لؤي أبو التمّن وتراجيديا العزلة الذهبية 2-2 شيوعي يرفض الإنبطاح أمام شروط الجبهة الوطنية عبد الحسين شعبان التقيت لؤي بعد خروجه من قصر النهاية في بيت أهل رجاء الزنبوري قرب منزل والده الطبيب صادق أبو التمّن وقرب منزل عبد الرزاق شعبان والد رياض ومنزل صالح شعبان وجليلة كاظم شعبان، وكان قد حمل معه بعض الحكايا والقصص التي لا تخلوا من الطرافة وإن كان بعضها مأساوياً. وأتذكّر أحد تعليقاته التي قال فيها لي: تصوّر كنت أشعر بالشفقة أحياناً على الجلّادين، فهذا سالم الشكرة لا أدري متى ينام؟ لأنه موجود طيلة الوقت في المعتقل مع المعتقلين، في الليل يعذّب وفي النهار يتجوّل بين السجناء، لدرجة أنني شعرت بالعطف عليه، وضحكنا بألم ومرارة. كان الوحيد الذي يعرف بيتي والذي أعرف بيته، وقد عرفته ببيتي الجديد بعد أن كنّا انتقلنا إليه خلال تلك الفترة الصعبة ، وكنت بكامل الاطمئنان بأنه مهما حصل فإن الأمر سيكون على ما يرام فللصداقة استحقاقاتها، على الرغم أنني تركت المنزل لبضعة أشهر حتى خروجي من العراق. وكنت حين وصلت براغ طلبت من مهدي الحافظ تفعيل زمالة لؤي وهو ما حصل، حيث تمّ قبوله للدراسة في بولونيا للعام 1971 – 1972 وحين صدر قبوله للدراسة في بولونيا أرسلت له برقية أبلغه بذلك وقلت له: حبّذا لو تتوجّه إلينا دون انتظار تذكرة السفر، وبالفعل جاء لزيارة براغ وبقي فيها لأكثر من شهر إلى حين موعد الدراسة وبعدها توجّه إلى وارشو وبقي فيها ثم انتقل إلى ستو.. في بولونيا شكل لؤي أبو التمن في وارشو ثقلاً كبيراً وكان قطباً مؤثراً، على الرغم من قراره ترك العمل الحزبي وكان معظم رفاق بولونيا ممن يعرفهم سابقاً حين كان مسؤولاً عنهم في اتحاد الطلبة أو في الحزب، وحصل أن حدث نقاش بشأن الموقف من الهجوم الحكومي على الشعب الكردي العام 1974 واندلاع القتال مجدّداً، وكان الموقف الرسمي للحزب هو الوقوف إلى جانب الحكومة بما فيه حمل السلاح ضدّ “الجيب العميل”، هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية المهنية فقد ساهمنا في شق جمعية الطلبة الأكراد في أوروبا لصالح الحكومة، بل واخترعنا شخصيات من أصول كردية لم نعرفها من قبل لندخلها إلى جمعية الطلبة الأكراد لزيادة عددنا، وذلك باندفاعات غير محدودة من رفاق بعضهم أكراد، وكان تبرير ذلك هو الحفاظ على ما يسمى بالجبهة الوطنية التي كان التعويل عليها هو المعيار الأساسي للتقييم. وحين انعقد مؤتمر جمعية الطلبة العراقيين في بولونيا، وقف لؤي ضدّ تلك القرارات التي لم تحظَ بتأييد القاعدة الحزبية والطلابية، وقاد حملة داخله ليؤكد فيها الانحياز إلى صالح الكرد في كفاحهم من أجل حقوقهم العادلة والمشروعة والتنديد بعمليات القصف العشوائي التي طالت قرى كردية آمنة دون أن ينسى انتقاده لبعض ارتباطات الحركة الكردية، لكن ذلك شيء وقضية الشعب الكردي شيء آخر. وقد صوّت المؤتمر لصالح موقف لؤي، في حين فشل الموقف الحزبي الرسمي من التأثير، وهو ما عدّه أحد المسؤولين الحزبيين عملاً تخريبياً مريباً. وكنت قد التقيته في وارشو العام 1973 خلال حضوري للإشراف وإلقاء محاضرة في مدينة ووج على الطلبة العراقيين والعرب الجدد، وقدّمني للحديث شاكر الدجيلي الذي وصل للدراسة العام 1973. مواقف متميّزة لم أنس موقف لؤي وحساسيته إزاء اغتيال الشهيد سامي مهدي الهاشمي في أواخر أيلول / سبتمبر 1968 وهو من القيادة المركزية، وهي جريمة بكل ما تعني الكلمة من معنى، وقد اتهمت القيادة “اللجنة المركزية” بارتكابها، وتقول حيثيات القضية التي تحدثت عنها أكثر من مرّة أن الحزب كان قرّر توزيع بيانات باسم اتحاد الطلبة في عدد من الكليات ومنها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وحصل