قواعد العشق الأربعون لإليف شفق: سردية الحب: بين غائية الوجود وفاعلية التلقي
تحظى بعض الأعمال بشعبية لافتة حيث تتكرس في ذاكرة التلقي بوصفها من الأعمال التي أمست جزءاً من سردية العصر الذي تولدت فيه، لكن يبقى السؤال هل تصمد هذه الأعمال بحيث يمكن أن ندرجها في ما بعد ضمن قائمة الأعمال الخالدة أو العظيمة؟ الإجابة تحال إلى وقائع المستقبل، وأفق التلقي وتحولاته في زمن ما، لكن تبقى قدرة العمل على أن يحتمل خطاباً إنسانياً، كون العمل الروائي ينبغي أن ينشغل بأسئلة هذا الكائن، أو الإنسان الذي يمتلك جوهراً من الصعب أن يتبدل، حيث الحب، والكراهية، والأنانية، والتسامح، والتطرف، والطمع، والحسد.. تبقى جزءاً من ماهيته الخالدة، فلا عجب أن تبقى هذه الثيمات رافداً لا ينضب، كما سنقرأ في رواية «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركية إليف شفق.
يشار إلى أن من الأعمال التي تبدو لي على قدر كبير من التماثل على مستوى الانتشار رواية «الخيميائي» للكاتب البرازيلي باولو كويولو، من منطلق أن هذا النوع من الأعمال يبقى في سياق لا يبدو متقدماً على مستوى الأفكار والتقنية، غير أنه يتمكن من الولوج إلى نفوس القراء بسلاسة ودهشة تستحق التأمل. ولعل حيوية النص تكمن في خفته، وشفافيته المفرطة في عالم معقد يفتقر لتلك المساحات التي لم يعد لها مكان في ظل هيمنة القيم المادية، وهي نصوص تضطلع برؤية فلسفية ذات طابع عرفاني للحياة؛ ولذلك تجد صداها هائلاً لدى الكثير من القراء، بل إنها تجتاح الثقافات كافة عبر الترجمة، بخطابها الذي ينزع نحو تفعيل القيم الإنسانية، وعبر تجاوز الاختلاف، والأحكام المسبقة، خاصة مع تنامي الحساسيات تجاه الآخر، كما بروز نموذج الصراع الحضاري في العقود الأخيرة؛ كبروز الكراهيات المتبادلة بين البشر بداعي الاختلاف العقدي، أو الأيديولوجي، في ظل تنامي حروب دينية باتت جزءاً من ثقافة عصرنا، ومع ذلك تبقى الذات جزءاً من ماهية النص، الذي يتمكن من اختبارها ضمن الأسئلة الكبرى، لكن عبر رؤى بسيطة لا يمكن أن نتوقعها، وهذا ما يدفعنا إلى القول إن بعض الروايات تتمكن من قرائها نتيجة اختزالها إلى مبدأ ثنائية الصدى والشعور.
تقدمية التداول
يمكن القول إن من عوامل جاذبية الرواية، وتلقيها العابر للجغرافيات واللغات عاملين: أحدهما الثيمة التي تلقي هوى لدى معظم القراء، كونها تسعى إلى خلق الإحساس بمعنى تقبل كل ما يطرأ، بالتوازي أيضاً مع جمع الرواية بين رؤية معاصرة، تتعالق بمرجعية تراثية تكبح مادية الحاضر الذي أثقل الوعي المعاصر، ولاسيما من خلال توظيف الخطاب الإنساني، وفي بعض الأحيان استحضار النصوص التي تنزع إلى تعرية غرور الإنسان، وانطوائه في مقولات كونية تتشرب وجوده في وحدة كلية.
تنهض الرواية على (حكايتين) تتوازيان على مستوى زمن الخطاب، لكنهما تتغايران على مستوى زمن الحكاية، ومع ذلك فهما يتقاطعان على مستوى الرؤية والمنظور، كما يمارسان نوعاً من التبادل والتأثير على مستوى التفكير والتحول، فالطابع الثنائي لا يتبع تسلسلاً نسقياً، إنما يتبع بعداً تناوبياً داخل الحكايتين: الأول يتصل بالحاضر عبر محكية (إيلا روبنشتاين) « السيدة اليهودية الأمريكية» والثاني عبر محكية (شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي) في القرن الثالث عشر، وضمن كل حكاية ثمة نموذج سردي ذو طابع متعدد على مستوى الأصوات، لكن النموذج الكلي للرواية يظلل مجمل السردية ضمن رؤية تنهض على تلك القواعد التي وضعها التبريزي بصحبة الرومي، إذ تذاب في تشكيل قوامه التعالي أو التسامي على المتنافرات كافة، وصولاً إلى الوحدة التي تجمع الوجود، مع نقد المعنى الظاهر وصولاً إلى بواطن الأشياء، وهي عملية تعتمد التعدد السردي الذي يخضع لأكثر من تفسير، أو زاوية رؤية.
