استحالة الإنسان الجديد؟
كل أبحاث من بعد الحداثة تتحدث عن الإنسان الجديد؟ فأي إنسان يبنى اليوم؟
كل الثقافات ذات الميراث الأوروبي الإقصائي (الاستعماري) تتحدث عن الإنسان الجديد، وكأن هذا الإنسان واحد ويُنتج على أرض واحدة. في اللاشعور السياسي الجمعي، هي تتحدث عن «الإنسان الأبيض»، الإنسان الني غزا أمريكا ومحا أقواماً بكاملها. الإنسان الجديد الذي رحّل من إفريقيا، عبر سفن العبيد، الملايين من السود فاستعبدهم بغير حق، ليحتلوا وجوداً واسعاً اليوم في أوروبا وأمريكا، والتخلص منهم ومن تاريخهم أمر صعب. كل النظريات العنصرية تظل قاصرة لأن السؤال البسيط: ماذا تفعل بالملايين من البشر الذين أصبحوا قوة إنسانية طبيعية، هل ترميهم في البحر، تبيدهم، تنقص من ولاداتهم المتسارعة، ترحلهم نحو بلدانهم الأصلية؟ عجز كلي. كل النظريات العنصرية لم تفض إلا إلى مزيد من الخراب الإنساني والتفتت القومي، إذ هناك حلول أخرى أكثر إنسانية. فأي إنسان يُبنى اليوم خارج الثقافات العالمية؟ الثقافة الإفريقية، الآسيوية، الأمريكية الجنوبية، الثقافة الصينية بأساطيرها وميراثها، واليابانية والكورية؟ أين الثقافة العربية كوجود إنساني التي تشترك اليوم في بناء هذا الإنسان داخل منظومات الإهانة والاحتقار؟ أي صورة جديدة والعربي مثلاً يرى يومياً صورته تبتذل وتنزل إلى الحضيض عبر الاختزالات الرخيصة في صورة الإرهابي، من خلال معادلة شديدة الابتذال عربي + مسلم = إرهاب، وكأن الإرهابي جينات متأصلة في هذا العربي، وكلنا يعرف بما لا يدع مجالاً للشكوك، أن الضحية الأولى للإرهاب هم العرب أصلاً؟ إرهابي نشأ داخل إخفاقات الأنظمة الدكتاتورية، وفي مخابر متخصصة تسعى لتدمير كل مشروع عربي يرفع رأسه قليلاً للخروج من التخلف: هناك سياسة اسمها سياسة التعطيل ربحاً للوقت، تنتهجها هذه المخابر لمنع أي تقدم أو أي تغيير فعلي، بعد أن فشلت كل الخطابات القومية واليسارية والإسلاموية، لأن التعطيل يسمح لعدوك بالتقدم أكثر لدرجة أن يصبح هو المهيمن على كل شيء، وتظل تحت سلطانه. ليس هذا من بنات نظرية المؤامرة، مادام أصحاب هذه السياسات يعلنون عنها ويقولونها بشكل علني وعادي عبر مختلف قنوات الاتصال. يُبنى الإنسان الجديد داخل هذا المناخ وفق عقلية الهيمنة الكلية حيث لا قيمة للآخر، لأنه أصلاً غير موجود، أي أنه لا يُرى بالعين المجردة حتى ولو كان على بعد إنش واحد من مقرري مسارات هذا العالم. كيف يبنى الإنسان الجديد في ظل وضعيات غير عادلة مطلقاً؟
على الرغم من نبل الفكرة «الإنسان الجديد»، أي الإنسان المختلف، الحر، العادل، الذكي، على الأقل في شكلها الخارجي، أي بدء التفكير في إنسانية واحدة، مشتركة، تتألم فيها البشرية بشكل جماعي، وتسعد بشكل جماعي أيضاً، فالمحصلة شيء آخر. الأمراض الخطيرة، تحديداً كوفيد 19، بينت أنانية غير مسبوقة على مستوى عال. كان يُفترض أن يجعل خيارات الأمم جماعية، فأبانت عن لحظة تاريخية شديدة البؤس هي ثمرة الأفق الضيق. في بدء انتشار كورونا بشكل جنوني وأصبحت إيطاليا وإسبانيا وفرنسا تقف في مواجهة قدر غير مسبوق، بدل أن تواجه أوروبا مجتمعة اجتياح الفيروس التاجي، وتشرك أمريكا، والصين كحليف ولو مؤقت، في مكافحة المرض، وروسيا، انفجر فجأة الاتحاد الأوروبي على نفسه وأصبح قوقعة فارغة لا معنى لوجودها ما دامت كل دولة تتحرك لحالها لحماية نفسها من الخطر الداهم. الصين تصنع الكمامات، وأمريكا تحول الطائرات المملوءة بالكمامات الواقية، المتجهة نحو أوروبا، وإيطاليا تستنجد دون أن يسمع نداءاتها أحد. انكفأت كل دولة على نفسها، وأغلقت الحدود البرية دون إيجاد حد أدنى للمشترك الإنساني والأوروبي. افتتحت الملاعب المغطاة في شكل برادات لحفظ جثث الآلاف من الأموات في روما ومدريد، وكأنه لا حضارة مطلقاً، ولا وجود لإنسان أوروبي، الذي كان يتم تصنيعه. حتى أن دعوات كثيرة ظهرت في إيطاليا التي واجهت الفيروس مجردة من أي تضامن، تنادي بالخروج من الاتحاد الأوروبي. الهزة التي مست أوروبا في الصميم ليس فقط في اقتصادها، هذا قابل للترميم، ولكن في قيمها التي فرضت نفسها محامياً عليها وشرطياً مدافعاً عنها. الأخطر من هذا كله، لم يتم نقد هذه الممارسات حتى بعد انتهاء تلك الوضعيات غير المسبوقة التي تبدو كأنها حرب، العدو فيها قاتل وغير مرئي، مما كان يقتضي تضامناً أوروبياً حقيقياً. الصينيون المتهمون أوروبياً وأمريكياً ببث الفيروس، من خلال مخبر أمريكي في مدينة يوهان الصينية، والمعتبرون في الأدبيات الإمريكو-أوروبية، العدو الاستراتيجي والاقتصادي والتجاري، كانوا الوحيدين الذين مدوا يد العون لإيطاليا.
