حين يكون النقد الأدبيّ مطيّة للأدعياء والطارئين نادية هناوي يَكثر الكتبة الذين توهمهم معلوماتهم المتواضعة وذواتهم المتنطعة بدخول ميادين الكتابة المختلفة وبالأخص ميدان نقد القصة والرواية، متصورين أن هذا الميدان من السهولة امتلاك ناصيته دونما التوفر على أدواته. فهو ـــ من وجهة نظر هؤلاء الكتبة ـــ متيسر اتقانه وسهلة مساراته يمكن لأي واحد منهم أن يخبط فيه خبط عشواء من دون أن يناله قدح ولا ذم. ليس لأن هناك كثيرين مثله يمارسون الفعل عينه، بل لأن التعلة التي بها يحتج على من يؤاخذه من المتخصصين جاهزة، وهي أن النقد ثقافة عامة ويحق لكل من شاء أن يدلو بدلوه، متناسين أن النقد علم ومعرفة وهو بحث عن الجمال على وفق نظريات مختبرة ومعادلات معتبرة، محصتها عقول متخصصة بجهود جادة مخلصة. فالممارسة النقدية تقوم على جملة مقتضيات لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها؛ وإلا صار كل من يعرف تدبيج السطور أن يكون ناقداً، والنقد عنده مطية يمتطيها بلا دراية، منازلاً أهل الدراية من النقاد المتخصصين، مناوراً إياههم شاهراً سيف الجهل بوجههم، مسقطاً عليهم كل عقده واخفاقاته ونواقصه. إن النقد الأدبي ليس هواية يمارسها من رغب فيها، ولا هو نشاط من مجموعة أنشطة آنية تفرضها ظروف معينة، بل هو عمل يكرس له من يريد تأديته كلَّ جهده كي يكون متخصصا فيه، وقد امتلك ناصيته التي لا يمكن للمرء أن يظفر بها بين ليلة وضحاها، بل يتحصلها عبر مشوار طويل من الدربة والمران وبمكانيزمات سنخصص للحديث عنها مقالا خاصا بها في مناسبة قادمة. عموما تتلون أساليب الكتبة من مدعي النقد الشعري والنقد القصصي ولكنهم يتفقون على الغايات وهي جعل النقد طريقا به يصلون إلى مآرب ذاتية رخيصة وهي توجيه أضواء الشهرة نحوهم والتي عجزوا عن الحصول عليها في مساعيهم الفاشلة وبحثهم اللائب عنها بأنشطة أخرى، تلك الأضواء التي فاتهم قطارها ولم يتمكنوا من نيلها بالتخصص الدقيق الذي لم يقدموا فيه شيئاً ذا قيمة أو يأتوا بجديد خاصة أولئك الذين وضعتهم الوظيفة التدريسية في طريق الشعريات والسرديات، فراحوا يتعلمون من طلابهم أبجدياتها فاستسهلوا أمرها غير متصورين أنها من العلمية ما تحتاج منهم حفراً معرفياً يميزون به بين مفهوم ومفهوم ونظرية وأخرى. ومع ذلك فإن الكتبة يسوغون ـــ لأنفسهم ومن على شاكلتهم ــ استسهال الأمر، معتقدين أن عملهم لن تشوبه شائبة ما دام الجيد ضائعا في الرديء واليابس في اليانع والغث في السمين. وهذا وهم كبير وظن سيء بالنقد ليس فيه من جناية سوى جناية المتوهم على نفسه قبل أن يجني عليه غيره. ولقد قيل قديماً (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)، بمعنى أن من لم يعرف مقدار امكانياته فهو مهان ذلول. ولما كان النقد هو الغاية فإنه لن يكون الوسيلة إلا عند من هم أنصاف كتبة وأشباه متناقدين ولا أقول أشباه نقاد. والمفارقة أن عدد هؤلاء الكتبة الظانين بأن النقد وسيلة للشهرة صاروا يزدادون يوما بعد يوم. فكيف بعد ذلك يستقيم حال النقد الأدبي عندنا ؟!! والكثرة الكاثرة لا تميز كوع القصة من بوع الرواية، ولا تحفر بمعاول مفاهيمية وإنما تشطح من دون وعي، وتتسطح بخلو وفاض. ومثل هؤلاء الكتبة كمثل الذي يسدل الحجاب على عينيه فلا هو يميز الحقيقة عن الزيف ولا الجميل من المشوه، فتراه يمحو الجيد وهو يتصور أنه يجوّد الممحو، حاكماً على نفسه بالجهل قبل أن يحكم عليه الآخرون، ولسان حاله يقول: ( رب رمية من غير رام) يصيب بها الهدف بشكل عشوائي وكيفما اتفق بلا كد ولا جهد ولا مؤاخذة أو اعتراض. حوارات مقروءة وتعد الحوارات في الصحافة المقروءة