هذه الصياغات الجمالية والروحية تجعل الرواية ذات طاقات متفردة في مخاطبة الذات الإنسانية، على الرغم من أن الرواية لا تقدم تلك المتعاليات من الأفكار العميقة أو التفسير لسياقات محددة، كون الرواية معنية بتجاوز مقولات الزمن والجغرافية والحدود، ومن هنا فهي توصف بأنها رواية عابرة للثقافات والحدود.
لا يمكن أن ننكر إن مرجعية الجزء المتعلق بجلال الدين الرومي والتبريزي، يكاد يقترب إلى حد ما من مرجعية القصة في إطارها التاريخي، غير أن المعنى الذي ميّز الرواية، هو قدرتها على تمكين الجانب السردي، وتأطيره بصورة فاعلة ليكون جزءاً من حالة تذوق لا يضطرب في البحث عن تفعيل التوجيه الدلالي، أو الكشف عن خباياه، كونه ينبثق من التخطيط المبدئي للسرد، حيث توظيف ثنائية العلاقة الفلسفية من لدن منظريها، ونعني القطبين الرومي والتبريزي، وانعكاس ذلك على الزمن المعاصر ضمن تقنية الإسقاط، وهذا لا يمكن أن يقرأ بصورة مباشرة، إنما نلمح أثره في شخصية (إيلا) المرأة المتزوجة التي تضطرب حياتها نتيجة ارتهانها لفكرة المستقر، والمنجز، بعيداً عن فكرة الحب والتسامي، وتصاعد مبدأ الخيار والإرادة، مقابل الاستكانة والتسليم، وهذا يعضد بالتركيز على الحكايات الأخرى داخل مروية الرومي والتبريزي، حيث تجد (إيلا) في حكايتهما سبباً للبدء في التحول، لكن الأهم فهم الأشياء عبر منظور آخر، فترى في الاستهلال (إيلا) وهي ترفض زواج ابنتها من شاب غير يهودي، بالتوازي مع سخريتها من وقائع الحب، ما يعني تراجع القيم الروحية داخل المرأة؛ مما يحفزها للبحث عن تأمل ذاتها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه لحظة تكوين الحكاية عبر اختلال التوازن ضمن المنطق البنيوي.
تتحدد حركة التحول في الرؤية عبر وظيفة سردية، حيث تقرر السيدة العمل في مراجعة بعض الأعمال السردية لدار نشر، ومنها رواية بعنوان (الكفر الحلو) وهي رواية كتبها رجل أسكتلندي اسمه (عزيز) اعتنق الإسلام، والتزم بمبادئ الصوفية. إنها رواية رجل اختبر مقامات التحول من حياة مسكونة بالعبثية والعدمية نتيجة صدمة، ليدرك قيم السلام الذاتي، بعد اطلاعه على الإرث الصوفي، فتنشأ تجربته الجديدة عبر الاتصال مع الحيوات، والجغرافيات، وتمكن العطاء، والانسياب مع الحدث والقدر والزمن.
في إدراك الغايات
تتشكل إحدى أهم مقولات الرواية القائمة على مركزية التعالي على التفسيرات المسبقة، وظاهرية الخطاب، وصولاً إلى حقائق الأشياء التي تتحدد قيمتها عبر مقولة تقبل الأشياء كما هي، فتتحدد تلك الرؤية التي تتقاسمها المحكيتان (التبريزي والرومي) من جهة، و(عزيز وإيلا) من جهة أخرى، ونعني الرافد عينه في مقاومة التغاير أو الاختلاف في تفسير المفاهيم المتصلة بالعالم، التي ينتج عنها صراع ديني، وهذا ما تعضده حوارات التبريزي مع الشخصيات التي يواجهها، أو عبر ما ينقله الراوي: «كان عزيز رجلا مسلماً، يرفض العنف، وله آراء إنسانية قوية، وكان يؤمن بأن جميع الحروب الدينية هي في جوهرها مشكلة لغوية. فهو يقول إن اللغة تخفي الحقيقة أكثر مما تكشفها» ولعل الرغبة في تذويب الحدود والتمايزات بين البشر تتجسد عبر صيغة نلمحها في زواج الرومي – العالم المسلم – من «كيرا» المسيحية، أو عبر ذلك التقارب بين (إيلا) اليهودية الأمريكية و(عزيز) المسلم، وهي أحد المقاصد التي تسعى الرواية إلى إبرازها، ومنه تقدم قيمة الحب على ما عدا ذلك من تمايز عرقي أو ديني أو أيديولوجي، حيث يكون الفارق في جوهر الإنسان وقلبه.
