الانسحاب الأمريكي من العراق… أوراق اللعبة
تعاملت وسائل الإعلام الحكومية في العراق، مع الإعلان عن انتهاء المهمات القتالية لقوات التحالف في العراق، المكونة من 2500 عسكري من الولايات المتحدة الامريكية و1000 عسكري من دول التحالف، على أنه انتصار تحقق على الوجود العسكري الأجنبي في العراق، وتم تصوير الإعلان وكأنه عملية جلاء للقوات الأجنبية من البلد، بينما الحقيقة على أرض الواقع، تشير إلى أن تلك القوات باقية ولن يتم سحب جندي واحد منها، إنما تم تغيير توصيف مهمات وجودها، التي تحولت من قوات قتالية إلى قوات تدريب وإسناد وتمكين.
كانت الميليشيات الولائية القريبة من طهران، قد دخلت على خط أزمة الوجود العسكري الأمريكي في العراق مبكرا، وبعدة صيغ، إذ استمرت رشقات صواريخ الكاتيوشا على القواعد العسكرية، ومقرات البعثات الدبلوماسية على مدى أشهر سابقة. وكانت هذه الضربات تقود إلى أزمات بين الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية غير القادرة على ضبط الميليشيات، وتوفير الأمن لوجود الحلفاء الأجانب في العراق.
وفي خطوة تصعيدية غرّد أبو آلاء الولائي الأمين العام لكتائب سيد الشهداء، إحدى الميليشيات الولائية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي في العراق، يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي على منصة تويتر قائلا «مع اقتراب ساعة الحسم والمنازلة الكبرى، تعلن المقاومة الإسلامية – كتائب سيد الشهداء، عن فتح باب الانتماء والتطوع لصفوفها، وتدعو ابناء شعبنا العراقي المقاوم وفصائل المقاومة لرفع مستوى الجهوزية، تحضيرا للمواجهة الحاسمة والتاريخية مع الاحتلال الأمريكي في 31/ 12/ 2021 بعد الساعة 12 ليلاً».
البعض قرأ إعلان الفصائل الولائية وتحشيدها لمحاربة الوجود الأمريكي بتعثر جولة مفاوضات فيينا بين إيران والمجتمع الدولي
لم يكن باستطاعة المراقبين، ولا حتى المحللين السياسيين المقربين من الفصائل الولائية، توضيح مفارقة حاجة (المقاومة الإسلامية) لمتطوعين جدد، بحسب تغريدة الولائي، بينما هم يمتلكون عشرات الآلاف من المقاتلين، الذين صرف على تجهيزهم وتسليحهم ومرتباتهم مليارات الدولارات من الموازنة العراقية، المتعثرة أصلا. والسؤال هنا، كيف يمكن لشخص تابع للمؤسسة العسكرية الرسمية، باعتبار أبو آلاء الولائي قياديا في الحشد الشعبي، أن يدعو لتشكيل قوات جديدة خارج سيطرة الحكومة؟ وهل سيتم ضم المتطوعين الجدد إلى فصائل الحشد الشعبي أيضا؟ أم ستتم عملية تشكيل ميليشيات جديدة من المتطوعين الجدد؟ هذه الأسئلة لم تجد من يجيب عنها، لأن خطوة الولائي وببساطة كانت عبارة عن ورقة ضغط، لعبت في زمن محدد ومخطط له، لتحدث تأثيرا ما في ملف ما، ثم لم تلبث أن تلاشت، من دون أن يعرف أحد آثار دعوة الشباب للانضمام لـ(المقاومة الإسلامية). قرأت حملة تصعيد الفصائل الولائية الأخيرة على أنها مجرد ورقة ضغط سياسية، لأنها كانت قد سبقت بإعلان الاتفاقات الرسمية بين العراق والولايات المتحدة، على جدولة الانسحاب الأمريكي من العراق، لذلك لم يكن هنالك أي داع لإثارة هذه الزوبعة، ففي تموز/يوليو الماضي، وأثناء عمليات التفاوض في الجولة الرابعة مما عرف بـ (الحوار الاستراتيجي) بين العراق والولايات المتحدة، أبلغ الرئيس جو بايدن رئيس الحكومة العراقية بقرار الولايات المتحدة إنهاء وجودها القتالي في العراق. إذ قال جو بايدن يوم 26 يوليو لدى استقباله مصطفى الكاظمي في البيت الأبيض «لن نكون مع نهاية العام في مهمة قتالية في العراق، لكن تعاوننا ضد الإرهاب سيتواصل حتى في هذه المرحلة الجديدة التي نبحثها»، وأضاف» أن الولايات المتحدة ستباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع العراق». وأكد «أن دور العسكريين الأمريكيين في العراق سيقتصر على تدريب القوات العراقية ومساعدتها في التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)». وهنا يجب التذكير بأن لقاء الكاظمي وبايدن في يوليو الماضي، كان قد سبقه قيام قيادة القوات الأمريكية في العراق بسحب قواتها من وسط وجنوب