أعتقد أن الفيروس أظهر بشكل واضح حدود هذا الإنسان الجديد المدجج، نظرياً، بالقيم النبيلة والإنسانية، ويدافع عن رقي الإنسانية وخيرها وتقدمها الجماعي. لهذا يصبح السؤال شرعياً، عن أي إنسان جديد نتحدث؟ عن الإنسان الموجود داخل حدود الدولة الجاكوبينية الوطنية، أم الإنسان الذي يتم تأسيسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والوصفات الأيديولوجية المحكومة بالعداوات الدينية الرخيصة والسياسية؟ أم الإنسان الذي يحمي الإنسانية من التلف، ويقف مع القيم الكبرى، ويدافع عنها بحفظ الميراث النباتي والحيواني والإنساني والثقافي والعمراني، الإنسان المناهض للحروب كيفما كانت مبرراتها، ورفض الغطرسة الذي يجبر ولو تدريجياً، المالكين للقنابل النووية القادرة على تدمير البشرية عشرات المرات، على التوقف عن تهديد البشرية حقيقة. نلحظ في الأفق، بشكل واضح، عودة الحرب الجليدية وليس الباردة، لأن هذه ستجعل البشرية تنهار وتركع على رجليها، وتنتهي. حربان عالميتان مدمرتان لم يتعلم منهما الإنسان الشيء الكثير؟ وصول البشرية إلى حافة الانفجار النووي في قضية كوبا، بين أمريكا والاتحاد السوفييتي سابقاً، ولا شيء نفع؟ تشريد شعب بكامله من أرضه وتعويضه بشعب آخر من وراء البحار، من خلال هجرات منظمة من أوروبا الشرقية؟ فطرد صاحب الأرض الفلسطيني (التي كانت تعني العربي المسلم والمسيحي واليهودي العبراني) من يهود المنطقة وعربها، وتم وضع كثير منهم في كانتونات مغلقة أو إجبارهم على الهجرة؟ هل نحن أمام استحالة الإنسان الجديد، أم أمام حالة جينية بنيت على الأنانية المقيتة، متأصلة في الإنسان، تدفع به نحو الهيمنة والسيطرة ورثها من زمن الكهوف والمراحل الباليوليتيكية التي كان على الإنسان وقتها أن يربي فيها قوته لمصارعة الطبيعة القاسية للعيش وترصد ضحيته، إنساناً كان أم حيواناً، للدفاع عن نفسه وعن مجاله الحيوي الذي وضعته فيه صدفة الحاجات الحياتية الضرورية كالماء والأكل. لا شيء مما تم التبشير به عن الإنسان الجديد (بالمعنى الإنساني الواسع) ظهر اليوم. ولتفادي العدمية، نستطيع أن نقول إن هناك علامات خير واضحة لكنها لا تكفي، لأن الإنسان الجديد لا يزال حلماً، وهو رهين تغيير رؤى أقوياء هذا العالم. ودون ذلك، سيظل هذا الإنسان الجديد مجرد خطاب لا أفق مادياً له. الكثير من جرعات التطعيم ضد كوفيد 19 رميت بعد أن انتهت مدة صلاحيتها أو كادت، ولم ترسل إلى إفريقيا التي تطلبها قبل فوات أوانها حتى تكون استراتيجية الدفاع عن الإنسان استراتيجية إنسانية عامة، لا الاكتفاء بتحويل تلك المناطق (إفريقيا) إلى مخابر مفتوحة على الهواء الطلق وخارج نظام رقابي، لاختبار جدوى التجارب المخبرية على كائنات بشرية لا قيمة لها؟ وكأنها مجرد ألبينو اختباري. هكذا كان الحال بالنسبة لمرض السل، وكذلك السيدا، وهكذا يتم اليوم مع كورونا. الإنسان في النهاية ليس أكثر من فأر المخابر. كيف يبنى الإنسان الجديد في ظل هذه المناخات اللاإنسانية؟