نقاش عراقي حول غوغول
أ.د. ضياء نافع
ابتدأ هذا النقاش صدفة , عندما قال ( س) , ان غوغول أصبح (رجعيّا) في سنين حياته الاخيرة , بعد ان كان (تقدميا) في بداية مسيرته الادبية , وقد أصدر في نهاية حياته كتابا يختلف عن افكاره القديمة , بل ويتعارض معها , فاعترض (ص) بقوة على هذه الجملة وقال عنها , انها تجسّد التفكير العراقي المتطرف والمحدود الافق والساذج بكل معنى الكلمة في آن واحد , وانها تذكّر بالموقف المتطرف و الساذج و المؤسف جدا من الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب , والذي وصفوه كذلك بنفس تلك المفاهيم , واطلقوا عليه نفس هذه المصطلحات , فالسياب ايضا – كما كانوا يقولون – كان ( تقدميا ) ثم اصبح ( رجعيا ) في الساحة الادبية العراقية عندئذ , وكم عانى السياب المسكين من ذلك الموقف في حينه, وكم انعكس هذا الموقف على جمهورنا العراقي آنذاك . انفجر (س) بوجه (ص) عندما سمع تعليقه حول رأيه عن غوغول وهذه المقارنة مع السياب , لكننا تدخلنا جميعا و حاولنا تهدئة هذا الانفجار وايقاف هذا النقاش الحاد اصلا , الذي كاد ان يصل الى الاشتباك بالايدي , وكان (س) يرتجف غضبا , ثم قال بصوت مرتفع – ان غوغول اصبح رجعيّا , ولكنك لا تفقه شيئا في تاريخ الادب الروسي , ولا تريد الاعتراف بذلك , وان السياب خان موقفه السياسي , وترك الحزب الذي انتمى اليه بمحض ارادته , واصبح معاديا لافكاره ومواقفه , وانت تعرف ذلك حق المعرفة ولكنك تتجاهل الوقائع الثابتة في تاريخنا العراقي المعاصر . قلنا ل (س) و(ص) معا ان القضية لا تستحق ردود الفعل المتوترة هذه , وانه يمكن تبادل الافكار بهدوء وسكينة مهما تكن الاختلافات والمواقف المتباينة , فقال (ص) – قولوا ذلك له وليس لي , فانا لم انفجر مثله , وانما أبديت وجهة نظر مختلفة بشأن غوغول , أما هو فقد شاهدتم ردود فعله نتيجة رأيّ ذكرته حول الموضوع يخالف رأيه ليس الا , فصرخ (س) مرة اخرى وهو يكرر – كيف يمكن الاستماع بهدوء و سكينة الى هذا الرأي الخاطئ جدا جدا , الذي يربط بين الكاتب الروسي غوغول في القرن التاسع عشر والشاعر العراقي السياب في القرن العشرين ؟ انك تذكرني بالمثل العراقي الشهير – عرب وين طنبورة وين . ضحكنا جميعا على هذا المثل , لاننا نعرف طبعا قصته الطريفة , واراد احدنا ان يجعل الاجواء مرحة كي يخفف حدة هذا النقاش , فطرح على (س) السؤال الاتي – هل غوغول هو ( عرب ) و السياب ( طنبوره ) , ام غوغول ( طنبوره ) والسياب ( عرب ) ؟ ولكن (س) لم يتوقف عند هذا السؤال ولم يستجب اصلا له , وهكذا بقيت الاجواء متوترة , ولم يعلق أحد بشأن هذا السؤال , وصمتنا جميعا . بعد اكثر من دقيقتين من الصمت قال (ص) , انا لم اقارن نتاجات غوغول الروسي ابن القرن التاسع عشر بنتاجات السياب العراقي ابن القرن العشرين , ولكني تحدثت عن الموقف الفكري منهما ليس الا , عندما سمعت قول (س) حول رجعية غوغول . تدخل ( ع) في هذا النقاش وقال , ان بيلينسكي – حسب معلوماتي – لم يكتب في رسالته الشهيرة الى غوغول , ان غوغول اصبح رجعيا , فاجاب (ص) , انا قرأت هذه الوثيقة ايضا ولم أجد فيها اشارة واضحة الى موقف غوغول السياسي , رغم ان بيلينسكي كان ينتقد غوغول طبعا , فعلق (س) قائلا – ولكن بيلينسكي كتب هناك ان غوغول انتقل الى موقف هؤلاء الذين كان يسخر منهم , اي انه اصبح يؤيد موقفهم الفكري , فاجابه (ص) , لكن بيلينسكي لم يستخدم تعابير ( رجعي او تقدمي) كما استخدمتها انت في حديثك عن غوغول , و هي – في الواقع – تعابير استخدمها العراقيون بالذات في اواسط القرن العشرين فقط , عندما جعلوا السياسة هي المقياس الاساسي للابداع الادبي , وهكذا أخذوا يسمّون الكاتب فلان ( تقدمي ) لانه يؤيد هذا الاتجاه السياسي المحدد , ويسمّون الكاتب فستان ( رجعي ) لانه لا يؤيد ذلك الاتجاه السياسي , بغض النظر عن نتاجهم الادبي وقيمته واهميته للمجتمع . تدخلنا جميعا في هذا النقاش , وحاولنا ايقافه , وطلبنا من الآخرين الا يعلقوا او يساهموا بهذا النقاش , كي لا تعود ( المعركة !) مرة اخرى , خصوصا واننا نجلس في مكان عام .
مرّ من قربنا أحد المواطنين الروس , والذي كان يجلس مع اصدقائه جنبنا على الطاولة المجاورة لنا , وقال لي , يبدو ان هناك مشكلة كبيرة عندكم , فانتم كنتم تتناقشون حولها بحيوية , فضحكت انا , وقلت له , لا , لا توجد لدينا مشكلة , لقد كنّا نتناقش حول غوغول ليس الا , فقال باندهاش , بينما كنا نعتقد ان لديكم مشكلة كبيرة , ثم أضاف , أنا ايضا أحب غوغول مثلما تحبونه , وغالبا ما اعود لقراءة نتاجاته الرائعة , وقد قرأت قبل فترة قصيرة (يوميات مجنون ) وربما للمرة العاشرة , ولا زلت اقهقه , عندما اعيد قراءة هذا الكتاب , واتعجب , كيف استطاع غوغول ان يصف سمات هذا المجنون بدقة متناهية , قلت له , كنا نتناقش حول موقفه السياسي , فقال , الفنان لا يمكن ان يكون سياسيا , اذ انه ينطلق من مواقفه الذاتية الابداعية , اما السياسي , فلا يوجد لديه آراء ابداعية محددة , بل مواقف سياسية تنسجم وتتناغم مع رأي حزبه السياسي , ويجب عليه ان يؤيد رأي حزبه بغض النظر عن موقفه الشخصي , وكل العباقرة من ادباء وفنانين , ومن جملتهم طبعا غوغول , لم يكونوا سياسيين ابدا , ثم ودّعني بلطف وابتسام وذهب ….