العراق، حيث مناطق نفوذ وسطوة الفصائل الشيعية، التي قامت بتنفيذ ضربات عسكرية ضد الوجود الأمريكي الذي هو أصلا وجود قانوني، وفقا لطلب من الحكومات العراقية المتعاقبة منذ حكومة نوري المالكي، حتى حكومة مصطفى الكاظمي، لكن اللافت أن بعض تصريحات القيادات الولائية كانت مستفزة في هذا الشأن، مثال ذلك كلمة متلفزة للشيخ قيس الخزعلي الأمين العام لميليشيا عصائب أهل الحق، الذي أجاب عن سؤال حول موقف الحكومة من الضربات التي توجهها العصائب للوجود العسكري الامريكي، إذ قال؛ «نحن نطالب حكومة الكاظمي بأن (تغلس) على هذا الأمر»، أي أنه طلب من حكومة الكاظمي التي كانت تخوض حوارا مع واشنطن، أن تتجاهل أو تغض النظر عن الضربات التي توجه للوجود الأمريكي، وتتصرف وكأنها لا تعرف من يوجه ضربات صواريخ الكاتيوشا في مختلف مناطق العراق. إذن منذ أكثر من عام بات الوجود العسكري الأمريكي على أرض الواقع، محصورا في المناطق السنية (قاعدة عين الأسد في الأنبار) والمناطق الكردية (قاعدة حرير في أربيل)، وبعض القوات التي تقوم بمهمة حماية السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء المحصنة، هذا الأمر يعني ضمنا أن تهديد الفصائل الولائية أصبح أقل خطرا، على الرغم من توجيه بعض الضربات الصاروخية لقاعدة حرير في أربيل، الأمر الذي أثار أزمة سياسية بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية قبل بضعة أشهر، لكن من الواضح أن تهديد ما يعرف بـ(المقاومة الإسلامية في العراق) لم يعد سوى ورقة ضغط سياسية تلعب بين الحين والآخر لكسب نقاط في بعض الملفات المفتوحة.
يوم 8 كانون الأول/ديسمبر الجاري أعلن مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، في ختام اجتماع مع قيادة التحالف عن تغيير مهمة قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة (داعش) قائلا في تغريدة على منصة تويتر «اليوم أنهينا جولة الحوار الأخيرة مع التحالف الدولي، التي بدأناها في العام الماضي، لنعلن رسميا انتهاء المهام القتالية لقوات التحالف، وستستمر في مجال التدريب والاستشارة والتمكين». هذه الخطوة سوقها الإعلام الحكومي العراقي، على أنها انتصار تحقق في إنهاء الوجود الأجنبي في العراق، ضمن لعبة أوراق الضغط السياسية المتبادلة بين الأطراف السياسية العراقية المتصارعة، وسرعان ما تلقف الموقف الطرف الولائي، إذ أعلن ريان الكلداني الأمين العام لحركة «بابليون» (ميليشيا مسيحية منضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، وقريبة من الفصائل الولائية)، يوم 9 ديسمبر إنه إلتقى بقائد كتائب سيد الشهداء، أبو آلاء الولائي، على خلفية فتح باب التطوع أمام الشباب العراقيين لحمل السلاح ضد القوات الامريكية في حال عدم التزامها بالاتفاقية بين بغداد وواشنطن، بانسحاب الجيش الأمريكي من العراق في يوم 31 ديسمبر الجاري. وأشار الكلداني إلى أنه طلب من الولائي تأجيل موعد العمليات العسكرية لتزامنه مع موسم أعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية لدى أبناء الديانة المسيحية. المحصلة هي إعلان الولائي تأجيل العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية في العراق، التي كان مقرراً البدء بها مطلع العام المقبل، حتى إشعار آخر في محاولة لترك الباب مفتوحا للعب أوراق أخرى في المستقبل.
اخيرا، البعض قرأ ورقة الفصائل الولائية إعلان تحشيدها لمحاربة الوجود الأمريكي من زاوية أخرى، إذ تم ربط هذا التصعيد بتعثر جولة مفاوضات فيينا بين إيران والمجتمع الدولي، حول إعادة تفعيل الاتفاق على الملف النووي الإيراني. وبحسب هذا الرأي، إن تعثر المفاوضات وعدم الوصول إلى النتائج التي كانت تتوخاها إيران في رجوع إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي، دفع الفصائل الولائية إلى التصعيد العسكري في العراق، كورقة ضغط على إدارة بايدن. فهل يعني ترك الباب مواربا في تصريحات أبو آلاء الولائي الأخيرة عندما أجل انطلاق العمليات العسكرية إلى موعد غير محدد، أن هنالك أوراقا اخرى ستلعب؟ هذا أمر محتمل جدا.