ميداناً سانحاً يفيد منه هؤلاء الكتبة فيضخمون ذواتهم هاشين على هذا وناشين على ذاك مصورين أنفسهم هم وحدهم العارفون وغيرهم الجاهلون. والمعروف أن الحوارات على أنواع، ومجراها يكون بحسب الاسئلة وطبيعة النقاش بين السائل والمجيب خصوصا حين لا يعرف المجيب طبيعة الاسئلة التي سيحاوره فيها السائل. وعادة ما يكون الهدف من الحوار إعادة الانتاج وليس الاجترار. أما أن يكون هدف الحوار التمادي نيلاً من الاخرين فهذا هو شأن الكتبة الذين لا منهجية توجه أجوبتهم ولا علمية لديهم بها يحتجون ويناقشون فيهربون منها إلى منطقة الشتم والقذع مشوهين الحقائق وموارين الامور، لا يسمون الأشياء باسمائها. وهذا ما اتسم به الحوار الذي أُجري مؤخراً مع د. لاهاي عبد الحســــــــين في ثقافية جريدة المدى بتاريخ 21/12/2021. ويقينا ألا جدوى من حوار تتلاشى فيه الموضوعية ويطغى عليه التشاكس والتنابز والتناكد كما لا طائل يرتجى من وراء حوار تهيمن عليه روح التبجح والإدعاء والتسطيح والتهلهل..مع ذلك فإن التصدي لمثل هذه الحوارات الفضفاضة والمتنمرة مسؤولية ثقافية لا ينبغي أن يتثاقل النقاد المتخصصون من تأديتها. فقد يكون من هؤلاء الكتبة من يحتاج توجيهاً وتعليماً وهو لا يدري ذلك، وقد يكون منهم من يعاني من عقد لا بد من مكاشفته بها كي يرعوي ويعلم أن ما يتقوله على الاخرين إنما هي اسقاطات نفسية تكشف عما في داخله من نواقص، وقد لا يفيد من النصح والتوجيه فينطبق عليه من ثم قول الشاعر( رمتني بدائها وانسلت) وليس ببعيد ذلك اليوم الذي طلبتْ فيه مني أن أسدي إليها النصح والمشورة في مسائل تتعلق بالرواية العراقية، وأن أرشدها إلى كتب تتزود من خلالها بمعرفة في هذا الميدان لتتعرف على أهم الروائيات والروائيين فقمت بواجبي تجاهها بيد أنها لم تفصح عن نواياها من وراء ما سألتني عنه، وهو الكتابة في هذا المجال ولو افصحت لزودتها بما هو نافع أكثر مما زودتها به. وما تزال الروايات ومجاميع القصص التي زودتها بها حتى هذه اللحظة بمعيتها. علما أنها لم تقرب هذا الميدان يوما ما، لا من قريب ولا من بعيد حتى بعد وصولها سن التقاعد الوظيفي بعدة سنوات. وليس من نفع توخيته من وراء ذلك سوى ألا تجحد حق من تفضل عليها فتتهجم عليه زوراً وبهتاناً. شهية الظهور والغريب أن هؤلاء الدكاترة المتقاعدين تنتفض شهيتهم للظهور بعد خمولهم الدائم أو المميت في سني خدمتهم الجامعية وكأنهم في سعي محموم لإثبات أن(expire) شهاداتهم وألقابهم ما زال صالحاً لجني المنافع الشخصية الى أقصى حد ممكن، لكن الأغرب من ذلك تصورهم أن باستطاعتهم خوض أي ميدان حتى لو كان بعيدا عن تخصصهم؛ ولم لا؟!..فهم يمتشقون الدكترة!! وقد يذهب الخيال ببعضهم إلى أن يدخل صالة العمليات الطبية ويتنافس مع الجرّاحين في إجراء عمليات في القلب والكلية والدماغ ..أ ليس هو( دكتور)؟!! إننا لا نقول إن من بلغ من العمر عتياً يعسر عليه امتلاك أدوات النقد لكننا نقول إن النقد ليس يسيرا لكي يأتي إليه من لا يمتلك أدواته ويشرع فيه من لم يفهم مقدماته وأبجدياته..ومن دون ذلك لا نقد سوى تعابير مزاجية وتنمرات صبيانية لا تخلو من غلِّ وأخطاء لا يليق المقام بذكرها. إذن فليتعلم الكتبة حين يحاول المتخصص مساعدتهم في تصحيح مساراتهم في الكتابة كي لا يكون حوارهم الصحفي في جريدة محترمة مثل المدى موضع التندر وهم يظنون مثلا أنهم أول من قدم (دراسة تتناول الرواية العراقية من وجهة نظر اجتماعية ) أو أن علم اجتماع الأدب(هو الأول من نوعه من حيث الميدان الذي يدخل فيه. يعود الاهتمام بعلم اجتماع الأدب عموماً والقصة والرواية إلى سبعينيات القرن الماضي في العالم