العدالة العمياء…
الروائي/عبد الجبار الحمدي
بين حانات الخمارة يروج بضاعة خمر الحديث المنتهي صلاحيته بسعر رخيص صائحا… اشتروه بثمن بخس انسوا سكرتكم الاولى، إنها بضاعة ليست محلية، اللسان فيها لا ينضب ولا يتوقف عن السب والشتم والتحليل السياسي أو التحليل البولي هههههههههههه إنه ميد إن نون كونتري نير باي، تعالوا يا حثالة الزمن البعيد والقريب، تعالوا أيها المتعبون على الأرض هلموا… قفوا طوابير سأسلم لكم السنة دون تعريفة او دفع مسبق أو آجل فقط أحيلوا ألسنتكم على التقاعد كما هو حالكم أليس هذا بعرض مغري؟
لا تكثروا الحديث بلا معنى، لا تجعلوا الوقت مطفأة سجائر على موائد ذات كوس مليئة بخمر مغشوش، لا تنتظروا أمل مرمي معكم في ركن مظلم فكلاهما فكي رحى للعمر والمستقبل بعد أن تراكمت تضاريس الزمن، كممت الافواه في الخفاء والعلن، مزق الصمت ثوبه المرتهن، باع نفسه كعبد لكن بلا ثمن، انتم ومن معكم وفيكم يا وطن، فاسدين كزهرة في مستنقع الدمن، وإلا هل رأيتم شعب يذبح كالقرابين؟ ويدق على الدفوف نحن حماة الدين فكلكم لادم وادم من تراب وطين، صرخ صاحب البار والحانة هيه أنت… من سمح لك بالدخول؟ وكيف تبيع الخمر في حارة الخمارين ألا تعلم أن لهذه الخمارات آذان وعيون، كيف تستغني عن حياتك؟ هيا إذهب عليك لعنة من رأى في الوطن سكارى وما هم بسكارى…
سيدي صاحب الحانة: على مهلك، أتظنني جئت خمارتك بالخطأ مثلا؟ أقسم برأس القنينة والبار، وما كتبه من وصفة العطار صاحب الفالة والمكوار أني قد رهنت نفسي إليهم بعهد أني سأبيع هذه الألسنة التي لم تتذوق الخمر من قبل، هم أدرى بذلك وما انا سوى بائع متجول لا يفقه سوى حديث اللسان، فما بالك إذا كان لسان مدرب على النفاق، الرياء، الكذب وطمس الحقائق، أليس ذلك من العجائب، لا تكثر من الكلام فخير الكلام الصمت والخرس فهناك عيون وعسس…
لم يكثر صاحب الحانة بعدها الكلام، فعاد صاحب الألسنة يصيح هيا يا قوم أو لستم قوم متحضرين تركتم البداوة والجاهلية… تنفستم الصعداء قولا وفعلا، شربتم لبن الأسود وصرتم فصحاء في اللسان والبلاغة… أوليس أجدادكم أصحاب المعلقات، راكبي الأفخاذ والاسواق العكاظية، او ليس هم من فتحوا الأندلس وبقروا بطن الجاهلية؟ بين قوسين أقولها ( قطاع طرق ) ماذا يمكنني ان أخبركم فكل ما عليكم إستبدال ألسنتكم بمسميات مفردات كي تزدهر اللغة العربية ألم أذكر أنها قديمة مسمارية… فلا تخسروا شيء إنه مجرد لسان كل ما عليكم لويه قليلا لتستوعبوا اللعبة فعالمكم الخارجي مثل عالمكم المخمور هذا إلا ان شرابه إما دخان أو حبوب هلوسة… إنكم يا حثالة الألسنة المُعَول عليكم في نشر الجاهلية… فالخمر مباح، الفسق مباح، الفجور مباح، الزنا متعة مباح، اللواط رغبة متاح من بداية الليل حتى الصباح…. إن عالمكم سيد الموقف فما هو رأيكم من يستبدل لسانه بلسان خام، مجرب بلعق الأحذية وما بين الأفخاذ لذكور كانوا أو إناث… على الأرض وبدون سجادة أو أثاث…الوجوه الفاقدة للعقل همت مثل البقر تصطف وهي تترنح معلنة الاستسلام لرغبة الدولة الجديدة، فدنيا الخلاص أسهل من وجع الراس وفي كل مرة تشتد الضروس يتذكرون السؤال عن عباس الذي اختفى بلا لسان او راس، الكل كان واقفا في الطابور إلا واحد كان لا يريد الاستبدال قائلا: لِسان تعرفه خير من لسان لا تعرف عنه شيء، حكمة مخمور تَمَسك بها حتى بعد أن غير الجميع ألسنتهم، صاروا يلوون المفردة ويمطونها إسوة بمن أمتدت أيديهم للسلطة فغيروا علامات الإستفهام الى تعجب، أزاحوا الفواصل، ختموا على مؤخرة الساسة بالصالح للعمل، وزعوا بطاقات منا وعلينا، ساهموا برفد الوطن بالظلام، أشحوا عليه بالماء والهواء، قَفوا يحدثونهم عن قيم فاسدة كما هي انفاساهم…
