ترنيمة حب للصديق الراحل ديزموند توتو
حين اجتمعنا في تضامن المرأة العراقية، لاطلاق مبادرة « شهر التضامن مع العراق» بعد مرور 15 عاما على احتلال وطننا، لم نتردد كثيرا في اختيار ما نستهل به ديباجة المبادرة.
كانت صورة ديزموند توتو، رئيس أساقفة جنوب إفريقيا وناشط السلام المخضرم الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 1984 تقديراً لحملته ضد الفصل العنصري، ماثلة أمام أعيننا، صديقا رافقنا في رحلة استغرقت سنوات فرض الحصار الهمجي على العراق (كما غزة اليوم) مدة 13 عاما، وفي مناهضة الغزو والاحتلال الأنكلو أمريكي. رافقنا، أيضا، في تعرية نظام الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بعد زيارته للأراضي المقدسة في عام 2002، في مقاربة قلما تجرأ أحد على استخدامها أمام اللوبي الصهيوني في أمريكا، واصفا إياه بأنه نظام فصل عنصري، وكيف إنه رأى «إذلال الفلسطينيين عند نقاط التفتيش وحواجز الطرق» كما كانت معاناة السود، في بلادهم، عندما كان ضباط شرطة شباب من البيض يمنعونهم من التحرك. مضيفا « أن إسرائيل لن تنال أبدًا الأمن والسلامة الحقيقيين من خلال قمع شعب آخر». وتفنيدا لتهمة معاداة السامية الجاهزة، قال إن انتقاده للحكومة الإسرائيلية لا يعني أنه معاد للسامية. كما أنه ليس معاديا للبيض» على الرغم من جنون تلك المجموعة».
أردنا، في مبادرتنا الهادفة إلى التذكير بالظلم الذي سببه غزو العراق، شخصا يجمع بين الإنسانية وحب الحياة، يتحدث لغتنا، لغة التضامن والمساواة، لا على المستوى الفردي أو مستوى البلد الواحد الذي ينتمي إليه الشخص فقط، فهذه ميزة شائعة بين السياسيين بحجة التأهل للمنصب «السياسي الجيد» بل من يحتضن كل البلدان المقهورة ليحقق حرية بلده، لأنه يعرف جيدا معنى القهر والظلم والتمييز، لأنه ناضل طوال حياته ليتخلص من طعم العبودية والتمييز العنصريين، واثقا من إشراقة الشمس بعد ليل طويل. وهل هناك ما هو أكثر إنسانية من أن ترى نفسك في روح إنسان.
لهذا اخترنا كلمات ديزموند توتو لتكون في المقدمة. لا لأنها عبرت عن موقفه المناهض لغزو واحتلال العراق فقط، بل لأنه تمكن، ببصيرته الأخلاقية أن يرى أبعد من كثير من القادة والحكام وحتى المثقفين (ضمنهم عراقيون) وأن يستشف اكذوبة القوة العظمى المتمثلة بتصريحات الساسة والتزوير الإعلامي، وخطرهما على العالم كله، قائلا: « إن لا أخلاقية قرار الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى بغزو العراق في عام 2003، على أساس كذبة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، قد أدت إلى زعزعة استقرار العالم واستقطابه إلى حد أكبر من أي صراع آخر في التاريخ «. أيامها، شارك ملايين الناس، من جميع أنحاء العالم، ديزموند توتو إدانته لشن الحرب على العراق، متظاهرين ولأول مرة في التاريخ، ضد حرب قبل وقوعها.
ديزموند توتو يعرف جيدا معنى القهر والظلم والتمييز، لأنه ناضل طوال حياته ليتخلص من طعم العبودية والتمييز العنصريين، واثقا من إشراقة الشمس بعد ليل طويل
ولم يكتف بتصريحاته وتحذيره بريطانيا وأمريكا في الفترة التي سبقت شن الحرب العدوانية بل واصل نشاطاته المناهضة للسياسة الامبريالية وهو يرصد عمق الخراب الذي سببه الاحتلال، وتزايد عدد الضحايا الأبرياء. صارخا بلغة تُذكرنا بأنه رجل دين» أين الرحمة، أين الأخلاق، متى تأتي الرعاية؟».
ويأتي موقف توتو كناشط حقوقي ورجل دين، في آن واحد، مماثلا لعدد كبير من رجال الدين المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية (على الرغم من أنه لم يكن كاثوليكيا) الذين لعبوا دورا رئيسيا في حركات التحرير والنضال من أجل حقوق سكان الريف والفقراء، والضغط على الكنيسة لمواجهة دورها في انتهاكات حقوق الإنسان ألتي ارتكبت أثناء حقبة الاستعمار. ففي سنوات الحكم العسكري الدموي للجنرال بينوشيه في تشيلي، مثلا، كان الكهنة الناشطون أعلى صوت للمعارضة ومن قادوا الجهود للبحث عن الأشخاص المختفين قسراً. وانضم القس كاميلو توريس ريستريبو، رائد لاهوت التحرير في كولومبيا، إلى جيش التحرير الوطني اليساري، حيث ساهم في حرب العصابات وقُتل في عملية خاصة وصادر الجيش جثته، ولايزال موقع دفنه مجهولا حتى اليوم. وقد ألهم فكره أجيالامن الحركات والمنظمات الاجتماعية.
في أغسطس/ آب 2012، إنتقل ديزموند توتو إلى مستوى آخر من النشاط، حين رفض مشاركة توني بلير المنصة في قمة قادة للاستثمار، في جوهانسبورغ، محاججا بأن قرار بلير دعم الغزو العسكري للولايات المتحدة للعراق، على أساس مزاعم غير مثبتة بوجود أسلحة دمار شامل فيه، أمر لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا. وبما أن محور القمة هو القيادة، فإن الأخلاق والقيادة غير قابلين للتجزئة. وسيكون من غير المناسب ولا يمكن الدفاع عن رئيس الأساقفة مشاركة منصة مع السيد بلير، حسب بيان لمكتب توتو.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2012، رافعا إصبعه محذرا من غضب الشعوب، المتطلعة للحرية، أينما كانت، وواقفا بصلابة من أجل العدالة مهما كانت سلطة الظالم وقوته العسكرية، أو جنسه أو لونه، إلتفت رئيس الأساقفة إلى الجانب القانوني، مطالبا بتقديم الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير للمحاكمة كمجرمي حرب في لاهاي. «لأنهما قاما باختلاق الأسباب للتصرف مثل المتنمرين في الملعب لتفريقنا. لقد دفعونا إلى حافة الهاوية حيث نقف الآن – مع شبح سوريا وإيران امامنا. بالإضافة إلى عدد القتلى نتيجة العمليات العسكرية منذ عام 2003… على هذه الأسس، في عالم متوازن، يجب أن يسلك المسؤولون الغربيون نفس المسار الذي سلكه بعض أقرانهم الأفارقة والآسيويين الذين أجبروا على تحمل مسؤولية أفعالهم في لاهاي».
بقي ديزموند توتو، طوال حياته، مؤمنا بقدرة الشعوب على تحقيق العدالة المنشودة التي تليق بنضالها، في جميع أنحاء العالم، بضمنها فلسطين والعراق، مذكرا من يشكك بالأمر أن «حكومة الفصل العنصري كانت قوية للغاية، لكنها لم تعد موجودة اليوم… وأن هتلر وموسوليني وستالين وبينوشيه وميلوسيفيتش وعيدي أمين كانوا جميعًا أقوياء، لكنهم في النهاية سقطوا وأكلوا التراب «.