بيد إنّ نهضة ملحوظة رصدت منذ عام 2015) وهذا يعني ألا فارق لديهم بين النقد بمنهجية اجتماعية ذات منظور مرجعي ووثائقي خالص وبين الدراسة الاجتماعية على وفق علم اجتماع أدب الذي ردم الهوة في فهم علاقة الذات بالموضوع والوعي بالعالم، بل لا يعرفون عديد الدراسات العراقية في الأقل التي انجزت في هذا المضمار. وهو أمر فصلناه في مقالنا( أغلاط البحث الاجتماعي وهفوات اللاتخصص النقدي في كتاب من الادب إلى العلم) المنشور في صحيفة “” القدس العربي”” اللندنية بتاريخ 14 كانون الاول 2021 وفيه تناولنا كتابها بالنقد والفحص والتقويم، وبيّنا كيف يتهجم الكتبة على من يريد أن يعرفهم بمنهجيات النقد التي غفلوا عنها ولا ينسبون الفضل لأهله الذين صدقوا معهم، بل يصرون على أخطائهم خالطين التصور التقليـدي الذي تمثله المنهجية الاجتماعية بالتصور البنيوي المحايث للاجتماعية الذي يمثله علم اجتماع الأدب.. ظانين أن الأمر سيان، غير مكترثين بتوظيف مفاهيم السرد كوجهة النظر والمخيلة السردية وجماليات الشكل ومغزى الوظيفة السردية. أما مفاهيم علم اجتماع الادب فلا يدرون ما هي من قبيل رؤيا العالم والكلية والوعي القائم والممكن والزمرة الاجتماعية والمحايثة السوسيولوجية والبنية الدلالية وتماسك البنى اللغوية وغيرها. بيئة اجتماعية وكيف لباحث يريد أن يكون ناقدا وهو بلا دراية بالمنجز النقدي والسردي العراقي ولا يعرف ما كتبه مؤرخو الأدب ونقاده عن القصة والرواية وجماليات كل جنس وعناصره وعلاقته بالبنية الاجتماعية وأن الإبداع القصصي والروائي ليس انعكاسا لوعي جماعي، بل الحياة الاجتماعية ــ كما يذهب منظرو علم اجتماع الادب ــ هي التي تعبر عن نفسها من خلال حلقة الوعي الجماعي. إن الضرر كل الضرر هو في كتبة يريدون أن يكون ناقدين وهم لا يعرفون كيف يتركون العصبية والمزاجية سالكين سلوك التطفل واللف والدوران والتنمر بالسب والشتم والاتهام والانتقاص. ولا خير في من يريد أن يتعلم النقد وهو لا يعرف كيف يصغي للرأي المختلف مع رأيه، متخذا من التباكي والتمسكن طريقاً للانتصار لرأيه في اسم عَلَم عراقي، متوهماً أنه ملكه الشخصي وليس للآخرين أن يقولوا فيه خلاف ما يقوله هو. وقد صورت له أناه الواهمة أنه الوحيد السائر على خطا ذاك العَلَم أو هو وحده الخليفة له مع أن هذا الخليفة لم يستطع أن يأتي بأي جديد في مجال تخصصه متحجراً على آراء صارت مستهلكة من كثرة ذكره لها بمناسبة ومن دون مناسبة ..متناسيا أن العلماء لا يُقدَسون ولا يرغبون في أن يكونوا أصناما ولهم سدنة، لأنهم أصلا ما كانوا ليكونوا علماء لو قبلوا بالتصنيم، بل بالعكس سعوا إلى إشاعة النقاش والتشكيك واللاتسليم لما هو معتاد وثابت. وليس غريبا أن اجتمع لدى الكتبة مرضان: مرض التناقد أي ادعاء النقد ومرض التصنيم، كما لا عجب إن كانت تقولاتهم حجر عثرة في طريق أي معرفة موضوعية. وإذا كان لمرض التناقد علاج، فإن لا علاج لمرض التصنيم ، والعياذ بالله، كونه يجعل الفكر يتقوقع ويجمد عند حد بعينه لا غير. وما من نفع في فكر يمنع صاحبه عن التطور حائلا دون أن يتجدد، راضياً أن يكون (سادناً) لاسم أو منصب أو نظرية، متخذا منها صنما. وكل ظنه أن الحقيقة تقف عند هذا الاسم أو المنصب أو النظرية حتى لا حقيقة غيرها ولا بعدها. وأخيرا وليس آخراً، هنيئاً للغة العربية في عيدها الزاهر بولادة ناقدة أدبية طغتْ الأخطاء اللغوية على مقالتها؛ فرفعت المجرور ونصبت المرفوع وجرت المنصوب، لا في جملة أو جملتين أو ثلاث، بل في عشرات الجمل؛ أخطاء لا نقبلها من طالب في المتوسطة. نصيحتنا لها أن تذهب إلى من يصحح لها كتاباتها قبل أن تقوم بنشرها. |