فريتزغروبا… وزير ألمانيا النازية في بغداد
تتفاوت أدوار وأهمية الدبلوماسيين بشكل كبير، إذ نجد بعضهم لا يمثل سوى رقم مهمل في سياسات بلادهم في الدول التي يعملون فيها، بينما نجد البعض الآخر من الدبلوماسيين المميزين ممن يتركون بصمة تاريخية في أماكن عملهم، ويمكننا القول إن فريتز غروبا، الوزير المفوض الذي خدم في المملكة العراقية والمملكة السعودية في حقبة الثلاثينيات من النوع الثاني، فهو يعد من أبرز الدبلوماسيين الذين لعبوا أدوارا تاريخية في مناطق خدمتهم.
ولد فريتز غروبا (1886- 1973) في غارتس في مقاطعة براندنبورغ، درس القانون والاقتصاد واللغات الشرقية في جامعة برلين، في عام 1913 حصل على الدكتوراه في القانون، عمل في القنصلية الألمانية في القدس عندما كانت فلسطين جزءاً من الامبراطورية العثمانية. وحارب أثناء الحرب العالمية الأولى، ضابطا في الجيش الألماني المتجحفل مع القوات العثمانية، وانتقل للعمل بعد الحرب العالمية الأولى في وزارة الخارجية في عهد جمهورية فايمار، ثم عُيِّن ممثلاً لألمانيا في كابول برتبة قنصل عام 1925، وقد اتهمته حكومة الأمير أمان الله خان بمحاولة مساعدة جغرافي ألماني زائر على الهروب من أفغانستان بعد أن اتهم بإطلاق النار على مواطن أفغاني بالقرب من كابول، ما أحدث أزمة دبلوماسية بين ألمانيا وأفغانستان في نيسان/ إبريل 1926 تم على إثرها استدعاء غروبا إلى برلين، حيث عمل من عام 1926 إلى عام 1932 في قسم الشرق الأوسط في الخارجية الألمانية، وكان مسؤولاً عن قسم إيران وأفغانستان والهند البريطانية.
بعض الدبلوماسيين لا يمثلون سوى رقم مهمل في سياسات بلادهم في الدول التي يعملون فيها، بينما البعض الآخر يتركون بصمة تاريخية في أماكن عملهم
لم ينتم الدكتور غروبا لحزب العمال القومي الاشتراكي الألماني (النازي)، ومع ذلك تدرج في الوظائف المهمة في الخارجية الألمانية، نتيجة خبرته الكبيرة وجديته وصرامته، وقد عمل اعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر 1932 وزيرا مفوضا لألمانيا لدى المملكة العراقية، وكان يتحدث التركية والعربية بطلاقة، ما أهله لإقامة علاقات مميزة في المجتمع البغدادي، كما يذكر ذلك سندرسن باشا في مذكراته، اذ كان يسكن بجوار منزل فريتز غروبا ويشهد حفلات الاستقبال التي يقيمها في المفوضية الألمانية للطبقة السياسية العراقية. ربما يعرف الباحثون سيرة غروبا المعلنة، وبعض التفاصيل عن خدمته في العراق، إذ يذكر الدبلوماسي والباحث العراقي نجدة فتحي صفوت، الدكتورغروبا في كتابه «العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب» فيقول: «الدكتور فريتز غروبا الذي عين قائما بأعمال المفوضية الألمانية في بغداد سنة 1932، ولما رفعت ألمانيا تمثيلها في العراق على إثر دخول العراق عصبة الأمم في سنة 1932، اعتمد أول وزير مفوض ومندوب فوق العادة لألمانيا في العراق، وقدم أوراق اعتماده إلى الملك فيصل الأول في 25 أكتوبر 1932». كما يشير صفوت إلى غروبا بالقول: «لقد عاصر في العراق أحداثا مهمة، فشهد مصرع الملك غازي، وانقلاب بكر صدقي، وما اختلف على العراق من أحداث حتى سنة 1939 حين قطعت العلاقات بين البلدين خلال الحرب العالمية الثانية». وربما لا يعرف الكثيرون جذور علاقة فريتز غروبا بالملك فيصل الأول التي تعود إلى عام 1920، قبل تولي فيصل الأول عرش العراق، إذ يورد الدكتور غروبا في مذكراته التي نشرها عام 1967 وترجمها فاروق الحريري بعنوان «رجال ومراكز قوى في بلاد الشرق»، قصة أول لقاء له مع الملك فيقول: «لما تسلم الملك فيصل في كانون الثاني/يناير 1921 (يبدو إن غروبا أخطأ في التاريخ، فالصواب هو تشرين الثاني/نوفمبر 1920) دعوة من ملك بريطانيا لزيارة لندن، حيث كان سيعرض عليه عرش العراق، طلب موافقة وزارة الخارجية في برلين، على مروره من ألمانيا مع مرافقيه، وهم رستم حيدر، والأمير عادل أرسلان، وتحسين قدري، فوافقت وزارة الخارجية على طلبه، وعهدت إليّ مرافقة الملك وحاشيته في هذه السفرة»، ويكمل الدكتورغروبا قصة مرافقته للملك فيصل فيقول: «ذهبت إلى بازل لاستقباله فيها، لكن القنصل الألماني هناك أعلمني أن الملك غيّر منهاج سفرته، وأنه لن يسافر عبر سويسرا، لكنه سيأتي الى ميونيخ مجتازا ممر برينر الجبلي، لأن سويسرا ، وبوحي من فرنسا، لم توافق على مروره من أراضيها، إذ كانت عصبة الأمم تعقد اجتماعاتها في ذلك الوقت، ولا بد من أن الفرنسيين تخوفوا من ظهور الملك فيصل في جنيف واحتمال تهجمه على فرنسا».
ويشير غروبا الى إن الرائد تحسين قدري، مرافق الملك فيصل، كان زميلا له في السلاح، إذ قاتلا معا في درعا عام 1916، وكان تحسين قدري برتبة ملازم أول في الجيش العثماني، كما كان غروبا ملازما أول في الجيش الألماني، ويعمل ضابط ارتباط مع الجيش العثماني في الشام. ويكمل غروبا في مذكراته شرح تفاصيل الرحلة والمخاطر المحتملة التي تخللتها، والخوف من اعتقال الملك فيصل من قبل الفرنسيين، الذين كانوا يسيطرون على مناطق واسعة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، لكن المهمة تمت بنجاح، وعندها أهداه الملك فيصل ساعته اليدوية اللونجين عرفانا بالجميل، وقد بقي الدكتور غروبا لوقت طويل محتفظا بهذه الهدية القيمة. ووصف المؤرخ العراقي إبراهيم العلاف نشاط فريتز غروبا في بغداد بين الحربين العالميتيين بالاعتماد على التقارير البريطانية، إذ قال؛ «كان نشاط الدكتو فريتز غروبا يتمحور في ثلاثة ميادين هي: السياسة، والثقافة، والتجارة، وكان الإنكليز يرصدون نشاطه، ويرون أنه يتمتع بحيوية، وعقلية، وبصيرة نافذة، تؤهله لأن يتغلغل في المجتمع العراقي، وكانوا يقولون عنه إنه لم يكن يقيم للاعتبارات الدبلوماسية وزنا، فهو يلتقي بالوزراء ورؤساء الوزارات شخصيا، ويهيئ الأجواء لإقامة حفلات الاستقبال في المفوضية الألمانية، ويدعو أعدادا كبيرة من العراقيين، خاصة من السياسيين والمثقفين والاساتذة والصحافيين، ويستخدم تلك الاستقبالات في تقديم الهدايا المختارة بلباقة بهدف الاستحواذ على ثقتهم». ويبدو إن غروبا كان شخصية مكروهة من البريطانيين، إذ يشير طبيب العائلة المالكة العراقية هاري سندرسن باشا في مذكراته، إلى التوتر بين غروبا والإنكليز فيقول «لقد سعى هذا الوزير الألماني سعيا قويا لإفساد علاقاتي مع العائلة الملكية، وبذل كل جهد مستطاع لإنهاء تلك العلاقات، مثال ذلك: أخذ غروبا عندما توفي غازي إثر تحطم جمجمته يبث الإشاعات بأنني أنا الذي حلت دون إنقاذ حياة غازي». كما يشير سندرسن باشا في مذكراته إلى دور غروبا في احتضان الأطباء العروبيين ومحاولته تقريبهم، وإزاحة البريطانيين من المشهد الطبي الرسمي، مثال ذلك دوره في احتضان الدكتور أمين رويحة الطبيب السوري العروبي، الذي عمل في العراق، والذي اعتقله الإنكليز لاحقا بعد أحداث أيار/مايو 1941 ونفوه خارج العراق، إذ يقول سندرسن باشا عن رويحة وعلاقته بغروبا: «لقد صادف أن وصلت إلى البلاط الملكي في مناسبة، في الوقت الذي كان فيه غروبا والدكتور رويحة، صنيعة غروبا، الذي وصل حديثا، يهمان فيه بمغادرة المكان، وفي أعقابهما أحد رجال القصر وهو يحمل صندوقا خشبيا كبيرا مصبوغا، وإذ اندفعت إلى غرفة غازي الخاصة سألته عن السبب الذي دعاه لأن يستدعي الدكتور رويحة لكي يراه، فأجاب غازي قائلا: إنني لم أطلب ذلك، لكن غروبا هو الذي اقترح هذا، ولم أشأ أن أظهر عدم الموافقة».
عاد غروبا بشكل سري عام 1941 للعمل في العراق ودعم حكومة رشيد عالي الكيلاني، وحاول جاهدا الحصول على دعم عسكري ألماني لإيقاف الهجوم البريطاني على بغداد، لكنه في النهاية فشل في تحقيق ذلك، وفي 28 مايو 1941 مع انهيار الجيش العراقي في آخر أيام حكومة الكيلاني، أرسل غروبا رسالة مذعورة من بغداد تفيد بأن البريطانيين كانوا يتوجهون إلى المدينة بأكثر من 100 دبابة. وبعدما هرب الكيلاني وحكومته إلى إيران يوم 28 مايو، هرب غروبا بدوره من بغداد يوم 30 مايو 1941 في رحلة شبيهة بأفلام المغامرات الحربية، حيث انتقل إلى الموصل وبقي فيها ثلاثة ايام، وانتقل منها إلى حلب فأثينا وصولا إلى برلين. وقد طاردته قوات القوة الجوية البريطانية، وحاولت إلقاء القبض عليه حتى أنها توغلت بشكل غير قانوني في الأراضي السورية، لكنه تمكن من الهرب والعودة إلى ألمانيا. عمل غروبا عند عودته إلى برلين منتصف عام 1941 مسؤولا عن قسم الشرق الأوسط في الخارجية الألمانية، ولعب أدوارا مهمة في دعم العرب ونضالهم ضد البريطانيين والفرنسيين، وأقام علاقات مميزة مع اللاجئين السياسيين في ألمانيا النازية ومن أبرزهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. وعند نهاية الحرب العالمية الثانية أُسرت القوات السوفييتية غروبا وحوكم وسجن لمدة عشر سنوات، حيث أطلق سراحه عام 1955، فعمل مستشارا لعدد من الشركات الألمانية العاملة في الشرق الأوسط. وقد كتب الصحافي العراقي عبد القادر البراك مقالا بعنوان «الدكتور غروبا في بغداد» في جريدة «الدفاع» لصاحبها صادق البصام يصف فيه زيارة غروبا إلى بغداد نهاية الخمسينيات، قال فيه إن: «الساسة في العالم المتمدن عندما يبلغون سن الشيخوخة لا يستمرون في العمل السياسي، بل يخدمون بلادهم بمجالات أخرى كما فعل الدكتور غروبا». وقد ظل فريتز غروبا يحن إلى العراق وإلى أصدقائه العراقيين، وكان يتحين كل فرصة للقائهم حتى آخر ايام حياته.