هل من حق الدولة احتكار حياة مواطنيها؟
يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، إن الدولة هي المؤسسة الوحيدة التي تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة، وهنا يجب وضع ألف خط وخط تحت كلمة «الشرعي»، لأن هذه الكلمة هي التي تفرّق بين استخدام الدولة للقوة المشروعة والمستمدة من شرعيتها، وما يستخدمه الآخرون من قوة خارج نطاق الشرعية، لأنهم ليسوا مخولين قانونيا بذلك.
وعندما تخّول الدولة الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية، استخدام القوة دفاعا عن النفس وعن المجتمع، فإنها لا تعني بذلك إطلاق العنان لكل من ينضوي بالعمل في هذه المؤسسات، باحتكار حياة الناس بالقوة التي هو مفوّض باستخدامها قانونا.
إذن ما مصدر الشرعية التي أزهقت حياة عائلة مكونة من 21 فردا، بينهم أطفال ونساء، على يد قوة عسكرية رسمية عراقية قبل أيام في محافظة بابل؟ يعطي كل حدث كارثي في العراق صورة واضحة عن طبيعة العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع، والأجهزة العسكرية والأمنية من جهة، والمواطن من جهة أخرى. كما يكشف بكل وضوح عن إشكالية الشرعية في هذا البلد، وعن مصادر الاضطراب التي زرعها الاحتلال في البنية الأساسية للسلطة والمجتمع. فما زالت حتى اليوم الأجهزة العسكرية والأمنية العراقية، تستخدم العقيدة العسكرية التي استخدمها المحتل في التعامل مع المواطنين، والقائمة على أساس أن المجتمع عدو ثابت، وأن أفراده، أعداء قائمون أو أعداء محتملون. وبالتالي فإن هذا التصور يعطي الحق لكل من ينضوي تحت خيمة هذه الأجهزة، أن يكون على استعداد تام للضغط على الزناد باتجاه أي مواطن، حتى بمجرد وشاية من أي طرف. وقد قاد هذا السلوك الأعمى المترافق مع عدم التمحيص والتدقيق والمحاسبة من قبل المافوق في السُلّم الوظيفي، إلى أن يتحول التخويل باستخدام القوة من قبل الأجهزة العسكرية والأمنية، إلى سيف مسلط على رقاب الناس، يُقتل به الأبرياء. كما أصبح بطاقة خضراء بيد منتسبي هذه الأجهزة، يستخدمونه في فض نزاعاتهم العائلية والمالية والاجتماعية، وتحقيق رغباتهم ونزواتهم، وابتزاز الناس به أيضا، حتى نشأت بورصة تحدد قيمة ما يتقاضونه من أجل ذلك. فمن له مال بذمة شخص ما استعصى الحصول عليه، باستطاعته الاستعانة بأي منتسب في الأجهزة الأمنية أو العسكرية لاستحصال ماله، مقابل حصول الوسيط على نصف المال. ومن لديه دار مستأجرة يريد إخراج المستأجر منها، بإمكانه إرسال أحدهم لتخلية الدار بالقوة مقابل المال. ومن لديه عداء شخصي مع مواطن آخر فالحل موجود أيضا. وإذا ما استعصى الأمر في كل هذه الأحوال وغيرها، فإن تهمة الإرهاب جاهزة، حيث يُغيّب فيها الناس لحين إذعانهم والتنازل عن حقوقهم، أو ربما يُساقون إلى المحاكم فيُعدمون أو يُسجنون بلا جريمة.
طريقة تعامل قوات الاحتلال مع المواطنين العراقيين، ما زالت هي السياق المتبع لدى الأجهزة العراقية الحالية
وإذا كان ما حصل في محافظة بابل يشكل حزمة كبيرة من التعمد المقصود والإجرامي، في استثمار التخويل باستخدام القوة من قبل أجهزة الدولة، فإن الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة إطلاقا، لكن الجديد فيها أن تهمة الإرهاب باتت وسيلة من وسائل فض المنازعات حتى العائلية منها، ولم تعد مقتصرة على استخدامها ضد الآخرين من خارج إطار العائلة. فقد اتضح أن رب العائلة التي أُبيدت، وزوج ابنته كان بينهما خلاف عائلي، ولأن هذا الأخير يعمل في أحد الأجهزة العسكرية، فقد استعان بتهمة الإرهاب وإيواء إرهابيين على الأول.
على ضوء ذلك توجهت قوات عسكرية قوامها أكثر من عشر عجلات عسكرية مدججة بالسلاح والعناصر، وقامت بقصف دار رب العائلة بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ومن جميع الجهات، فكانت النتيجة مقتل جميع من في الدار بضمنهم 12 طفلا ونساء ورب العائلة. وهنا يبدو واضحا أن الجريمة تمت بجهد الدولة، وبالموارد المادية والمعنوية للمؤسسة العسكرية، المكلفة بحفظ الأمن والقانون والنظام العام، وإذا كانت هناك من مؤشرات خطيرة يمكن الحديث عنها فأولها، أن حجم المخاطر التي تواجه المواطن في هذا البلد، نتيجة تعامل القوات العسكرية والأمنية معه، باتت فائقة الخطورة وباهظة التكاليف، ويمكن أن تحدث في أي وقت ولأي سبب كان ومع أي إنسان. وثانيا، يتضح أن الجهد الاستخباراتي معدوم تماما، وليس هنالك من تحليل ومتابعة ورصد لأي مؤشر يتم تقديمه إلى الأجهزة المختصة، كي ترسم في ضوئه طبيعة وطريقة التعامل مع الهدف. فيبدو أن أية وشاية قابلة لاستصدار موقف من صاحب القرار، من دون تمحيص في حقيقة الأمر. وثالثا، اعتماد سياسة الأرض المحروقة من خلال الاستخدام المفرط للقوة النارية، من دون اعتماد وسائل أخرى تهيئ فرصة لإلقاء القبض على الشخص المطلوب، والاستفادة من المعلومات التي يمكن الحصول عليها منه أثناء التحقيق، أو الوقوف على حقيقة الأمر. وهذا يعطي دليلا واضحا على أن طريقة تعامل قوات الاحتلال مع المواطنين العراقيين، ما زالت هي السياق المتبع لدى الأجهزة العراقية الحالية. ويبقى السؤال الكبير هو هل من حق الدولة احتكار أرواح مواطنيها أيضا؟
يقينا لا يمكن للدولة أيا كانت طبيعتها وشرعيتها أن تحتكر أرواح مواطنيها تحت مقولة الاستخدام الشرعي للقوة، فالاستخدام الشرعي للقوة يجري في حالة حصول خرق للقوانين وسلب للحريات الفردية والعامة، واعتداء على منظومة القيم والأعراف المتبعة، والإضرار بالسلم والأمن المجتمعي، وخلاف ذلك يعتبر استخداما خارج إطار القانون للقوة، ولا يمكن للسلطة أن تتهرب من المسؤولية، بتبريرات تفتقر إلى الحياء، كما نراه دائما في العراق. ففي كل حادثة يندى لها جبين الإنسانية، تخرج علينا تصريحات من هم في الجزء العلوي من السلطة، يبررون كل الجرائم التي تحصل على أنها تصرفات فردية، أو أن من قاموا بارتكابها هم عناصر محسوبة على هذه المؤسسة أو تلك، وليس بالضرورة أنهم يمثلونها، وهنا كأنهم يضعون فاصلا بين تصرفات المنتسب إلى هذه الأجهزة، والدور الذي يجب أن يلعبه هذا الجهاز في تحقيق الأمن وإنفاذ القانون. في حين يعلمون تماما أن تصرفات المنتسبين إلى هذه الأجهزة يجب أن تكون متناسقة مع الدور القانوني المنوط بتلك المؤسسات. وهذا لن يتحقق من دون وجود رقابة مشددة مع وضع عقوبات رادعة لمن يمارس هذه السلوكيات.
إن الجريمة التي حصلت في محافظة بابل، سلطت الضوء على الكثير من الجرائم الأخرى التي حدثت في الماضي، وقدمت إجابات واضحة عن الأسباب الكامنة وراء عدم الكشف عن مرتكبيها، لأنهم ربما يكونون قد استغلوا التخويل باستخدام القوة الممنوح للأجهزة الحكومية التي ينتسبون إليها. كما أنها أوضحت الأسباب الحقيقية وراء اختفاء مئات الآلاف من الناس، من دون معرفة مصيرهم أو الاستدلال على أماكن اختفائهم. فإذا كان تسويق تهمة الإرهاب يجري بهذا الشكل الفاضح في العلن، من دون تدقيق وتحقيق وتمحيص، فكيف سيكون إذن في السر. وربما سيكون السؤال الأكبر والأهم هو كم عدد الناس الذين قضوا ظلما وعدوانا بوشاية الإرهاب ثم أُعدموا وهم أبرياء؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية