فهد والحزب الشيوعي العراقي
محمد السعدي
الكتابة عن يوسف سلمان ” فهد .. ليس بالأمر الهين ولا السهل في حالة توثيق صفحات مناضل من الطراز الأول على كافة المحاور الوطنية والفكرية والنضالية والرجولية والثقافية ، وقد برهنت مسيرة حياته القصيرة في النضال والحياة عبقرية هذا الرجل وإيمانه بمسيرة حياة وفكر خلاق . ولجت للكتابة عنه رغم قراءاتي البسيطة السابقة عن عصامية هذا الرجل واعتقادي به وبأفكاره ولشدة كرهه للاستعمار والاحتلالات وبناء الاوطان ، لكن مما حفزني واقعتين أثارت بنفسي فضول ورغبة جامحة في الكتابة عن هذا الرجل إيماناً مني بالمسؤولية الاخلاقية والوطنية اللتان هما طريقي ومنهج مسيرة حياتي ومواقفي . الاولى للدكتور حميد عبدالله في برنامجه ” من تلك الايام ” حول حياة فهد . ووقع تحت يدي كتاب صادر2006 للسياسي ”سالم عبيد النعمان ” الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد . وأنا منغمساً في صفحات هذا الكتاب 328 صفحة من القطع الكبير عن حياة هذا الرجل ذو الشخصية المتميزة في قراءة الواقع وظروف البلد في الخطط والبناء وتشكيل الخلايا السرية والتنظيمات ومخاطبة العمال والشعب بوعي مصالحهم والنهوض بها نحو مستقبل آمن عبر الفكر الشيوعي المعبر الحقيقي عن مصالحهم وبالاضافة الى هذا الشعور الوطني والاحساس الثوري يتمتع بشخصية شفافة ومتواضع ودمث الاخلاق ، لكن هذا لايعني لايخلوا من هفوات في الشخصية والمواقف فهو أبن بيئة فقيرة ومجتمع قبلي عشائري وتجربة سياسية محدودة .
ولد يوسف سلمان يوسف ” فهد ” في قرية برطلة في محافظة نينوى عام 1901 لعائلة مسيحية سريانية. وعند بلوغه السابعة من العمر ، انتقلت عائلته طلبا للعمل إلى البصرة وأدخل مدرسة السريان الابتدائية وبعد تخرجه منها دخل مدرسة (الرجاء العالي) الإمريكية. وبعد سنتين اضطر إلى ترك الدراسة بسبب الأوضاع الاقتصادية للعائلة، وفي عام 1916 اضطر للعمل في معمل صغير للثلج يعود لأخيه في الناصرية. وعاد ثانية إلى البصرة ليعمل كاتبا في إدارة توزيع الكهرباء في الميناء، وتعرّف على أحوال العمال وظروفهم في مشروع كبير,, ويروي شقيقه ” داود سلمان يوسف” أحد قادة الإضراب الذي أعلنه عمال المسفن ” الدوكيارد” في البصرة صيف 1918 في حديثه ل عزيز سباهي وكان الاثنان معتقلين في معتقل أبو غريب عام 1949, أن فهد وكان وقتذاك شابا يافعا قام بصياغة وكتابة العريضة التي قدمها العمال لأدارة المسفن. ثم انتقل للناصرية واشتغل عاملا في معمل الثلج والطحين العائد لأخيه، وفتح مكتبة في الناصرية لبيع الكتب والصحف والمجلات .
خلايا شيوعية
يسجل لتاريخ فهد هو أول من وضع الاحجار واللبنات الاساسية الأولى للتنظيم ، أي الخلايا الشيوعية والتي كونت لاحقاً حزباً شيوعياً مبنياً على النظرية الماركسية اللينينية لتكن مرشداً لهذ الحزب في التعبير عن آرائه وبناء منهجه ، وقد وضع فهد في نظر الاعتبار وأعطى الاولوية لها في دراسته عن الحركات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية التي ظهرت في العراق إنعكاس للتناقض الطبقي بين طبقاته وفئات المجتمع الذي كان سائد ومؤثر في حركة المجتمع العراقي . أكتسب فهد خبرة لم تكن قليلة الاهمية في مجال المعرفة والتنظيم من خلال سفراته المتعددة بعدة واجهات مختلفة ولقائه بقادة فكر وأحزاب مما سخرها في بناء الحزب الشيوعي العراقي على أسس ومباديء النظرية والفلسفة . فهد أول شيوعي عراقي يقف أمام محكمة الجزاء في مدينة الناصرية أثر البيان الشيوعي ( العراقي ) الأول في مدينة الناصرية سنة 1932 يحمل شعار ” يا عمال العالم اتحدوا ” والمنجل والمطرقة ” وقد وزع في شوارع الناصرية وألصق على جدرانها ” بتوقيع عامل شيوعي . ولأول مرة عراقي متهم بالشيوعية وهو يوسف سلمان يوسف يدافع بشرف وشجاعة عن الشيوعية ومبايدئها ، وهنا تكمن الاهمية التاريخية والوطنية لهذا الرجل . حيث كانت موهبته النادرة في العمل السياسي هي جزء طبيعي من تكوينه الذاتي والفكري .
لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار والتي أدت في النتيجة بعد عام على انطلاقها الى الاعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ولينظم الى الاممية الشيوعية ( الكومنترن ) ، ولقد لعب عاصم فليح أحد قادة الحزب آنذاك باعتباره خريج جامعة شيوعيي الشرق ” جامعة كادحي الشرق ” وعاش فترة في الاتحاد السوفيتي ومطلع بشكل جيد على أهداف وشروط الاممية الشيوعية والانضمام اليها . أن يحمل الاسم ( الشيوعي ) أولاً إضافة الى موقفه المستقل والمدافع عن النظرية الماركسية اللينينية هذا هو المعلن ، أما في الواقع أي بالمفهوم السوفيتي في مركز التبعي القاصر وفكره صاغي وعينه مفتوحة الى ما تقوله موسكو ولهذا أنصابت أكثر الاحزاب الشيوعية بالجمود العقائدي وأنعزلت عن مصالح شعبها وتطلعاته . عاد فهد من خارج العراق عام 1938بعد فترة قضاها في عدة دول مر بها وألتقى بقادة ثوريين وزعماء أحزاب ومناضلين ، وبعد أن شهدت فترة غيابه عن العراق جملة تطورات حيث تعرض الحزب الشيوعي بها الى مواقف لا تطمأن على مواقفه الصلبة وهو بأشد الحاجة لها في بداية تكوينه الفكري والسياسي والطبقي والوطني وهذا مرده موقف قادة الحزب من صلب الاحداث والتعامل معها بل عرضوا نفسهم الى أنتقادات من الاطراف الاخرى وإنسحاب أعداد غير قليلة من التنظيم على أثر تداعيات المشاكل والصراعات مع جماعة الاهالي والهجوم اليومي على قادتها عبر صحيفة ” اتحاد الشعب ” الجريدة المركزية للحزب الشيوعي العراقي . بعودة فهد تمكن بفترة قريبة من لملمة الرفاق وتقوية عود الحزب وأنهاء الصراعات والتركيز على القضايا الوطنية وبناء ترميم بيت الحزب الداخلي بعد تقاذفته الامزجة والآراء المتناقضة والتناحرات الحزبية وقام بمد جسور مع القوى الوطنية الاخرى لترصين الجبهة الداخلية ضد الاستعمار المهمة الأولى . الشهيد سلام عادل العام 1956 خطى على نفس التوب حيث ساهم بقوة بتقوية الوضع الداخلي للحزب بعد أن كان قد تعرض الى أنشقاقات وخلافات ذاتية أثرت على وضعه الوطني والجماهيري ، وبقيادة سلام عادل أصبح حزباً ذات صوتاً مسموعاً ومحسوباً له في الحراك العراقي . سلام عادل هو الذي قال ” خروج شيوعي من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيني ” هنا تكمن مواصفات أهمية القائد السياسي النضالية والذاتية والاخلاقية والوطنية .
