أطفال سوريون يكبرون قبل الأوان وأسطورة حي «الشيخ جراح»
حرب سوريا استمرت أكثر من عشر سنوات وراح ضحيتها أكثر من نصف مليون مدني من بينهم 22 ألف طفل، وأدت إلى إصابة 2.1 مليون شخص معظمهم يعاني من إعاقات دائمة.
تلك الحرب التي أنتجت أكبر ظاهرة تهجير في عصرنا الحديث (أكثر من 13 مليون شخص هاجروا داخل وخارج سوريا) قضت على مستقبل جيل كامل إن لم تكن على أجيال قادمة. ونتيجة لتداعيات هذه الحرب الكارثية على الشعب السوري، الذي تشتت في أصقاع الدنيا قصص لأطفال هنا وهناك تدمي القلوب وتذيبها.
من أين لنا أن نبدأ؟ أمن بيروت؟
صورة تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي لطفل يدعى حسين، عمره لا يزيد عن العشر سنوات. يرتدي كنزة زرقاء خفيفة، فيها خط عريض أبيض وآخر أحمر. وبنطلوناً أزرق ممزقا.
لا معطف يقيه برد كانون الثاني/ يناير، الذي لطالما ناديناه قائلين: «كانون كن.. وعلى أخوك الفقير حنّ».
لكن «لا كن.. ولا حن على حسين»!
كان جالساً فوق حافة حاوية النفايات يقرأ كتاباً. بل كان غارقاً في الكتاب وكأنه يرغب في أن يعيش في عالم بعيد عن حروب الكبار وصفقاتهم وحساباتهم.
صورة بألف كلمة… لا ضرورة لرصف كلمات فارغة للتعبير عنها. فقط نتأمل الصورة وهي تحكي لنا قصة أطفال عالمنا المنهك.
لقد التقطها الأستاذ رودريغ مغامس، حين لمح حسين على مسافة قريبة من مكتبه، وذلك بهدف مساعدته. فما القصة؟
حسين طفل سوري نزح مع عائلته إلى لبنان هرباً من الحرب ليواجه حرباً أخرى توازي الأولى بقسوتها. حرب الفقر. حرب لقمة خبز طرية.
هكذا يبدأ يومه الطويل في الدراسة في مدرسة في «برج حمود» ويخرج من المدرسة إلى العمل مباشرة. ينتقل من حاوية نفايات إلى حاوية أخرى لجمع الخردة بهدف مساعدة والده المريض وأخوته الأربعة. ولا يعود إلى مكان إقامته إلا حين يشتد الظلام.
حسين طفل كبر قبل أوانه. لم تمنحه الحياة حقوق الطفولة. فلا وقت لديه للعب أو تسلق الأشجار أو الركض على حافة النهر أو التجمع مع أولاد الحي. لا يعرف النشاطات التي يقوم بها الأطفال في بلاد الآخرين. لم يعرض عليه درس موسيقى ولا الانضمام لتدريبات فريق كرة قدم ولا ألعاب التكنولوجيا التي تجتاح عالم الصغار.
لكنه طفل الكتاب!
يعشق الكتب، وخاصة الانكليزية ويبحث عنها في الحاويات ويشتريها من نقوده القليلة التي يدّخرها.
يسأله مراسل قناة «أم تي في» اللبنانية:
هل الكتاب أفضل من اللعبة؟
يجيبه بكل ثقة: «أكيد.. بحب أقرأ كرمال أكبر وصير أستاذ.. لو لعبت ما أستفيد أي شيء..»!
يسعى مغامس، الذي تربطه اليوم علاقة إنسانية جميلة بحسين إلى التواصل مع جمعيات لمساعدة بطلنا الصغير ومساعدة عائلته، بهدف التوقف عن العمل والانصراف الكلي للدراسة.
حسين، الذي أنهكته الحياة ورمت بأثقالها حول كتفيه لم يستسلم يوماً، بل كان يبحث عن النور وعن الكلمة في كل مكان حتى بين النفايات، حيث عثر على كتاب غيّر حياته.
كم من طفل سوري آخر ينتظر من ينتشله من الظلمة ويعبر به إلى الضفة الأخرى؟
جدة سورية تحكي الوجع
من بيروت إلى عرسال صرخة جدة موجوعة مدوية، وهي تروي قصتها وقصة أحفادها.
هكذا يطل علينا من أمام خيمة تكاد تهوي في أي لحظة، وجه قديم جداً. أقدم من الحياة نفسها بفعل الألم. قسمات مبلولة حفر فيها الزمن سواقيه بقسوة. ويدان ترتعشان من الوجع ترفعهما نحو السماء شاكية حالها وحال الصغار.
لقد استيقظت صباحاً على صوت أحفادها وهم يقولون لها:
«يا تيتي بردانين»!
وقفت بسرعة، رغم مرضها وإصابتها بجلطة ثلاث مرات متتالية في رجلها. وأحضرت «تنكة» لتخرج بها إلى الشارع فتملأها بكل ما عثرت عليه من «شحاحيط» وقطع قماش صغيرة، ثم أشعلتها كي تمنحهم شيئاً من الدفء، لكنها أحرقت يديها.
تفتح كفها بصعوبة وكأنها تفتح لنا حياتها بكل الأيام التي عاشتها حتى الساعة. فنجد حروقاً ودماءً ودمعاً مكثفاً وألماً.
أحرقت كفها لتدفئ أحفادها لكنهم مازالوا يشعرون بالبرد القارس.
تبكي بلوعة شديدة متسائلة:
«أنا امرأة كبيرة.. شو بدي أعمل.. والله ما في شي كرمال الله ساعدوني…»؟
وأحفادها ملتصقون بعباءتها السوداء، خائفون يحاولون الاحتماء بها.
حال الجدة من حال نازحين كثر يعيشون في ظروف لا تليق بالإنسان والإنسانية ينتظرون من يؤمن لهم قوت الحياة وغرفة دافئة.
من سوريا إلى فلسطين
لن تهدأ القدس ما دام هناك تهديد من المستوطنين الإسرائيليين بطرد عائلات فلسطينية من منازلها في حي «الشيخ جراح» في حملة تطهير عرقي مشينة.
إنه صراع مع احتلال وحشي وعنصري مقيت مستمر لسنوات طويلة. منذ انتقال تلك العائلات من يافا عام النكبة الأولى وحتى بدأ نزاعها عام 1972.
والهدف هو تغيير ديموغرافي من خلال إجبار السكان الفلسطينيين على التخلي عن بيوتهم.
توتر بركاني. قد يخفت قليلاً ليعود ويشتعل من جديد مع كل محاولة استيلاء جديدة.
لقد نشر قبل أمس موقع «درج» الالكتروني خبر اقتحام قوات الاحتلال لمنزل عائلة صالحية بهدف الاستيلاء على الأرض المحيطة به، وكل ذلك بذريعة «المنفعة العامة» وإقامة مدارس عليها.
لكن العائلة، التي خاضت معارك طويلة في المحاكم لحماية منزلها ترفض إخلاءه وتعتصم داخله تنديداً بالقرار. كما هدد أفرادها بإحراقه إن أجبروا على الإخلاء.
تصرخ سيدة مسنة من العائلة وبكل ما أوتيت من قوة في مقطع فيديو انتشر بسرعة البرق على مواقع التواصل الاجتماعي:
لاحقينا لهون لوين بدنا نروح؟
هيدي فلسطين عربية.. ثم تضرب على باب منزلها وتعيد تكرار الجملة نفسها، علها تحفرها في ذهن العدو.
كل ذلك يحدث في ظل تواطؤ عربي مخجل على الصمت وعقد الصفقات والتطبيع المخزي.
أما ردود الأفعال الدولية فهي تصعد حيناً داعمة للقضية الفلسطينية لتعود وتغط في سبات عميق.
كاتبة لبنانية