المقام السالب في
السرد غير الطبيعي
«المسرود له» طرف من أطراف البنية السردية، ومكون من مكونات خطابها الداخلي، لكنه لوحده يعد إشكالاً مهماً، لا من ناحية التفكير في فاعلية عمله وطبيعة ما يؤديه داخل هذه البنية السردية، وإنما من ناحية تعالق هذه البنية أيضا مع أطراف خارجية، تتمثل في المؤلف المنتج والمتلقي القارئ. وعلى الرغم من التنظيرات القيّمة التي قدمها جيرالد برنس وسيمور تشاتمان وغيرهما لبنية المسرود له، فإن هناك مواضعات معينة في هذه البنية ما زالت بعيدة عن النظر النقدي، ولاسيما إشكالية دوره في السرد غير الطبيعي كروايات الخيال العلمي وقصص الأطفال وسرديات الذكاء الصناعي التفاعلية، وغيرها من السرديات التي فيها يشطح الفعل السردي عن محاكاة الواقع، ذاهباً صوب محاكاة ما هو غير واقعي.
فما أهمية المسرود له في بناء السرد غير الطبيعي؟ وما طبيعة علاقته بالطرفين الآخرين (السارد والمسرود) المشتركين معه في البنية الداخلية؟ وهل تكون لفاعلية دوره علاقة بطبيعة الموضوع الثيماتية المصورة سردياً، والصيغة التي عليها يكون المسرود له؟ أم يحق لنا أن نتصور أن ليس للمسرود دور وفاعلية أكثر من مجرد دوره المعروف وفاعليته المتعارف عليها؟ ما الذي يتغاير في وظائفية (المسرود له) في السرد غير الطبيعي؟ وهل يكون ذا فاعلية أكثر من فاعلية ما اعتيد منه أن يعمله في السرد الطبيعي؟ ومتى يصح قولنا إن القارئ هو نفسه المسرود له في روايات الخيال العلمي والقصص التي تستعين بأعراف المرويات الشفاهية وتحاول استثمار لا واقعيتها، مطوّعة إياها بطريقة عصرية؟
ليس يسيراً الإجابة عن هذه الأسئلة، فالتنظير فيها ما زال في أوله، ولأن البحث عن العينات في المجال السردي، الذي نقصده ما زال هو الآخر محدودا بمحدودية استثمار موضوعات السرد غير الطبيعي، أعني الإفادة مما في مرويات القرون الأولى الشفاهية، ومرويات العصور الوسطى، من أساليب وممكنات قصصية، فضلا عما في كلاسيكيات الرواية العالمية من ابتداعات، كان قد عفا عليها الإنتاج السردي الواقعي اليوم، وجعل منها متحفاً تتحنط فيه تلك الابتداعات، مثل هياكل خاوية لا حياة فيها وغير معاد إنتاج ما أفاضت به على السرد من جديد يتعلق بدور (المسرود له) الذي يمارس فاعلياته تارة باستكمال دور السارد والمسرود، وتارة أخرى باختلاط عمله مع عمل قارئ ضمني وعمل آخر فعلي، قد يكون متلقيا سامعا، وقد يكون قارئا ناقدا أيضا. وما نجده موظفا من السرد غير الطبيعي يظل بمثابة استثناءات هي محاولات فردية وهي قليلة في العموم. وليست محدودية هذه المحاولات وتباطؤية استثمارها في المنجز السردي العالمي الراهن مختلفة بين آداب الأمم جميعها، ولا هي مقصورة على أدب أمة بعينها. وما دام السرد فعلا إنسانيا، فإن واقعية ما يتناوله على اختلاف أجناسه تظل واحدة، وإن تغايرت الصور وتنوعت الألوان وتباينت الطرائق وتعددت الاشتغالات. ومن هنا تبدو شائكية ما ينبغي للنقد القيام به، من مواكبة تستنهض منظوراته وتديم فاعليته. وليست إشكالية هذه المواكبة هي في المنظورات، وإنما في ممارسة عملية السرد الذي هو نفسه غير مستقر الأساليب في حال، ولا يتحصل من واقعيته أي مآل، قد يتيح للنقاد الوقوف عنده وتوضيح أحواله، لاسيما إذا وضعنا في بالنا أن الواقعية مفردة شمولية في دلالاتها وكلية في معطياتها، وجامعة لما حصل ويحصل وسيحصل.
ولا خلاف أن الإرسالية الإبلاغية في أدبيات النقد ما بعد البنيوي، لم تعد بين السارد والمسرود والمسرود له مكتملة دون المؤلف/ القاص الذي يلتقي بالقارئ على المستوى خارج السردي.
وواحدة من إشكاليات هذه المواكبة النقدية للسرد، تتمثل في المسرود له من ناحية أدائه لدوره الواقعي المتخيل أو من ناحية خرقه لقوالب السرد الواقعي الضيقة. لا أعني من ناحية الاعتراض على المؤلف ومشاكسة السارد والمسرودات، فذلك أمر تقاني يدخل في باب الاشتغال الميتاسردي، وإنما أعني ممارسته دور السامع الذي يمرر انتقاداته السردية، معبراً عن وجوده كفاعل سردي لا يقل شأنا عن السارد ومدللا أيضا أنه لا ينتمي إلى بنية السرد الداخلية فقط، بل هو قادر على أن يمتد إلى خارجها، ويضع يده في يد القارئ متعاونين مع أو ضد المؤلف والسارد معا، من خلال قيام المسرود له بدور المنتقد الأخلاقي والاجتماعي لما يحاول السارد تمريره من أوهام، بها يستولي على القارئ الفعلي، وقد يصادر وجود القارئ الضمني أيضا، فارضا هيبته عنصرا ليس له منافس داخل السرد وخارجه. وبذلك تكون لأدوار المسرود له أهميتها، لأنها في إيجاز تصب في باب استعادة السرد غير الواقعي لواقعيته.
وأن الذي يجعل للمسرود له كل هذه الأهمية، ليس اشتراكه في البنية السردية حسب، وإنما هي هيمنته عليها هيمنة تجعله مؤثراً في العنصرين الآخرين السارد والمسرود، وربما مسيِّرا لهما. والسبب أن ماهية عمله الواقعية تتصادى مع وظائفية ما في السرد من اللاواقعية، ويساهم تصاعد التخييل في تقليص المساحات اللاواقعية فيتقارب عمل السارد وعمل المسرود له. وتعاد على أساس هذا التقارب عملية ترتيب المسار السردي غير الطبيعي من جديد، لتكون المحصلة هي واقعيته. وليس من حقنا أن نقابل هذا التقارب وذاك الاتساع اللذين يتمتع بهما المسرود له بما لمثيله في السرد الواقعي. والسبب ببساطة هو أن بروتوكول عمله متغاير وغير اعتيادي، فهو يستند في كثير من أفعاله إلى استلهام التراث السردي الذي فيه يشتغل السارد حكّاء والمسرود له سامعاً، تعتريه اعتمالات التصديق واللاتصديق، فيفصح عنها بحرية وبلا أعراف أو مواضعات يمتثل لها فتقمع تحرره، أو قد تداري على عفويته وتكبت انطلاقه الحر. ولا يعني توصيف المسرود له في السرد القديم بأنه كائن حر، أن السرد الحداثي قامع أو متناس لكينونة هذا العنصر، بل العكس إذ أن له ممارسات شعرية وأليغورية كثيرة، لها صلة بما يتركه السارد من فراغات، تحمل المسرود له على تأدية دور مهم في حض القارئ على التفاعل ودفعه فنياً نحو ملئها.
ولا خلاف أن الإرسالية الإبلاغية في أدبيات النقد ما بعد البنيوي، لم تعد بين السارد والمسرود والمسرود له مكتملة دون المؤلف/ القاص الذي يلتقي بالقارئ على المستوى خارج السردي. وهو ما يجعل الأدوار العاملية في السرد مقننة بتنويعات جديدة، لاسيما دور السارد الموضوعي، الذي ما أن يجد المسرود له يتدخل في عمله ويشغل مقاماً يريد من خلاله أن يعرف كيف يشتغل المحكي السردي، حتى يشير إليه واصفا بعض حركاته الخطابية. وقد يخبره ببعض المعلومات حول حبكة القصة، أو يجعله في زمن خارج زمن الكتابة، أو يجري معه حوارا مزيفا هو مستحيل على الصعيد اللفظي، وبما يقرِّب دوره من دور القارئ. وتطلق كارول تيسي على هذا الدور اسم (المقام السالب) الذي بسببه يمكن للمسرود له أن يكون صورة للسارد، وليس صورة للقارئ الذي سيصير مشاهداً، وقد يتراكب دوراهما، لكن لا يتداخلان؛ فيظل للسارد عالمه وللمسرود له عالمه.