ابن رشد: فيلسوف النهضة الأوروبية والزلزال الفكري الذي أحدثه!
علاء اللامي*
ابن رشد أشهر من نار على علم، وتأثيراته الزلزالية – بعبارة كورت ديبوف – على أوروبا الناهضة لا تنكر، وقد يكون من النافل والمحرج التعريف به للقارئ العربي، ولذا سأعرف به بشكل مختصر، وبما يؤكد سياق هذه السلسلة من المقالات الداحضة للمقولة الاستشراقية العنصرية المعروفة حول هامشية وحتى انعدام مساهمة العلماء العرب في الحضارة العربية الإسلامية ويؤكد نسبه العربي لغةً وثقافةً وحتى إثنياً بشيء من التحفظ، الذي سأوضح سببه في حينه، ولكني سأركز في هذه المقالة على دوره التأسيسي العظيم في النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر وعصر التنوير الذي انبثق عنها في القرن الثامن عشر.
تعريف أولي:
يقول التعريف المدرسي الشائع لابن رشد: إنه أبو الْوليد محمد بن أَحمد بن محمد بن أَحمد بن أَحمد بن رُشْد ولد في قرطبة سنة 1126 م – 520 هـ وتوفي منفياً في مراكش سنة1198 م – 595هـ. يسميه الأوروبيون على طريقتهم الإغريقية واليونانية القديمة في لفظ الأسماء العربية آفيروس (Averroes)، واشتهر باسم ابن رُشْد الحفيد، وهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي (وكونه فقيها وهو الفيلسوف التنويري الأعظم يجعل التحفظات والحساسية التي يحملها بعض الباحثين العرب وغير العرب على الفقه غير مبررة بل ولا معنى لها فالفقه هو الجهاز أو البناء القضائي والقانوني في الدولة العربية الإسلامية في طور تأسيسها وصعودها، كما ذكرت في دراسة سابقة لي. ع.ل).
وكنت قد تطرقت لموضوع نسب ابن رشد الذي زعم البعضُ أنه أمازيغي بربري وليس عربيا، قبل سنوات فكتبت (يتداول نشطاء على مواقع التواصل هذه الأيام معلومات تاريخية وأنسابية حول الأصول القومية لبعض العلماء القدماء، فينفون عنهم عروبتهم ويثبتون عليهم الأمازيغية؛ والواقع، فهذا خطأ فادح فلم تكن التقسيمات والانتماءات القومية العرقية معروفة في تلك العهود الساحقة، وربما كانت الانتماءات القبلية أكثر أهمية منها، وخصوصا في البوادي والأرياف، ولأسباب تتعلق بالدم والثأر والإرث. إن عظماء تاريخنا لم يكونوا يهتمون كثيرا بأصولهم الإثنية القومية بل بإنجازاتهم العلمية أولا، وكان بعضهم لا يذكر لقبه القبلي أحيانا مع أن ذلك أمر سائد لا يشذ عنه إلا القلة، ومن هذه القلة ابن رشد الحفيد وابن باجة التجيبي وابن الأبار الذي نُسِبَ الى صنعة الإبر التي زاولها أبوه، ولم ينسب الى قبيلته قضاعة اليمنية المعروفة، فيما نُسب آخرون، أو هم نسبوا أنفسهم الى قبائلهم الأمازيغية دون حرج أو تردد ومنهم الرحالة ابن بطوطة “اللواتي”، والصيدلاني عبد الله بن صالح “الكتامي”، والنحوي ابن معطي “الزواوي”، والجغرافي أبو القاسم الزياني، والموسوعي والمخترع عباس بن فرناس “التكراني” ويزعم البعض أنه من أصل عربي، وينسب الى بلدة اندلسية تدعى تكرانة، ولا يمكنني تأكيد ذلك أو نفيه).في ضوء ما أعرفه وما اطلعت عليه من مصادر، فقد كان كل من يتكلم العربية ويعيش في البلاد العربية يعتبر عربياً – لغة وثقافة وانتماء لهوية أوسع هي الهوية الحضارية العربية الإسلامية – بل وأحياناً لا يجد نفسه مضطرا لهذا التعريف وربما نسب نفسه الى حرفته أو مدينته “…”، لا يُذكر نسب ابن رشد القبلي المحدد في سيرته ولكن بعض السير تنص على أنه عربي).
*ولد ابن رشد في مدينة قرطبة بالأندلس، وبها نشأ في أسرة فقهاء ومن أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالتفقه في المذهب المالكي، وحفظ موطأ الإمام مالك، وديوان المتنبي كله عن ظهر قلب. ولم يزعم أحد من المؤرخين القدماء أنه بربري أمازيغي حتى خلال محنته واضطهاده من السلطات الحاكمة في عهده. ولكنه نسب الى اليهود استنتاجا من نفيه ووضعه تحت الإقامة الإجبارية في قرية صغيرة يسكنها اليهود، ويتفق كاتبو سيرته على أن نسبته الى اليهود غير صحيحة، وقد نُفي الى تلك القرية للحط من شأنه وفق التقليد السائد آنذاك، ومع ذلك لا يمكنني القطع مائة بالمائة، في ضوء المتوفر حتى الآن من معلومات في هذا الصدد، بأنه عربي أو أمازيغي “من حيث نسبه العرقي”، ولكن المؤكَد تماما أنه فيلسوف عربي مسلم بالمعنى الحضاري والإناسي “الانثروبولوجي” لهذه النسبة، حتى لو لم تتأكد من الناحية العرقية “الاثنوغرافية” وهو الاحتمال ضعيف كما تقدم، وهذا يصدق عليه وعلى غيره من فلاسفة وعظماء الحضارة العربية الإسلامية البائدة في عصرها الزاهر.
نعود الآن إلى إنجاز ابن رشد الفلسفي وتأثيراته الزلزالية – بعبارة كورت ديبوف – على أوروبا الناهضة: يصف د. أنور مغيث، في مقالة له ابن رشد بأنه “كان آخر عنقود فلاسفة المسلمين الذي امتد إنتاجهم الفكري على مدى أربعة قرون من بخارى إلى الأندلس. وكان مثل كبار مفكرى هذا العصر طبيبا وفقيها وفيلسوفا. واهتم في مجال الفلسفة بشرح مؤلفات أرسطو والتعليق عليها، كما اهتم بالدفاع عن الفلسفة في مواجهة هجمات الفقهاء المحافظين خصوصاً الغزالي.
دحض التكفير بنفي التعارض بين العقل والإيمان الديني:
لقد اهتم ابن رشد بالدفاع عن الفلسفة في مواجهة هجمات الفقهاء المحافظين وخصوصاً الإمام أبا حامد الغزالي. فقد مال الغزالي إلى تكفير الفلاسفة لقولهم بثلاثة آراء؛ أولها أن العالم قديم وليس مخلوقاً، وثانيهما أن عِلْمَ الله يتعلق بالكليات وليس بالجزئيات، وثالثها أن البعث للأرواح فقط وليس للأجساد. ويرد ابن رشد على هؤلاء الفقهاء المحافظين، بأنه لا يمكن تصور إجماع عقلي حول هذه القضايا، والقول برأي فصل فيها أو بما يخالفها، وأن الخلاف فيها لا يستوجب الخروج عن الملة “التكفير”، لأنها ستظل دائماً محل خلاف. كان هاجس ابن رشد الأساسي هو تجاوز التعارض الظاهرى بين الإيمان والعقل الإنساني، فهو يرى أن الحق واحد ولكن العامة والبسطاء لا يستطيعون إدراكه إلا من خلال السرد والمجاز والصور الخيالية. أما الحكماء وهم الأقلية فيتوصلون إليه بالأدلة العقلية البرهانية.
وحين ترجمت أعمال ابن رشد وانتقلت إلى أوروبا قوبلت بضجة كبرى وصدرت بيانات من الكنيسة بتكفير كل من يتبنى آراءه. ولم تكن هذه الضجة إلا انعكاسا للحماس الكبير الذي لاقته أعماله لدى الشباب الأوروبيين من طلاب العلم خصوصا. وصارت هناك جماعات رشدية في جامعة السوربون بباريس “التي تأسست سنة 1253م أي قبل سقوط بغداد بأيدي المغول بخمس سنوات، وما تزال فاعلة حتى اليوم” وفى إيطاليا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ومع ذلك، فلم تكن الرشدية تيارا فكريا متجانسا، كما كانت تنطوي على صور من سوء الفهم أو سوء التفسير. ولكن أهم ما كانت تتسم به هذه النزعات هو انطلاقها من التمييز الرشدي بين طريق الوحي وطريق العقل.
يقول جورج سارتون مؤرخ العلم في العالم، كما يقتبس د. أنور مغيث: “إن الصخب الذي أحدثته أفكار ابن رشد فى عقول الأوروبيين خلال أربعة قرون، من القرن الثالث عشر إلى نهاية السادس عشر، هي التي تستحق أن نطلق عليها بحق العصر الوسيط، لأنه عصر انتقال من الفكر القديم إلى الفكر الحديث. الدراسات فى حفريات المعرفة تبحث عن صلات في أوروبا بين أفكار ابن رشد ومبادئ الحداثة مثل ازدهار العلوم الطبيعية أو تأسيس العلمانية أو قبول المساواة بين الرجل والمرأة”.
وفى عام 1980 أصدر البابا يوحنا بولس الثاني مرسوماً بعنوان “الإيمان والعقل” يعلن فيه أن الكنيسة كانت مخطئة حينما تصورت أن هناك تعارضاً بين العلم والإيمان، ويرجع ذلك إلى سوء تفسير النص المقدس، أو ربما بسبب أن العقل كان في مرحلة لم يتمكن فيها من اكتشاف معنى النص. وبناء على هذا المرسوم ردَّت الكنيسة الاعتبار إلى غاليليو وداروين. ويقول آلان دو ليبيرا، مؤرخ فلسفة العصور الوسطى، كما ينقل د. مغيث؛ إنه يمكن للقارئ أن يحمل كتاب “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لابن رشد مفتوحا فى يده اليسرى ومرسوم البابا في اليمنى وينتقل ببصره بين النصين ليكتشف أن المرسوم البابوي هو ترجمة لأفكار ابن رشد رغم أن اسمه لم يُذكر.
الزلزال الفلسفي الرشدي:
وعن ابن رشد كتب كورت ديبوف مدير قسم أوروبا في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، وهو باحث وزميل زائر بجامعة أكسفورد: “أحدث ابن رشد ما يمكن وصفه بالزلزال الفكري في أوروبا، وكانت أطروحته أن هناك حقيقة واحدة فقط يمكن الوصول إليها عن طريقين مختلفين: عن طريق الإيمان، وعن طريق الفلسفة. وعندما يتعارض الطريقان فهذا يعني أن علينا قراءة النص المقدس بطريقة تأويلية.
دُرِّست الأطروحات التي قدمها ابن رشد، وتم تبنيها في الجامعات الأوروبية الأولى؛ في باريس، وبولونيا، وبادوا، وأكسفورد، وهو ما أثار الذعر في الكنيسة. فقد كانت قوة حججه وفهمه لفلسفة أرسطو قويتين للغاية. وفي العام 1277، أدان أسقف باريس، وحظر أفكار ابن رشد، وكان على الأسقف أن ينسخ حجج خصم الفلسفة، الغزالي. ومع ذلك، كان توما الإكويني هو من انتقد أطروحات ابن رشد في كتابه “ضد ابن رشد“.
وفي “الكوميديا الإلهية” لدانتي، من القرن الرابع عشر، قدم المؤلف فيها وصفاً متخيَّلاً للجنة، والعذاب والجحيم، مع فصل خاص عما سمّاه الـ “ليمبو”، أي البرزخ، حيث سمح للصالحين من غير المسيحيين بوجود لائق بعد الحياة. ونحن لا نجد فيها اليونانيين القدماء والرومان فحسب؛ بل نجد أيضاً ثلاثة مسلمين، هم ابن رشد، وابن سينا، وصلاح الدين الأيوبي، كما يخبرنا كورت ديبوف.
أما أنيس خنسة قد كتب في مقالة له، وعذرا لطول الاقتباس لأهميته: “فلم تكن مكانة الفلسفة في بلاط بغداد أقل أهمية، فقد كان أفلاطون وأرسطو يحظيان بشعبية كبيرة، وكانا موضوعاً لدراسات ونقاشات وحوارات. ومع ذلك، تناول الفلاسفة المسلمون المشاكل نفسها التي سبقت ظهور المسيحية والتي ظهرت بعدها: كيف يمكن أن يتم التوفيق بين الفلسفة واللاهوت والنصوص المقدسة. في أوروبا، أوقف القديس أوغسطين – توفي في العام 430 م – النقاشَ لصالح الإيديولوجيا، مع حظر التفكير النقدي منذ ذلك التاريخ. وقد حورب أولئك الذين حاولوا إعادة فتح النقاش، أو حتى طردوا من الكنيسة. ولم يحصل مثل ذلك في العالم العربي،على الأقل لم يحصل قبل نهاية القرن الثاني عشر.
ويضيف خنسة “حتى ديكارت، رأى أن من الضروري شجب ابن رشد، على الرغم من أنه لم يحقق نجاحاً كبيراً في ذلك. ربما حقق ابن رشد أكثر انتصاراته أهمية على مدى أكثر من 400 سنة بعد وفاته. وما من شك في أن العلماء والفلاسفة المسلمين كان لهم دور أساسي في تكوين الفكر الأوروبي. ومع ذلك واجه العالم العربي أزمة فكرية امتدت على مدى قرون، حيث دمرت الديكتاتوريات والتعصب الديني العلم والفلسفة العربيين، بينما حقق الغرب قفزات مذهلة إلى الأمام. ومع ذلك، فإن إنكار دور العالم الإسلامي في تاريخ الفكر العالمي هو اغتصاب للتاريخ نفسه”.
وفاته منفيا:
توفي ابن رشد سنة 1198م في مراكش ودفن فيها، وبعد ثلاثة أشهر نقل جثمانه إلى قرطبة. “ولعل نقل جثمانه إلى قرطبة ـ فيما يبدو انه تطبيق لوصيته – بعد أن كان قد دفن في جبانة تاغزوت بمراكش، يكتسي ظلالا حزينة ومعبرة عن قطيعة لا عن وداع. يروي ابن عربي في ‘الفتوحات المكية’ أنه كان حاضرا عند وداع جثمان ابن رشد فيقول: فلما وضع التابوت الذي فيه جسده على الدابة من جانب، جُعلت تآليفه ـ كتبه ومؤلفاته ـ تعادله من الجانب المقابل…وهكذا اتجه جثمان ابن رشد الميت ومؤلفاته الحية شمالا!/ من مقالة لي حول ابن رشد بعنوان (نكبة ابن رشد من منظار الجابري: هجاء “المتسلط الأوحد” في مدينة الغَلَبَة) نشرت قبل أكثر من عشر سنوات تجد رابطا يحيل إليها أدناه:
الصورة الأولى : يظهر ابن رشد في جزء من لوحة إفرسك “رسم أو حفر بمادة الجص، من إبداع عمل الفنان الإيطالي الشهير رافائيل، 1509 م، توجد اليوم في غرفة التوقيعات، قصر بونتفيتشي، بالفاتيكان، بروما، إيطاليا. في هذه اللوحة نقاش بين ابن رشد في يسار اللوحة، وأرسطو قبالته.
الصورة الثانية: لوحة زيتية على قماش (أبعادها 123 سم × 144 سم)، وتُنسب إلى الفنان الإيطالي جورجيوني 11478 – 1510م ، وقد رسمها في الفترة من 1505 إلى 1509، والاسم الحالي للعمل مستمد من نص لماركانتونيو ميشيل (1484- 1552)، الذي رأى اللوحة بعد بضع سنوات في إحدى المساكن الفخمة في البندقية، وهي الآن ضمن مقتنيات متحف تاريخ الفنون في العاصمة النمساوية، فيينا للوحة ” قدم مايكل باري قراءة جديدة لهذه اللوحة مفادها: أن الأجيال الثلاثة في اللوحة: شيخ هو الفيلسوف اليوناني أرسطو يحمل بياناً للنجوم، وفي الوسط رجل متوسط العمر هو ابن رشد، أما الشاب الجالس قربهما فهو شاب أوروبي من عصر النهضة، قد يكون قسّاً. ولعل هؤلاء الثلاثة يمثلون مراحل المعرفة الثلاث، كما قيمتها الثقافية الأوروبية في عصر النهضة.
#كسر_التهميش_الاستشراقي_الغربي
*رابط: نكبة ابن رشد من منظار الجابري : هجاء “المتسلط الأوحد” في مدينة الغَلَبَة:
http://saotaliassar.org/Writer/AlaaAllamie/AbenRushd.htm