تتوإلى المواقف السردية تبعاً للقواعد التي تتصل بتقدم الحبكة، التي نستخلصها عبر التتبع السردي الممتع لرحلة التبريزي، ولقائه جلال الدين الرومي، وما يطرأ من تحول يطال الثاني، الذي يتحول من رجل دين منعزل عن أتباعه، إلى شاعر صوفي يستشعر ما في دواخل الناس، وهكذا تحقق الوظيفة السردية مبتغاها، بالتجاور مع تكوين حبكات صغرة تتقاطع مع مصائر التبريزي الرومي، ومن ذلك بناء شخصيات تمارس دوراً وظيفياً، لتضطلع بتشكيل خطاب بغية التأسيس للقواعد التي وضعها الرجلان، حيث يمكن أن نلتمس هذا التكريس السردي بغية رفض قيم التمركز العرقي أو الديني، فلا عجب أن نواجه ضرباً من التنوع للشخصيات: منها البغي، والرجل السكير، والفتاة التلميذة، والزوجة المسيحية، كما شخصية المرأة اليهودية.. وجميعها لا تخضع لمنطق التمايز والاختلاف، إنما تحكمها الرؤية الكونية التي يتقدمها الإنسان، وهذا لا ينفصل عن منطق الدنيوي، إنما تسعى الرواية إلى تبديد مقولة فصل الاعتقاد الديني عن الممارسة القائمة على التعاملات، وهكذا نلمح تكوين ثنائية (الدنيوي والديني) وتنزيلهما ليكونا جزءاً من سلوك الإنسان، مع نبذ مقولة التحجر، وعدم إدراك الغاية من بعض التعاليم والممارسات، فضلاً عن فض فكرة التسرع في الحكم على الآخرين تبعاً للظاهر، وهنا نلمح خطاباً مضاداً للكراهيات والمؤامرات التي ابتناها البعض، ومنها شخصيات: المعلم أو رجل الدين المتشدد، والحارس بيبرس، وغيرهم، كما الموقف مع السلطان عند تقديم رقصة المولوية، ومن هنا تبرز حادثة اغتيال التبريزي، كجزء من خطاب ترجمة الكراهية، فتبرز الرسالة الأكثر تأثيراً من حيث قدرة البعض على تحقيق الاغتيال الجسدي، لكن تبقى إشكالية اغتيال الفكرة أو الأفكار غير متحققة.
لا يمكن أن يكتمل النص في حدوده القصوى، إلا عبر تمكين المقاصد الدلالية كافة التي تختصرها الرواية في القواعد التي تتأسس على مقولة عدم الاكتمال، وأن الزمن في تغير دائم، كما هي الأحوال التي تطال الذات والدول والعمران، وكل شيء، وهي نزعة تطال الرؤى الصوفية، ذلك أن الرواية تشدد على رفض الحواجز بين العبد وربه، ولاسيما من قبل الوسطاء أو رجال الدين، وهنا تنهض الرواية على أن الأديان كالأنهار التي تصب في البحر نفسه، وكل ما سبق يتجاور مع تمكين رؤية الحياة، بوصفها رحلة عبور ينبغي عدم التعلق بها، وهذا ما يكنى عنه بعبارة « ينبغي ألا تسير مع التيار إنما كن أنت التيار» في حين «أن المرء الذي يعتد بأن لديه جميع الأجوبة هو أكثر الناس جهلاً ».
هذه الصياغات الجمالية والروحية تجعل الرواية ذات طاقات متفردة في مخاطبة الذات الإنسانية، على الرغم من أن الرواية لا تقدم تلك المتعاليات من الأفكار العميقة أو التفسير لسياقات محددة، كون الرواية معنية بتجاوز مقولات الزمن والجغرافية والحدود، ومن هنا فهي توصف بأنها رواية عابرة للثقافات والحدود، إذ يمكن أن يتذوقها القارئ بغض النظر عن ثقافته ومرجعيته ومذهبه. فهذا النوع من الأدب يتميز ببساطة التركيب السردي، مع توفر الرسائل العميقة بصورة بسيطة ومباشرة، والتي من شأنها أن تحدث تأثيراً لدى جمهور القراء، فيمكن للرواية أن تنال اهتمام أشد المتخصصين، كما أنها يمكن أن تنال تجاوباً من لدن ربة بيت أو عامل بسيط، أو حتى طفل… إنها رواية تتقصد عاطفة الإنسان، ومبدأ التخفف أو التطهر من القشور، وإدراك الغايات العميقة للوجود، كما أنها تحيل إلى مبدأ التسليم بتقدم الحب في صوره ومظاهره كافة على ما سواه، وهو المعنى الأعمق الذي وجدنا من أجله، وهو إحدى الصياغات الأكثر تداولاً في الخطابات الصوفية حسب ما تمثله الرواية.