبل العلاج الناجعة (وما أكثر ما كُتب عنها) وبناء البدائل، بالإضافة إلى تواطؤ الحكام المحليين سياسيا واقتصاديا مع منظومة الدول الامبريالية، وتشجيع سياسة السكوت والاستسلام والرضا بالواقع المأساوي، بدلا من الرفض والمقاومة، وتنامي الاحساس بالهوية الفرعية بديلا للوطنية، مسؤول عن خلق مناطق النزاع حتى بين الضحايا، حيث تحتل النزاعات الاجتماعية البيئية حول الأراضي والموارد وسبل العيش مركز الصدارة.