هل حاول جابر بن حيان تخليق حيوانات ونباتات كيميائيا؟
علاء اللامي*
رسَّخ الاستشراق الغربي المنحاز ضد العرب في طورهم الحضاري الإسلامي، يقلده في ذلك بعض تلامذته الشرقيين والعرب المستلَبين، فكرة عنصرية متهافتة مفادها أن لا علاقة لإنجازات وتراث الحضارة العربية الإسلامية بالعرب أنفسهم بل بأبناء الشعوب الأخرى التي خضعت لإمبراطوريتهم، قافزين على حقيقة أن الثقافات والحضارات إنما تنسب للغات التي كُتبت بها، وعموم العلماء المتكلمين بها، وهذه هي الحال مع الحضارتين الإغريقية والرومانية اللتين كانت مساهمة الإغريق والرومان أنفسهم أقل كثيرا من مساهمات أبناء الشعوب الأخرى في الإمبراطوريتين/ فصَّل في ذلك الراحل جورج طرابيشي في كتابه “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام“.
ولكن عالما عربيا مهما آخر كسر هذا التهميش العنصر الاستشراقي بإنجازاته وتراثه العلمي الضخم، سنتوقف عنده في هذا النص مثلما توقفنا في مقالة سابقة عند زملائه إبراهيم الفزاري ويعقوب بن طارق وعلي بن زياد التميمي والحجاج بن مطر؛ إنه جابر بن حيّان بن عبد الله الأَزْدِيُّ الكوفي. ولد على أشهر الروايات في سنة 101هـ/ 721م وقيل أيضاً 117هـ/ 737م وقد اختلف المؤرخون على مكان مولده؛ فمنهم من قال: هاجرت أسرته من اليمن إلى الكوفة، وكانت ولادته فيها، وعمل في الكوفة صيدلانياً. كان والده من المناصرين للعباسيين في ثورتهم ضد الأمويين، الذين أرسلوه إلى خراسان ليدعو الناس لتأييدهم، حيث قبض عليه الأمويون وقتلوه، فهربت أسرته إلى اليمن ثم عادت إلى الكوفة، بعد أن أزاح العباسيون الأمويين، لذا ينسب أحياناً بالأزدي أو الكوفي. وقال غيرهم إنه من مواليد الجزيرة على الفرات شرق بلاد الشام، ومنهم من يقول إن أصله من مدينة حرّان في بلاد ما بين النهرين. وهناك من شكك في أصله العربي كالمستشرق الفرنسي هنري كوربين الذي قال إن جابر بن حيان لم يكن عربياً وإنما كان من موالي قبيلة الأزد. أما المفكر المصري زكي نجيب محمود فقد “أكد أصله الأزدي العربي الصميم”. وتوفي جابر وقد جاوز التسعين من عمره في الكوفة بعدما فر إليها من العباسيين، وسجن في الكوفة وظل في السجن حتى وفاته سنة 197هـ (813 م.
وصفه ابن خلدون في مقدمته فقال: “هو إمام المدونين في الكيمياء حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر، وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز”. قال عنه أبو بكر الرازي في كتابه “سر الأسرار”: “جابر من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء”، وكان يشير إليه باستمرار بقوله “الأستاذ جابر بن حيان”. وقال عنه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون: “إن جابر بن حيّان هو أول من علّم عِلم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء”، وقال عنه العالم الكيميائي الفرنسي مارسيلان بيرتيلو في كتابه (كيمياء القرون الوسطى): “إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق“.
ممن اهتم بتراث ابن حيان المستشرق المستعرب النمساوي اليهودي بول كراوس (Paul Kraus). وقد خصص الراحل عبد الرحمن بدوي فصلا كاملا في كتابه* عن اهتمام هذا الباحث بابن حيان. وبدأ بدوي فصله بالقول (لن يستطيع الباحث في تاريخ الفكر الإسلامي أن يجد شخصية أغرب وأخصب من شخصية جابر بن حيان. فهي شخصية أمعنت في الغموض واكتنفها السر، حتى كادت ان تكون أسطورة. وتسامت في التفكير حتى ليقف المرء اليوم ذاهلا أمام ما تقدمه لنا من نظرات علمية وفلسفية كلها عمق وحياة، وأمام هذه الروح العامة التي تسدها، روح التنوير والنزعة الإنسانية “…” التي يحدوها الأمل في التقدم المستمر الوثاب للإنسانية في تطورها. وعن اهتمام بول كراوس بابن حيان يقول إن دارسات هذا الأخير كادت تكون كلها دائما على هامش ابن حيان. وكتب عنه كتابا بعنوان ” تهافت أسطورة جابر” وكتاب “مختار رسائل جابرن بن حيان” وبحث في كتاباته عنه صلة ابن حيان بكيمياء اليونانيين ذوسيموس وبلنياس، منتهيا إلى أن كيمياء بن حيان وإنْ تشابهت إصطلاحيا مع الكيمياء اليونانية ولكنها مختلفة عنها اختلافا بينا في الروح وفي التفاصيل.
ولكنه يبدو أقرب الى اليونانيين في مسألة “علم الخواص”. أما نصوص ابن حيان المتعلقة بالناحية الدينية فقد اعتبرها كراوس النموذج السابق لكتب “إخوان الصفا” وأن آراءه فيها ذات صلة بآراء الفرقة الإسماعيلية.
ويتعرض بدوي في هذا السياق لمسألة التخليق أو ما يترجمه بدوي بـ “التكوين الصناعي” عند ابن حيان الذي كان يريد كما يقول بدوي – وربما نقلا عن كراوس – عن طريق “علم التكوين” أن يكوِّن أي يُخَلِّق بالصناعة أنواعا من الكائنات تنتسب إلى الممالك الطبيعية الثلاث، وخصوصا المملكة الحيوانية. وقد سبق ابن حيان علماء النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر بفكرة تكوين الإنسان بالصناعة. ويضيف بدوي “كما اهتم كراوس “بنظرية الميزان” عند ابن حيان، ويقصد بها تلك المتعلقة والباحثة في الكمية الطبيعية وتحويل وتفسير كل ما في الوجود إلى قوانين الكم والعدد، وربما يقارب بدوي موضوع “فيزياء الكم” في كلامه هذا.
وهذه المحاولة – يضيف بدوي – هي أكبر محاولة قامت في العصور الوسطى من أجل إيجاد علوم طبيعية تقوم كلها على فكرة الكم والمقدار”…” ونحن نجد الشغل الشاغل والهم الأكبر للعلم الحديث بكل أنواعه وفروعه يتجه نحو إحلال النسب الكمية محل الخواص الكيفية “…” ولا يهم كثيرا أن لا يكون ابن حيان قد استطاع أن يصل الى نتائج ذات قيمة في هذا الباب، لأنه في الواقع قد تأثر هنا بالناحية الصوفية السحرية من نظرية الأعداد عند فيثاغورس وخواصها العجيبة“.
لقد كان هذا العالِم العبقري عالِما شاملا كعلماء عصره من أبناء الحضارة العربية الإسلامية بعيدا عن التخصص، فقد نبغ في علوم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة، وينسب له اختراعه لعدد من الحوامض وتحضيرها ومنها حمض الكبريتيك وسماه “زيت الزاج”، ولقد بلغ مجموع ما نسب إلى ابن حيان من مساهمات إلى ما يقرب من 3.000 مخطوطة.
* الكتاب المقصود لعبد الرحمن بدوي “من تاريخ الإلحاد في الإسلام/ ص 221