في مطلع الاربعينيات تعرض الحزب الشيوعي الى نكسات وانشقاقات وأزمات متواصلة مرده تذبذب قادته والتناحرات الشخصية والصراع حول المراكز والموقف الغير وطني من الاحداث وتحديداً حركة الضباط الاربعة وحركة مايس ورشيد عالي الكيلاني وتحديد الموقف من الدولتين المتصارعتين المانيا النازية والاستعمار البريطاني مما أثقل كاهل الشهيد فهد في توضيح معنى الهوية الوطنية ورسم سياسة واضحة وصريحة من الوطن والاستعمار مما دعا الى عقد كونفرنس حزبي عام في آذار 1944 وهو الأول في حياة الشيوعيين العراقيين ، وصدر عنه الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي والتي تتصدره لافته عريضه ” وطن حر وشعب سعيد ”? أنعقد في بيت النقابي علي شكر عضو الحزب الشيوعي العراقي الكائن في منطقة الشيخ عمر ، وقد أختير مندوبيه بعناية فائقة وسرية تامة ، أنعقد من أجل توحيد صف الشيوعيين ووضع سياسة وطنية على أسس ومباديء النظرية الشيوعية ، وعلى الرغم من صدور كراس قبل عام ” حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية ” والذي حدد به جملة قضايا جوهرية من ضمنها تعذر الحزب من عقد مؤتمر عام له بسبب ظروفه وعمله السري وقد مر في كتابه على عدة تجارب أحزاب شيوعية من تأخر عقد مؤتمر لاحزابها في الهند وأوربا رغم مرور سنوات طويلة على تأسيسها ، وأخيراً نحن أمام مؤتمر الميثاق الوطني ” مؤتمر التنظيم ”كما سماه الشهيد فهد في كلمة أفتتاحه في بيت الشيوعي يهودا إبراهيم صديق الكائن في الصالحية تحت شعار ” قووا تنظيم حزبكم … قووا تنظيم الحركة الوطنية ” أذن أنعقد المؤتمر الأول للحزب العام 1945 بقيادة فهد وبقوام 27 مندوباً وبهذا المؤتمر أعلن عن نظام داخلي للحزب الشيوعي وتقرير سياسي وبرنامج فكري . ظل الشهيد فهد الى يوم استشهاده كنز كبير للحركة الشيوعية العراقية وجهوده الكبيرة في بناء حزب شيوعي قوي يؤمن بعملية التغير الثوري وبناء وطن ومجتمع خالي من الاضطهاد . بعد المؤتمر أتخذ الحزب الشيوعي قرارات تكتيكية وأستراتجية في الحقل الوطني تجاه القوى الوطنية العاملة في الساحة العراقية وتجميعها بأتجاه وطن حر ومستقل ، وفي خضم تلك التداعيات طرح شعار ” قووا تنظيم حزبكم … قووا تنظيم الحركة الوطنية العراقية ”. كان هم فهد وهم حزبه هو البناء والموقف من الاستعمار البريطاني والقوى الرجعية المتحالفة معه ولأول مرة كانت المواجهة مباشرة ومحتدة من خلال لصق شعارات وتوزيع بيانات على الجدران في العاصمة بغداد ، وكان فهد هو شخصياً يقوم بهذه المهام وموقعة ” فهد الحزب الشيوعي العراقي ” إذن أصبح فهد المطلوب الأول من الاستعمار البريطاني والحكومة الرجعية .
بعد نجاح المؤتمر الأول للحزب بقيادة فهد توسعت تنظيماته بكل بقعة من أرض العراق ، وعادت الى صفوفه مجدداً التكتلات وبعض التنظيمات المنشقة بعد أن حلت نفسها ووضعت مصيرها تحت رحمة قرارات الحزب على سبيل المثال وليس الحصر ” وحدة النضال ” وخطى الحزب الى تشكيل نوادي ومنتديات ودور نشر تحت مظلة أجنحة الحزب كعصبة مكافحة الصهيونية وواجهات أخرى . يقول لينين ” أن الماركسية هي أن تعرف كيف تحدد السياسة التي يجب انتهاجها في هذه الظروف أو تلك ”. فهي نظرية عمل ومراجعة ونقد وبناء وليس قالب معلبات أو أدعية أو تعاويذ . في ليلة بغدادية باردة يوم18 كانون الثاني 1947تم أعتقال الرفيق فهد ورفيقه زكي بسيم ”حازم ” وحسين محمد الشبيبي ”صارم ” في بيت إبراهيم ناجي شميل الواقع في محلة الصالحية في منطقة الكرخ والقريب من مقر الإقامة الخاص بوزير الداخلية . وتم نقلهم الى سجن أبي غريب العسكري ، ودعا خلال محاكمته موضحاً للرأي العام ملحمة الشيوعيين في الدفاع عن الشيوعية وعن الحزب الشيوعي .
