علي حسين
من يسجن فولتير؟.
ما هي المسافة التي قطعها النظام الجديد في العراق وهو يدخل عامه التاسع عشر؟ ما هي نسب النمو والتطوّر والتقدم ومستويات الدخل؟ كم هو عدد المستشفيات والمدارس التي بنيت؟ ما مدى فاعلية نظام الضمان الاجتماعي والصحي الذي تحولت أمواله إلى جيوب المسؤولين؟ وهل هناك إحصاء حقيقي لنسبة البطالة؟ وما هي المشاريع التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة لتنمية قدرات هذا البلد الغني؟ والأهم ما مقدار الرفاهية الاجتماعية؟.
تقوم تجارب المؤسسات السياسية، الحقيقية وليست الفضائية، على نكران الذات والمشاركة الفاعلة في بناء البلاد وصدق المشاعر الإنسانية، فيما تقوم تجاربنا على الجروح التي يتركها الساسة في جسد الوطن. قبل أيام وأنا أتصفح كتاب الفيلسوف هربرت ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد” أعادتني كلماته إلى تلك الأيام التي كان فيها هذا الفيلسوف وكتابه بمثابة إيقونة التحرر بالنسبة للشباب الأوروبي في ستينيات القرن الماضي، التمرد والمطالبة بالتغيير كان شعار الطلبة الفرنسيين الذين قادوا انتفاضة عام 1968، انتفاضة حالمة، رفعت شعار، رفض القمع، رفض الاحتواء. فيلسوف غذى بكتاباته أفكار جميع الغاضبين في أوروبا فرفعوا شعارات منددة بسيطرة المؤسسة السياسية والاجتماعية التي تقف حائلاً أمام حريتهم الشخصية، شعارات قال عنها سارتر: “يتدفق منها شيء مدهش، مزعزع يدين كل ما أدى إلى وصول مجتمعنا إلى ما وصل إليه من رداءة”. في تلك الأيام كان ديغول محاطاً بالكاتب أندريه مالرو، ولكن في الخارج كان فيلسوف الوجودية يحارب ديغول ويسخر منه، مواجهة حادة بين عبقرية الفكر وعبقرية السياسة، كان فيها ديغول يحترم سارتر، وحين أصبح الأخير رمزاً يلهب مشاعر الطلبة ويقود أعنف التظاهرات، وحين امتلأت صحف فرنسا بصوره وهو يوزع المنشورات ضد نظام الحكم، طالب عدد من القادة الأمنيين والوزراء بسجنه، فرد عليهم ديغول بعبارته الشهيرة، “هل يمكن أن نضع فولتير في السجن”.
في بلاد الرافدين التي تُريد أن تعلم العالم ديمقراطية محمود المشهداني يعيش المواطن في ظل ساسة مدججين بخطابات الرفض، يكرهون ثقافة الحوارمع الناس، يصرون على ان يعيش الشعب على الهامش.
منذ تسعة عشر عاماً والناس تسمع كلاماً وخطباً عن الرفاهية والاستقرار والحرية.. لكن في النهاية تجد أنفسها أمام سياسيين البعض منهم بلا خبرة ولا مقدرة والبعض الآخر من أنصار نظرية المؤامرة فتراه يردد كل يوم انه الامبريالية العالمية تغار. ولعل ما يحدث الآن لا يختلف كثيراً عن ألاعيب تجار الازمات، حيث يتم اخفاء سلعة ما حتى تصبح عزيزة وغالية، وهاهم سياسيونا يسعون لإخفاء الاستقرار والرفاهية والفرح عن بيوت الناس، كي يدفعوهم للرضوخ إلى منطق المسؤول ” الآمر والناهي “.