في تجربة الشّاعرة الكردية فينوس فائق
تبدو الشاعرة فينوس فائق، والمترجمة، والإعلامية النشطة (شهادة التحرير التلفزيوني والإنتاج الإذاعي في هولندا) وكأنها تجربة ذات خصوصية أدبية وثقافية واجتماعية، لتعدد آفاقها، وواحدة من الأصوات الحية الحاملة لقضيتها الأم، القضية الكردية التي تغلف أغلب نصوصها بهالة من الفقدان الممزوح بأحلام تذهب وتجيء، عبر لغتها وقصائدها الحنينية تجاه عالم يأتي من داخل الكاتبة حتى وهو في طور التكوين، نلمسه ونحسه وإن كنا نراه بصعوبة. تخلق فينوس مساحتها الغائبة لأرض كثيراً ما حرمت من حقها التاريخي، وشعب يرفض أن ينتهي في زحمة القرارات الأممية الظالمة تجاه القوميات الصغيرة. من يقرأ أشعار فينوس سيشعر بسرعة بأنها لا تتوقف عند التاريخ والمساحات والخرائط، فخياراتها تمس أيضاً المساحة اللغوية والإنسانية التي تشكلها الشاعرة بقوة إبداعية خلاقة دون أن يتحول شعرها إلى خطاب سياسي كثيراً ما قهر الشعرية عند كثير من الكتاب، والشعراء تحديداً، وحولها إلى خطاب مثقل بالشعارات وغير مفيد شعرياً. من هنا تصبح قضية فينوس، أدبياً، قضية كتابة حيث مسكنها الحقيقي، ومخازنها السرية، وانشغالها الثقافي والحضاري أيضاً، في عالم كلما انكسرت يقينياته وأوهامه جعل من الهويات الضيقة وسيلته لضرب القضية نفسها، التي عمل على كسرها في البدايات بفرض منطق يعقوبي Jacobiniste في تسيير الدولة، لحساب وطنيات امحت فيها كل الألوان والخصوصيات. الكتابة عند فينوس ترفض هذا المنطق الجاهز، ولا تتوقف عند حافة التراب والمساحات والحدود، لكنها تتوغل عميقاً في الروح التي لا قوة تنعشها مثل الشعر. لهذا، فقبل أن تكون فينوس فائق حاملة لقضية شعب مثقل بالخيبات والآمال الكثيرة، فهي أولاً وأخيراً شاعرة، شاعرة بامتياز.
إقامتها في هولندا منذ سنوات، حيث الحياة تسير وفق نظام آخر أكثر راحة وسكينة، لم تبعدها عن جوهر ما يشغلها داخلياً، عن أرضها وشعبها. أفقها الأدبي والثقافي شديد الاتساع، الأمر الذي جعل رؤيتها الإبداعية أكثر تداخلاً مع الثقافات الإنسانية التي تشكل جزءاً حيوياً من مخزونها. فهي تكتب باللغتين الكردية (لغة الأم) والعربية، وهذا ما جعلها على تماس بشعبها بمكونيه العربي والكردي، وبتاريخه وتحولاته، وأكثر قرباً من عراق عظيم هو مهد الحضارات الإنسانية الأولى. إن معرفة لغة/ لغات أخرى، لا تلغي اللغة الأم، بل تجعلها تنفتح أكثر على عالم أوسع نرى من خلاله تحولات عوالمنا الضيقة باتجاه أفق أكثر اتساعاً وأكثر إنسانية.
تدرُّج فينوس الثقافي وتنقّلها في الفضاءات الواسعة، قسراً أحيانا، منَحاها صدق المعاناة وعيشها بعيداً عن الوطن الأم، لكنهما فتحا أمام شاعريتها أبواباً جديدة ما كانت لتعبرها لولا المنافي وقلق الفقدان. لم تكن لحظة الانتزاع من أرض الأجداد عملية سهلة. فقد قضت فينوس جزءاً من طفولتها في الجزائر، وتعلمت هناك في مدينة وهران، وكان ذلك هو العتبة الأولى في منفى سيطول وسيكبر في داخلها لدرجة أن يعيد صياغة نفسه في شكل قصيدة. قبل أن تقضي المرحلة المتوسطة في أرضها التي تحمل عبق الأجداد وقصصهم آلامهم وافراحهم: كردستان. وتنتقل بعدها إلى بغداد، لتكوينها الجامعي الذي فتح أمامها عالماً أكثر اتساعاً ثقافياً ولغوياً، وتتخرج من بغداد ببكالوريوس فلسفة ساعدها على فهم الحياة.