قوة سياسية
حَوَّلَ فهد الحزب الشيوعي العراقي إلى قوة سياسية ووطنية متماسكة وفعالة خلال سنوات قيادته ، وبنى له قاعدة جماهيرية، وتعمقت جذوره وشهد نمواً قوياً، كما أصبح حزباً يتصدر نضالات الشعب، وجذب ما يقارب نصف شباب كافة الطبقات الاجتماعية إلى الأفكار الشيوعية .
كانت مواقف فهد في السجن، التي كان يرسلها لقيادة الحزب، تركز على “استقلالية الحزب وعدم التدخل في شؤونه” وقد عارض قرار تقسيم فلسطين خلافاً لموقف الاتحاد السوفياتي . بعد إعتقاله في ذلك اليوم مع رفاقه ، لقد تعرض الى موجات من التعذيب الجسدي والنفسي ولم يكسر عوده ، بل أزداد تمسكاً بمواقفه وأهداف حزبه . وفي سلسلة جلسات محاكماته وبهدوئه المعهود دافع عن أفكاره الشيوعية والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وقضايا الوطن الوطنية . لقد صمد فهد أمام محققيه وأكتفى بالعبارة آلاتية : أنا سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وإني أمين على أسراره ولا يمكنني أن أدلي بأية معلومات تتعلق بتنظيمات الحزب وبأعضائه أو أسراره والتي يمنع الحزب الإباحة بها ”. وقد أجاب فهد عن سؤال وجه إليه ” بأني كنت وطنياً قبل أن أكون شيوعياً وعندما صرت شيوعياً فان مسؤوليتي تجاه شعبي ووطني صارت أعظم ” وقال إن الاممية لا تتعارض مع الوطنية . واصل فهد رسم سياسة الحزب وتحديد مواقفه من داخل قضبان السجن رغم سلسلة الاحكام التي صدرت ضده وضد رفاقه الميامين من ضمنها أحكام الاعدامات ، وقد نفذت الحكومة الرجعية والاستعمار البريطاني عقوبة الاعدام يوم 14 شباط1949بحق فهد ورفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي بعد أن تم أعتقال قيادة الحزب الميدانية في الخارج وموقفهم الضعيف والمنهار وبعد أن تأكد وبناءاً على أعترافاتهم إن فهد هو الذي كان يوجهنا ويرسم سياستنا عبر نافذة الرسائل والتوجيهات المهربة التي كانت تصل لنا ، فأن خيانة مالك سيف واعترافاته هو ويهودا إبراهيم صديق ودور الجاسوس عبد الوهاب عبد الرزاق وعاقبتها المفجعة التي أدت الى أعدام يوسف فهد ورفيقيه زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي . بعد أن عرضت أكثر الرسائل أمام المحكمة المتبادلة بين فهد ورفاقه حول آلية العمل والموقف من الاحداث وتطورات البلد والتي سلمها لهم القادة المذكورين إعلاه بعد أن أنهاروا خلال مجريات التحقيق .
قررت السلطات بإعدام فهد ورفاقه وقد علقت جثثهم في شوارع بغداد لفترة ليس قليلة ، وقد علقت جثة فهد في ساحة المتحف بينما رفاقه الآخرين وزعوهم في ساحة التحرير وباب المعظم وقد سلموا جثثهم الى ذويهم الا إن فهد لم تسلم جثته ودفنوه في قبر سري أكتشف بعد ثورة تموز 1958 ووضعت داله على قبره إنه فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي ورفعت الداله مرة أخرى وأخفيت عندما جاء البعثيين في إنقلابهم في 8 شباط 1963 ورجعت الداله مرة أخرى عندما أنعقدت الجبهة بين البعثيين والشيوعيين 16تموز1973. وأصبح مزاراً وطنياً لقائد فذ يحتذى به . يروى إن السجان الذي قاد فهد الى مقصلة الاعدام سأله عن طلباته قبل تنفيذ الحكم فاراد أن يشوف رفاقه زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي وأيضاً أخيه داود الذي كان أيضاً مسجوناً معه ، وقد أملى على أخيه داود رسالة الى والدته يعتذر منها على ماسببه لها من أذى وختمها ” أنه هو هذا طريقنا لاخيار آخر لنا الا طريق النضال الوطني وتحرير العراق .