ثورة الوحش على خالقه… عودة تنظيم داعش
كانت صباحات الأيام الماضية، مغطاة لا بتساقط الثلوج في بلدان قلما عرفت اللون الأبيض سابقا، ولكن بصوت موحد معلنا عن» عودة داعش». شاركته التصريحات وأجهزة الإعلام الأجنبية بعناوين مختلفة من ناحية الاسم. حيث استمرت باطلاق تسمية «الدولة الإسلامية» بدلا من داعش. هل لهذا مغزى عميق أم أنه مجرد الصعوبة في لفظ الحروف العربية أو كون داعش مختصرا للحروف العربية؟ هل من احتمال للسذاجة البريئة في زمن الخطيئة المتبدية في إعادة رسم الخرائط وتفكيك الوطن وصناعة الهويات؟
«عودة داعش» هو العنوان الرئيسي في الصحافة واستوديوهات الأخبار المفتوحة على مدى 24 ساعة، لجمهور يلتهم « عاجل» الأخبار. جمهور لم يعد قادرا على هضم التحليل وتمحيص ما يُقدم إليه وبالتالي التساؤل، باستثناء ما هو جاهز، غالبا، لفرط تعوده على استهلاك وجبات الأكل السريعة وما تخلقه من حالة خدر جسدي وفكري.
عراقيا، وإلى حد كبير، عربيا وعالميا، طُمر سؤال مهم: هل غادرنا تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) فعلا؟
إذا بقينا في العراق، نموذجا، سنجد عند إزالة طبقات الفساد السياسي والإداري الذي نجح في التسرب إلى مختلف شرائح المجتمع، تدريجيا، ووصوله الذروة المستدامة منذ احتلال العراق عام 2003، جواب هذا السؤال مدفونا، عميقا، في خضم تلاعب ومناورات طبقة سُراق تبنتها قوى الاحتلال لتحكم بالنيابة. ولا تخلو الساحة من إعلاميين عملوا على أدلجة التغييب والاستحضار، عند الضرورة، وفق المتغيرات السياسية في الداخل والخارج.
الحقيقة التي عمل الساسة العراقيون، بدعم المتنازعين على غنيمة العراق، على طمرها، هي أن تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) هو وليد الاحتلال الانكلو أمريكي، بإجماع عربي قلما حظيت به قضية فلسطين، ضد الاحتلال الصهيوني، طوال عقود المقاومة. كانت فترة الحمل قد بدأت مع حملة التهيئة للغزو وشرعنتها قانونيا. هكذا جلس كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية، في شباط/ فبراير 2003، في الأمم المتحدة، ليقدم سردية خطر أسلحة الدمار الشامل وإرهاب القاعدة في العراق، التي وصفها فيما بعد بأنها كانت أحد أكثر إخفاقاته جسامة وكان لها تأثير واسع النطاق. هز الحاضرون، من ممثلي الحكومات، يومها، رؤوسهم موافقين. فصارت الكذبة حقيقة لا يمكن التشكيك بها. وشهادة ميلاد لتنظيم مستقبلي، ستنمو الحاجة إليه بمرور الوقت، ومع تصاعد نشاط المقاومة ضد الاحتلال. وهل هناك ما هو أفضل من تأطير وتقديم المقاومة بشكل مشوه، يجمع ما بين منظمات تم صرف ملايين الدولارات على تغطية وجودها وإرهابها، إعلاميا ومخابراتيا، بمسميات القاعدة ـ الإرهاب السني، في العقد الأول من الاحتلال، ومن ثم داعش عند إعلان ميلاده الرسمي في 2014.