أقترب البائع قائلا: ألم تسمع؟ أني استبدل اللسان بالسان دون مقابل، أوليس بينك وبين من استبدله جوار وقرابة مائدة توافق؟ لم لا تفعل ما يفعلون؟ أم تراك من اصحاب الحديث الخارج عن الملة ترغب في صنع بلبلة وعلة؟ ألا تعلم أنك من المصطفين للتغيير، هيا لا تدعني أفعل ما لا ترغب فلست على فعله راغب وإنما مجرب، فأنا كما المُبَشِر عملي يقتضي تفكيك البنى التحيتية للألسن مرغما إياها على الشبهة والضلال وهذا فلك لا مخرج منه، أعلم أنه من المساواة والعدالة أن يكون الاستبدال بشكل واحد وسياق مدروس، هذا إذا كنت تعلم رؤية افلاطون وأرسطو، فلا العدل يمكن ان يدوم ولا المساواة جديرة بأن تتخذها العدالة وساما أبديا، صدقني إني مجبر على صياغة العبارات كما هي، إن عملي غرضه تفكيك الأخلاقيات والمثاليات، لا يسعني إلا الكلام بحديث الأولين وهو كلام لا تستسيغه عيون او قفا أو حتى أضلع، فالكلام المبرح مثل الضرب المُبَرح… نعم نؤمن بالحرية الفردية ولكن تحت مظلة الشكلية فقط
دون ان يكمل حديثه جاءه الرد: إسمعني يا بائع الألسنة، سنين تاه العد فيها وأنا أشرب من نفس الخمر المشبوه في صناعته، أشرب رغم علمي أن خلايا وبراعم نفسي أسنت من عفن الخمر الذي يصنع محليا، في رأسي دواوين من الحديث، صدقني إن قلت لك أحبذ ان يبقى لساني يخوض بها خير من لسان جديد طرق على سندان مصنوع بعيدا عن مزارع التمر أو العنب التي أعرف، إنك يا هذا تقرع أجراس الكنائس بمطرقة من المطاط، لا يسمع لها رنين ولا صوت، أما المؤذن الذي أعتدنا نسمعه يؤذن بإلإشارة فما توزعه من ألسن خرساء لا هم لها سوى بلع ما تراه أو تسمعه، فبعد ان كانت تصرخ بوجع ما تراه وتشعر به صارت تتجرعه مخاطا كما البلغم سرعان ما يخرج على شكل تغوطات مليئة برائحة ما يسمعون، شكرا لأنك لم تستبدل الأعين المليئة بالماء الأزرق، وإلا كانت حالتنا يرثى لها… شكرا للديمقراطية السمحاء، شكرا للأقدار التي حبلت بمن جاء في ليل مدلس معلنا ان القادم أسوء من قبل، أزاحوا العار وألبسوه أنفسهم وجها مستعارا فصار بديلا لكل المنافقين والمرائين….
صاحب الألسنة: الم تنصت الى نفسك وما تقول؟ من أجل هذا كانت إجراءات تغيير الألسنة واجب وطني، فنحن في عالم الثالوث محاطين بِطن وفس من الأصدقاء، شأن البعض أن يكونوا من أصحاب أبي جهل لهم السقاية والرفادة، والبعض الآخر يتصارع مع الرمال، يخوض البكاء حربا على أسباب الرزية… أما المستفيد الأكبر هو ذاك الذي أنبت بين هذا وذاك عنوان الطائفية… فيا هذا هيا قم وخذ ما اعطيك من لسان ولا تكن ممن ينشرون غسيلهم على حبال بائدة، إن زمننا وحقيقة أقول مخمور أكثر منك ومن يبحث عن الحقيقة، فلا تتعب نفسك ودماغك وإلا سيكون دماغك مباع ويستبدل بواحد على الزيرو، وأظنني فاعل هذا بك فمن مثلك يوجعون الأدمغة الأخرى، يدفعون بالألسنة الى الحديث… هيا إتبعني دون ان تنطق بحرف وإلا سأطبق عليك قانون العدالة العمياء.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي