علاء اللامي*
كتبت إيناس خنسة: “عام 879 قبل الميلاد، في الاحتفال بتأسيس مدينة نمرود (سأوضح موضوع كلمة “نمرود” ومن أين جاءت في نهاية المنشور.ع.ل)، كعاصمة للإمبراطور الآشوري آشور ناصر بال الثاني، أقيمت وليمة ذاع لها صيت أقرب للعجب. حيث عثر على نقش ملكي يسجّل لهذا الحدث في القصر الشمالي الغربي هناك، ويتضح منه أن هذا الحفل الضخم دعي إليه 69.547 ضيفاً؛ أكلوا وشربوا ما مجموعه: 2000 من الثيران والعجول، و16 ألف من الأغنام والماعز، و10 آلاف حمامة، و10 آلاف قارورة جلدية من الخمر، تناولوها على مدار 10 أيام. ومن مدينة نينوى بالعراق، توضح النقوش الأثرية موكباً من الخدم يجلب الطعام لمأدبة الملك الآشوري سنحاريب (705/704 – 681 قبل الميلاد)، يحملون عناقيد “عُذوقا” من التمر الطازج، وأكواماً من الرّمان والتفّاح وعناقيد العنب/ من مقالة بعنوان “ولائم أسطورية على أرض الرافدين”. *ومن كتاب “من سومر إلى التوراة” للباحث الراحل د. فاضل عبد الواحد، أقتبس لكم الفقرات المختصرة التالية من مسلة الملك الآشوري المذكور، حول الحدث نفسه: “عندما رعاني السيد العظيم آشور بأنظاره وبانت للعيان قوتي بأمره المقدس …أخذت على عاتقي تجديد مدينة كلخو، فبعد أن أزلت الأنقاض من ذلك التل القديم، ابتدأت بالحفر وصولا إلى مستوى الماء. ومن مستوى الماء حتى القمة كانت المسافة 120 صفا من الآجر. أقمتُ قصرا من خشب البقس والتوت والأرز والفستق والطرفاء والحور… حفرتُ قناة من نهر الزاب الأعلى قاطعة الجبل عند قمته وسميتها “فاتحة الخير” (Patti hegalli) – لاحظ القرب الصوتي لملفوظ العبارة “باتي حيقالي” مع العربية الحية، فالكلمة الأولى تلفظ “بالباء البابلية المثلثة “P“ ، والتي تلفظ فاء، ليكون فاتي هي فاتح أو فاتحة، وحيقالي حق أو خير كصفة ع.ل- ، وسقيتُ المروج على ضفاف نهر دجلة وزرعتها بجنائن من كل صنوف أشجار الفاكهة… أما المدن التي أصابها الخراب في أيام آبائي فقد جعلتها مأهولة بالسكان ثانية إذ أنزلتُ فيها أعدادا من الناس لا تحصى…ولقد جمعت قطعانا من الثيران والأسود والنعام والحُمر (ذكورا وإناثا) وجعلتها تتكاثر وأضفت إلى بلاد آشور مزيدا من الأرض”. ويضيف الباحث د.عبد الواحد “وقد يُظَن أن في بعض الأرقام التي ذكرها الملك الآشوري شيء من المبالغة، ولكن هذا الشك سرعان ما يتبدد عندما نعرف أن عدد الذين شملتهم الدعوة في تلك المناسبة بلغ 69547 شخصا، منهم 16000 شخصا من أهالي العاصمة كالح نفسها، و1500 من موظفي القصر الملكي، أما البقية وعددهم 52074 شخصا فكانوا ضيوفا من كافة المقاطعات والأقاليم الصديقة والتابعة للإمبراطورية الآشورية. ص 78 / من سومر إلى التوراة“.
*بخصوص تسمية النمرود التي أطلقت على مدينة كالخو / كلح، وعلى الملك الذي بناها، ذكرته التوراة فقط ، ولا وجود لاسم نمرود في التراث الرافداني القديم وهو بعشرات الآلاف من الألواح الطينية المسمارية والتماثيل والجداريات، بل أطلقته التوراة على ملك يحمل هذا الاسم، وقالت إنه ملك شنعار الذي تحدى الله وقتلته ذبابة دخلت في أنفه. وكلمة “شنعار” يفسرها بعض الباحثين على أنها تعني بلاد سومر، ثم أطلقت على مدينة كالح أو كالخ، واسم نمرود التوراتي لا أصل له في كل المدونات الرافدانية – كما قلنا – لا كملك ولا كمدينة ولا كجبل، وتُنَسِّبه التوراة فتقول إن “نمرود هو ابن كوش، حفيد حام، وابن حفيد نوح. وهذا كلام لا يعول عليه تأريخيا، فهو يجعل الملك الآشوري وربما الآشوريين كلهم من نسل حام وليسوا ساميين بمصطلحات التوراة، وهناك خرافات توراتية كثيرة مماثلة في الأنساب من قبيل اعتبارها العيلاميين من الساميين وهم لا علاقة لهم بهم ولا بلغتهم، أما الكنعانيون – سكان فلسطين القديمة الأصليون – فتعتبرهم من الحاميين بقصد جعلهم غرباء عن وطنهم، وفي علم الأعراق والأجناس البشرية “الإثنولوجيا” الحديث يعتبر هذا الكلام التوراتي خاطئا تماما وتخليطا لا معنى له.
ومن الجدير بالذكر أن اسم النمرود أطلق على أكثر من مكان في العصور اللاحقة فهناك “جبل نمرود في جنوب شرق تركيا ، على بعد 40 كيلومتراً إلى الشمال من كاهتا بالقرب من أديامان ، ويبلغ ارتفاعه 2206 متراً. وهذا الموقع الأثري ينسب لأفروديسيس. يرجع تاريخ معبد أفروديت هناك إلى القرن الثالث قبل الميلاد ، وتم بناء المدينة في القرن الثاني قبل الميلاد“.
وفي السياق، فلم يرد ذكر “النمرود” في القرآن، ولكن وردت قصة ملك جبار عنيد لم يُذكر اسمه، ولكن بعض المفسرين المسلمين القدماء، المطلعين على السردية التوراتية والذين أخذوا عنها ضمن ماعرف بـ “الإسرائيليات” هذه المعلومة، أعتبروا أنه هو النمرود، ومن ذلك قول الطبري “إن بناء برج بابل بواسطة النمرود هي سبب لعنة الله التي انشأت اللغات المختلفة”. وهذا التفسير التوراتي كشفت العلوم الحديثة ” الآثارية واللغوية والإناسية” خطأهُ لأنه يفسر كلمة بابل بلعنة بَلْبَلَةِ الألسن واللغات بعد أن تكاثر البشر، أما التفسير الصحيح لاسم بابل فهو باب أيل أي باب الإله أيل، كبير الآله القديمة وورد الاسم في أحد النقوش الرافدانية كالآتي ( «إيل كوني أرش» الذي يعني «إيل مكوِّن/ خالق الأرض»، وكوني أي كوَّنَ، أو مُكَوِّن، وأرش أو أرص، هي أرض باللغة العربية الحية، هنا نلاحظ شدة قرب اللغة الأكدية القديمة من شقيقتها العربية الحية.
الصورة: لوح آشور ناصربال الثاني، وهو عبارة عن مَسَلة ضَخمة من الحجر الجيري تُصَور المَلك واقفا وبيده صولجان الإمبراطورية وباقة من الزهور أو الثمار وقد دونت عليه إنجازاته.