بإسلوب متوقد بالحرارة والألفة… بلقيس شرارة تدوّن سيرة المعماري رفعة الجادرجي
محاولات الكتابة العديدة لبلقيس شرارة في تسجيل حياة زوجها المهندس المعماري رفعة الجادرجي جديرة بالانتباه، كسيرة حافلة بالعطاء ومثيرة للجدل، وكمعطى نادر، غير مستهلك، الأمر الذي جعل من هذه الكتابات، أعمالاً تحتل موقع الإثارة، ولعل سيرة رفعة التي صدرت عن دار المدى عام 2021 تشكل استعراضاً لما جرى من أحداث مرّ بها العراق منذ البدايات الأولى لتأسيس الدولة العراقية، قدمتها شرارة على نحو سردي، وضمن نسيج روائي، بوصف تلك الفترة هي الأقرب لعمر رفعة الذي تجاوز التسعين، وهي الأهم والأكثر تأثيراً في نشوء الطبقة الوسطى، التي وضعت أسس الدولة والمجتمع والثقافة، تستمد صورها ونماذجها من تجارب عالمية متحضرة.
بلقيس نقلت وقائع حياة وشراكة، بأسلوب متوقد بالحرارة والألفة، والكشف عن روافد معرفة وثقافة للاثنين، تخللتها قصص عديدة تحمل إشعاع الوعي الناضج بالعديد من القضايا في العمارة، والثقافة، والفن التشكيلي، والموسيقى والأدب، والحب والزواج والسفر، والتصوير، يجيء تسلسلها مشحوناً بالحياة، والتدفق الإنساني بوضوح وتألق وبساطة لا إسراف فيها.
وأشد ما يلفت انتباه القارئ لكتاب السيرة، تلك الزوايا الخفية في الحياة الخاصة والعائلية لرفعة الجادرجي، ولاسيما منها تلك المتمثلة بعلاقته مع الأب كامل الجادرجي، وأبلغ ما فيها أنها تعيد للباحث في الشأن السايكولوجي تلك الهيبة الزمنية التي لا تفارقها النظارة الإنسانية، لشخصية وطنية انسجمت مع روح عصرها، ومارست الحياة السياسية بكل تناقضاتها الحادة، ومذاقاتها المتصادمة، زارعاً في آن، وحاصداً في آن آخر.
من المؤكد أن رفعة انتبه الى ما هو مثير ومدهش في حياة عائلته، وهو يحمل قدراً من التأثير في مسارات حياته، ورسم اتجاهاتها، لهذا السبب صدر له كتاب (صورة أب… الحياة اليومية في دار السياسي كامل الجادرجي)، عن مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان، عام 1985.
يقول رفعة: إن الصفات السياسية المعلنة لوالده، التي كان يتسم بها أمام الجمهور، كانت أقل من الصفات الأخرى التي لا يعرفها عنه إلا القلّة من أصدقائه، وبعض السياسيين المقربين إليه، هذه الصفات لم تدوّن بعد، لذا وجد حاجة لملء الفراغ في الشأن. المتابع لسيرة رفعة، لا يمكنه المرور سريعاً على تلك اللمحات التي تناثرث في ثنايا الكتاب، وهي تستعيد الأيام والأحلام والذكريات، كي لا يدركها الغياب من طول ما بعدت عنّا ونأت، وإذا بدت لنا من وراء شفيف ضباب السنين، وردية أحياناً، شاحبة بعض الشيء في أحيان أخرى. وفي اعتقادي أن لا إضافة مهمة لما ذكره الصديق خالد السلطاني، بتناوله المنجز المعماري المذهل لرفعة الجادرجي في مقالته (عندما تكون السيرة تمثيلاً للإبداع)، المنشورة في جريدة “المدى”، لذا ذهبت إلى المضامين المشعّة في علاقة الأب بالابن، حيث تشكل حضوراً لافتاً في السيرة. شعر رفعت منذ وقت مبكر تميز شخصية والده عن بقية رجال الأسرة، ولاحظ اختلافه عن الآخرين، يقرأ محاطاً برفوف الكتب، كان أكثر ما يردده على أولاده ضرورة قول الصدق، وتجنب الكذب، وبقدر ما كان شديد التحذير من الكذب، فإنه كان ضد البخل، كريماً يسخر من أصدقائه المعروفين بالبخل، ويروي عنهم حكايات مضحكة، وهو لا يعرف الخوف، لكنه كان كثير الحذر في الترتيب لما يحدث من اختلاطات في أحداث المستقبل المجهول.
في حياة رفعة منابت جميلة ورثها عن الأب، كان عاشقاَ مفتوناً بالتصوير وروائع الفن، منذ ان أهداه والده أول كاميرا، وهو لم يتجاوز سبعة أعوام من العمر، إذ كان كامل الجادرجي يهوى التصوير الفوتوغرافي، ويحتفظ بالصور في ألبومات حين لم يكن في العراق تصوير أو توثيق فوتوغرافي، إلا بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، الذي وقف كامل منه ومن الملكية، موقفاً معارضاَ منذ البداية، طوال حياته السياسية، وظل يعمل وفق رؤاه ومنهجه السياسي، في أن يكون العراق دولة ديمقراطية، دستورية.