من يقرأ فينوس سيشعر حتماً بهذا العالم الخفي الذي ينام في قاع الأشياء الحية، بما في ذلك اللغة. المنافي محسوسة في كتاباتها، لكنها قليلاً ما تكون معلنة بالمعنى الخطابي. فهي تخترق القصيدة والمجموعة الأخيرة كلها التي كتبتها باللغة العربية: أبعاد اللامسافة، وتهز قارئها من داخله وتربكه في يقينياته، لكنها في الوقت نفسه تعيد تشكيل وعيه من جديد، بعيداً عن المستهلك والزائف. كتبت هذا الديوان باللغة العربية، لكن اللغة الأم حاضرة بصمت، فهي تشكل الصوت الداخلي الذي لا يموت ويظل حاضراً في شكل نداءات مكتومة أحياناً، وفي شكل صرخات عميقة آتية من بعيد في أحيان أخرى، تتبدى من خلال الطبقات اللغوية المتخفية تحت اللغة العربية، ليصبح الخطاب الشعري متعدداً ونافذاً نحو الأعماق بسهولة، وصادقاً أيضاً. معرفة فينوس للغات متعددة، الكردية والعربية أولاً، ثم الإنجليزية والهولندية، جعل من كتابتها تكتسي طابعاً إنسانياً حياً ومتّسع الأفق، لا يحصر الموضوعة الشعرية في دائرة الانغلاق وضيق الرؤية. هذه الخاصية اللغوية منحت نصوصها فرصة الانتقال بسهولة نحو اللغات العالمية الكثيرة من خلال الترجمة. ترجمت الكثير من أعمالها المكتوبة بالكردية أو العربية، إلى الإنكليزية، الهولندية، الفارسية، الفرنسية، الإسبانية، الأمازيغية (الجزائرية) الألمانية، العبرية، الروسية، الهندية، الأوردو، والإيطالية.
في رصيد فينوس الأدبي، الشعري والروائي والترجمي، الكثير من الأعمال: ثلاثة دواوين باللغة الكردية، وأربعة باللغة العربية، وروايتان بالكردية. كما قامت الكاتبة بترجمة العديد من الكتب في مجال الكتابة الروائية، والصحافة، والكثير من النصوص الشعرية، من وإلى الكردية، والعربية، والهولندية.
هذا الجهد المميز أهّل فينوس لتكريمات كثيرة، وجوائز عديدة عربية وأجنبية.
مجموعتها الأخيرة «أبعاد اللامسافة» لا تختزل تجربة ألم المنافي والأحلام الهشة، لكنها تضعها في الواجهة بلغة دافئة، ذات بعد أكثر إنسانية، لأن المنفى ليس دائماً حالة سلبية، فهو يصنع الإنسان، بالخصوص المبدع، ويضعه على حافة الأشياء الحادة وجهاً لوجه أمام أقداره الصعبة التي كثيراً ما يصنعها الآخرون له، وعليه تحملها. تحتل تيمة الحلم/ الوطن مساحة واسعة من هذه المجموعة، لشدة ترددها على مدى قصائد المجموعة. لا قوة تجعل المنافي والمظالم تنهار واليأس القاسي يتحلل، مثل الحلم. وحده يملك طاقة تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها. الحلم هو السلاح الأوحد المتبقي في مواجهة السواد الذي يجتاح المساحات الأكثر حياة ونوراً. فقد شكل ركيزة أساسية في كتابات فينوس الأخرى، تحديداً في هذه المجموعة، حيث يصبح المستحيل ممكناً، والمسافة التي امحت كل تفاصيلها قفزة في الهواء ورديفاً للأمل، والأرض التي مشينا عليها واستقبلت رفاة الأجداد، قبل ألم المنافي، أصبحت أكثر رحمة بعد أن تحررت من الأثقال والأحقاد التي كبلتها. قصيدة (أحلامي) تشي بذلك كله بوضوح وبلا مواربة، حيث يغلف الحلم كل شيء بردائه الشفاف، مثل غيمة الحلم الساحر الذي يكنس غبار اللغة ويجعلها أكثر إشراقاً ونوراً، ويعيد لها بريقها على الرغم من ثقل الموضوعات التي كثيراً ما تظهر، ثم تختفي.
من هذا كله، بنت فينوس بشفافية عمرانها الشعري وموضوعاتها باستقلالية تامة عن الخطابات السياسية التي لا تظهر مباشرة وتمر عبر عمليات التحويل الإبداعي، عن طريق التأويل حتى لا تفقد القصيدة شعريتها، أي نظامها الأدبي الداخلي، وشاعريتها التي تمس العمق الإنساني في جهاده واجتهاده من أجل شرطية إنسانية أكثر عدلاً وأكثر جمالاً. يظهر ذلك بوضوح في قصائدها: أحلامي، الضحك، الكرسي الهزاز، وغيرها، التي يدور موضوعها ليس حول اليأس كما يبدو لأول وهلة، لكن حول كيفية تفادي السقوط فيه. أليس الشعر في النهاية إلا تلك الوسيلة القاهرة للموت، واللغة التي تقف كحائط صدّ ضد كل ما يمتهن الحياة؟
القصيدة عند فينوس سلاح لغوي فتاك، تواجه بإبداعيته الأقدار المفروضة وتناقضات ما يحيط بها ويستنزفها، بحثاً عن المعنى الغائب الذي لا قوة تصنعه إلا الوجع، وجع الكتابة والحياة.