ظهور واختفاء التنظيمات، لا يعني أنها وليدة حاجة القوى الخارجية فحسب بل إنها، أيضا، وليدة عوامل أساسية أخرى يتم تجاهلها أو تغييبها، عموما، ومن بينها الظلم، والغضب الشعبي
في الوقت الذي قد تبدو فيه توليفة خلق وصناعة «التنظيمات الإرهابية» من قبل قوى خارجية (السي آي أي مثلا) منطقية، لأنها تتماشى مع العقلية والسياسة الاستعمارية، إلا أنها تحمل، في الوقت نفسه، ما يلقي بظلال الشك على صحتها المطلقة. إذ لا يكف التاريخ عن تذكيرنا بأن ظهور واختفاء التنظيمات، على اختلاف أنواعها، في مناطق الحروب والاحتلال، لا يعني أنها وليدة حاجة القوى الخارجية/ الاحتلال، وصناعتها فحسب بل أنها، أيضا، وليدة عوامل أساسية أخرى يتم تجاهلها أو تغييبها، عموما، ومن بينها الظلم، والغضب الشعبي، وعدم الاستقرار، وهيمنة نزعة الانتقام، والبيئة غير الصحية للحياة الإنسانية بشكل عام، وتنامي طبقة تحترف الاستغلال المادي والبشري. كما يجدر التذكر، أيضا، أن إصدار حكم مطلق، بقدرة أمريكا مثلا على إنجاز كل ما تطمح إليه، يعني في الواقع إلغاء دور الشعب، وحتى وجوده، بتاريخه وحاضره وتناقضاته وتعدد مستويات نضاله. وهو موقف يؤدي الايمان به، ونشره إلى ترسيخ مفهوم العبودية والإحباط والعجز عن اتخاذ أية بادرة فردية أو جماعية في مسيرة النضال من أجل الحرية. فيكون البديل، لدى البعض، ومع تهيؤ الأرضية لاستقبال أية بذرة، هو الانصياع إلى قوى، قد تكون من داخل المجتمع او خارجه، تُقدم للمرء ما يفتقده في حياته اليومية بل وتعده بمغفرة وفردوس، يمتدان أبعد من الحياة نفسها، مهما فعل. تجّسد البديل، المُستثمر في العراق لـ « العودة» وتنفيذ العمليات، بين الحين والآخر، بعد إستنزاف كرنفال النصر عليه، بتنظيم داعش ووجهه الآخر المُسمى الحشد الشعبي.
كانت تكلفة إعلان تأسيس الدولة الإسلامية وما ارتكبته من جرائم ضد المدنيين، وتكلفة دحرها، خاصة بواسطة الهجمات الجوية الأمريكية، التي بلغت 50 ألف طلعة جوية عام 2016 على مدينة الموصل لوحدها، بالإضافة إلى حملات انتقام الحشد الشعبي، خسارة فادحة في الأرواح والتخريب العمراني، يبين مدى قدرة الإنسان على السلوك الوحشي والتدمير بمواجهة « الآخر».
إن « عودة داعش» المُعلن عنه حاليا، كما خلال الأعوام الماضية، ضروري لعديد الحكومات العربية والعالمية. فهو الغطاء الجاهز الذي طالما استخدم في العراق لتبرير آلاف الاعتقالات وحالات التهجير والاختفاء القسري، ناهيك عن التعذيب في معتقلات متناثرة على وجه العراق كالدمامل الصديدية، المُهددة بالانفجار. وهو الجدار العازل الذي تستخدمه الدول الأوروبية للحد من وصول المهاجرين إليها، وفرض قوانين عنصرية ضد المسلمين، بينما تواصل الولايات المتحدة الأمريكية إما تنفيذ عمليات خاصة يُعلن عنها باسم داعش أو خلق أزمات سياسية تستدعي تمديد بقائها، في البلدان المتواجدة قواتها العسكرية فيها، بذريعة التدريب والاستشارة والتعاون.
وإذا تغاضينا عن الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى بقاء تنظيم داعش حيا سواء تحت هذا الاسم أو غيره، ورضينا بأن جهاز الاستخبارات الأمريكية صنّعَه، كما الوحش في المختبرات، لإعطاء الخوف وجهاً، وإرهاب الشعوب فإن علينا أن نتقبل، أيضا، حقيقة أن أول ما يفعله الوحش المخلوق في فضاء مختبري، هو الثورة على خالقه.