لم يكن رفعة على صغر سنه يؤمن بشعائر شهر محرم، التي تحرص والدته على تأديتها، فأسمعها كلاماً جرح مشاعرها، فأخبرت والده، فبعث عليه وطلب منه الحضور، وكانت هي الطريقة التي يخاطب بها أولاده، فقال له: ليس من حقك أن تتدخل في اعتقاد الغير، اعتقاد أمك أو الآخرين، كان هذا درساً بليغاً لرفعة، ظل بعده يحترم شعائر الدنيا كلها طوال حياته. ولكي لا يصاب بالغرور كان كامل يلجأ إلى النصيحة على طريقة المحاضر، وأسلوب الوعظ والإرشاد.
في إحدى سنوات المتوسطة أكمل رفعة في أحد الدروس، فسأله والده عن السبب، فكانت إجابته، الدرس صعب، فعلّق مقتصراً على القول: إن موضوع الدرس ضمن المنهاج الدراسي الذي لم يبرمج للعباقرة والأذكياء، بل لذوي القابليات المتوسطة.
تعرّف رفعة على فتاة من أبناء جيله، علم والده أنه يتجول معها مساءً في منطقة الوزيرية، فطلب منه أن لا يعرّض نفسه والفتاة إلى الخطر، وطلب منه إقناعها بأن ترافقه الى داره، وهو ما فعله رفعة، والدرس الآخر الأكثر صرامة، ذلك المتمثل بالتحذير من الزواج بأجنبية، حين كان رفعة يستعد للسفر إلى إنكلترا لإكمال دراسته في الهندسة المعمارية، إياك يا رفعة مهما كان الإغراء، ستكون حياتك الزوجية غير مريحة، في حال عودتك إلى الوطن. لذلك كان زواجه من بلقيس شرارة عام1953، بلا بدلة عرس أو حفل زواج، ولا صورة تلتقط بالمناسبة. عاد رفعة إلى العراق عام 1952، وعندما وصل قدّم له والده سيجارة وهو الاعتراف منه بأن باستطاعته التدخين أمامه، بعد ان كان يدخّن من دون علم والده. وكانت سياقة السيارات بسرعة إحدى هوايات رفعة، التي دعت والده إلى أن يوبّخه ذات مرة بالقول: إذا كانت هواية، فالأمر يعود لك، لكن لا تعرض حياة الآخرين معك للموت.
لم ينتم رفعة لأي حزب، رغم تأثره بالأفكار الماركسية، وكان يناقش والده دفاعاً عن الشيوعية، كحل حتمي ضمن التطور الاجتماعي في مراحل التاريخ، فيردّ الأب، أن هذه العقيدة ليست قاطعة في التاريخ من الناحية النظرية، كان رفعة يستشهد بأقوال لستالين، بينما يرى الوالد أن هدر الحريات والديمقراطية في (الاتحاد السوفييتي) يرجع إلى سياسة ستالين بالذات، ولكامل الجادرجي آراء غير إيجابية في شخص يوسف سلمان (فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي.
إلا أن أفكار رفعة تحولت نحو الفكر الإنساني الحر، وبدا تأثره واضحاً، في المتغيرات الجديدة في الثقافة والفن منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. وشهد الوضع السياسي في العراق تحولاً نحو إلغاء الأحزاب، وتعطيل الصحافة والبرلمان، وحكم على كامل الجادرجي بالسجن لمدة 3 سنوات، اضطر رفعة إلى رهن الدار ومقر الحزب الوطني الديمقراطي، وجريدة “الأهالي” في مصرف الرهون لتسديد الديون.
تم الإفراج عن كامل قبل تسعة عشر يوماً من 14 تموز/يوليو 1958، وكان له علم بما سيحصل من تغيير، بعدها شهدت تلك الفترة عملا معماريا لرفعة هو نصب الجندي المجهول، وكان كامل يتوقع زوال حكم عبد الكريم قاسم، ولم يكن انقلاب 8 شباط/فبراير مفاجئا له. فطلب من رفعة مغادرة الدار تحسباً لما سيحصل.
استمر كامل الجادرجي ليس ببعيد عن المناخ السياسي، معتل البدن، إذ توالت عليه نوبات القلب، بعد أن أكمل السبعين من العمر، فتوفي في الأول من فبراير عام 1968، وكان فقدانه خسارة كبيرة لرفعة، لا كأب فقط، بل كمرشد ومفكر سياسي، فقد ترك فراغاً كبيراً في حياته، إذ كانت العلاقة بينهما علاقة خاصة، علاقة صداقة خالية من الخلاف الحاد والنقاش، وتكفي إشارة بسيطة من الأب لأن يعدل رفعة عن قراره.
كانت السيرة نفحة من عطر الماضي بكل ما أنجزه رفعت، في مسرّاته وأحزانه، لكنه مفعم بما حققته الطبقة الوسطى العراقية من ثراء وإبداع في ميادين الحياة، وكان رفعت وأبوه من روادها الأوائل.