احتكاك مع جماعة القيادة المركزية وتم إطلاق النار فسقط سامي مهدي الهاشمي مضرّجاً بدمائه. كنا نلحّ على ضرورة كشف القاتل وإدانته وفصله من الحزب، وهو أقل إجراء يُتّخذ بحقّه، وخلال تلك الفترة شابَ نوع من التوتّر علاقة عدد من الرفاق مع الحزب، وكان لؤي من بينهم، وقد رويت الموقف كاملاً في مداخلتي الموسومة “شبح عامر عبد الله ومكر التاريخ” المنشورة في موقع الحوار المتمدّن بتاريخ 9 أيار / مايو 2014. لم يكن لؤي أبو التمّن ضدّ الجبهة الوطنية، لكنه لم يكن يريد الانبطاح أمام تمدّد البعث لإملاء شروطه والتأثير على قراراتنا، حتى وإن سلّمنا كونه الحزب القائد للجبهة والسلطة والدولة، لكن الواقع شيء آخر، وكان ضدّ قرار “حلّ” المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة ورابطة المرأة) الذي صدر بزعم “تجميدها” في العام 1975. وكان لؤي ضدّ اتفاقية 6 آذار / مارس 1975 التي اعتبرها تنازلاً من جانب الحكومة العراقية لصالح إيران الشاه، وخصوصاً بشأن شط العرب، وكانت لي معه حوارات ودردشات ورسائل. وحين اجتمعنا في بودابست العام 1975 باسم لجنة التنسيق التي تمثل اتحاد الطلبة في الخارج كان هناك تناغماً بيننا في التوجهات والمواقف. كان يأمل العودة إلى بغداد، لكن مسار الأحداث اتجه إلى المزيد من التضييق على الحركة الشيوعية واليسارية، بل إن السبل ضاقت حتى على العديد من قيادات وكوادر الحزب الحاكم، الذي خسر ثلث قياداته والعديد من كوادره المعروفة، وذلك بعد أن استفرد صدام حسين بالسلطة، وإثر مجزرة “قاعة الخلد” في العام 1979. وكان أحد مجسّاته هو الموقف من حركة خان النص العام 1977 التي تم قمعها بشدّة وزاد الأمر بتعميم الإرهاب، وأتذكّر بأنني استلمت منه أكثر من رسالة قبل مغادرتي إلى العراق ينتقد فيها موقفنا، وهو الموقف الخاطئ الذي تورّطنا به، وكان هناك في صفوفنا من هو متحمّس أكثر من الحكومة في قمع الحركة الدينية الاحتجاجية. حين حصلت الحرب العراقية – الإيرانية، كان موقفه ضدّ اندلاع هذه الحرب ولم يعوّل على استمرارها للإطاحة بالنظام القائم كما وقف ضدّ أي محاولات لاختراق الأراضي العراقية. وأتذكّر رسالة وصلتني منه تعليقاً على كتابي “النزاع العراقي – الإيراني” 1981 مفادها: أن هذه الحرب لا مصلحة لنا فيها والمتحاربون من قيادات البلدين كلاهما ضدّنا ولكن الضحايا من الطرفين هم الذين يعنوننا. ولكن حين انتقلت الحرب إلى الأراضي العراقية، كان بصراحة ضدّ المشروع الحربي والسياسي الإيراني، واعتبره يمثّل خطراً على المستقبل. ومثلما كان ضدّ غزو الكويت العام 1990 فلم يكن موقفه مع غزو العراق من جانب الولايات المتحدة وقوات التحالف، وقد عبّر عن ذلك بأشكال مختلفة منها في الندوة التي تم تنظيمها لي في استوكهولم (أيلول/ سبتمبر 1990 ). وبقدر ما كان قريباً من التوجهات السياسية لحركة المنبر الشيوعي حينها، لكنه كان يعتبر أن العديد من قياداته لا تختلف عن القيادات التقليدية الأخرى، وإن كان بعضها متقدماً فكرياً واجتماعياً وثقافياً، لكنها بالمعنى السياسي من ذات القماشة ومن مصنع واحد، لذلك شكّك بنجاحها على الرغم من إعجابه بما كان يصدر عنها من مواقف حرّكت الساكن والمسكوت عنه وأثارت جدلاً واسعاً، كما كان حساساً إزاء الانتهاكات والتجاوزات . وكان يناقشني على العديد مما أكتبه من أعمدة كانت هي الأخرى ليست متفائلة بالمستقبل وتضع علامات استفهام كثيرة. خلال زيارتي تلك للسويد دعاني وثلاثة أو أربعة أصدقاء كما أتذكر بينهم جورج فرانسيس ورياض البلداوي وصباح بوتاني إلى سفرة بالباخرة لثلاثة أيام من ستوكهولم إلى هلسنكي “فيلندا”، وخلال تلك السفرة الممتعة لم يترك قضية إلّا وناقشها معي بما فيها نقد بعض توجهاتنا ومواقفنا، وقد التقيت بتلك الرحلة صديق العائلة الحميم عبد الغني الخليلي الذي أصرّ عليّ أن يضيفني لثلاثة أيام في منزله، وقد استمعت إلى معاناته، حيث تم تهجيره وعائلته إلى إيران بحجّة التبعية الإيرانية ، وقد جئت على ذكر ذلك في كتابي الموسوم “من هو العراقي؟”، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 2002 حيث نشرت شهادته، كما شكا لي مرارته من بعض الأصدقاء بمن فيهم المقربين، وقد بكى أمامي أكثر من مرّة، فالخليلي عاطفي جداً وحساس جداً وصادق جداً، وأتذكر أنه جاء إلى براغ في النصف الأول من السبعينيات، لكنه ظلّ لثلاثة أيام يبكي ثم قطع سفرته وعاد إلى بغداد ولم تنجح مساعينا جعفر ياسين وأنا من ثنيه عن العودة ومحاولتنا تهيئة الظرف المناسب لإخراجه من الواقع الذي كان ضاغطاً عليه. والتقينا هو ولؤي وأنا أكثر من مرّة، وبصحبة آخرين أتذكّر منهم الروائي إبراهيم أحمد وصباح بوتاني الذي أبلغني أن أحد أركان السفارة العراقية الذي ترك العمل منذ نحو 4 سنوات يودّ اللقاء بي وهو صديق قديم وعرفت أنه الصديق عبد الأمير أبو طبيخ الذي التقيت به بالفعل بعد استشارة لؤي أبو التمّن، وكان شديد الحذر خشية من معرفة النظام مكان سكنه أو حركته، وبالمناسبة فأبو طبيخ أصبح سفيراً للعراق في تركيا بعد الإحتلال. لؤي والفايسبوك حين برع لؤي في الكتابة على الفايسبوك، كان يقول لي تصوّر بعد ساعة هناك من يردّ عليّ وكأن هناك من تخصّص بالترصّد، فقلت له لا تستجيب للردّ والردّ على الردّ لأنك ستكون الخاسر الأكبر، فسوف يغلبك عشرة أو خمسة عشر، حتى وإن كان رأيك سديداً، لكنّهم سيردّون عليك 20 مرّة أخرى وهكذا حتى تتعب وتستسلم للأمر لأنه ليس ذا جدوى. قل ما تريد ودعهم يقولون ما يريدون دون أن تعطيهم الفرصة للاستمتاع بإيذائك وعامل المسألة بالإهمال وعدم الاكتراث. ولعلّ ذلك قبل أن تنشأ الجيوش الإلكترونية المدفوعة الأجر، وكان يقول لي أفعل ذلك، لكنني أريد أن أوضح أحياناً، فأستجيب ولكن بعدها أندم. ثم ردّد عليّ قولاً للإمام علي ” ما جادلت عالماً إلّا وغلبته وما جادلت جاهلاً إلّا وغلبني”. احترام النفس كلما يرد ذكر لؤي أبو التمّن على لسان من يعرفه حتى وإن كان لا يحبّه أو ضدّه، لكنه سيضطرّ لإبداء الإحترام له، لأنه شخص محترم، وفي تعزية للصديق محمد دبدب بوفاته قال أنه: إنسان محترم ونظيف وعقلاني، وهو ما كنت أسمعه عنه من عدد من البعثيين والقوميين، ناهيك عن الشيوعيين حتى وإن اختلفوا معه، وقد سمعت من كريم الملّا وآخرين الكثير من الإشادات به وكنت قد عاتبت كريم الملّا في براغ في أواسط السبعينيات كيف سمحوا لحسن المطير وهم يعرفون أنه جلاداً أن يجلس معنا وكيف لم يتدخّلوا لإطلاق سراح لؤي أبو التمّن إذا كانوا يزعمون أنهم نقابة، حتى وإن اختلفنا سياسياً أو في المواقف، وكان جوابه أن المطير منسّب من القيادة ونحن حزبيون نلتزم بما تقرّره القيادة حتى وإن كان لنا رأي آخر، فإننا نحرص على عدم إظهاره، ونظنّ أن مدرستكم هي الأساس في ذلك، في محاولة الإشارة إلى كتاب لينين: ما العمل؟ وهو الذي يُعنى بالتنظيم وقد صدر في العام 1903. ويقصد بذلك الضبط الحزبي وخضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا والتنفيذ اللّاشرطي للتعليمات حتى وإن كان للرفيق رأي آخر. وهو الأمر الذي استعدته أكثر من مرّة بعد الاحتلال العام 2003 مع الصديق محمد دبدب، سواء في بغداد أو عمّان، وكان دبدب كلما جئنا على ذكر لؤي أبو التمّن أو حسين سلطان كان يشيد بهما وبمواقفهما ويأسف لما حصل من تصدّع في العلاقات، ولكن كما يقول المثل العربي الشهير: “سبق السيف العذل” كما يقال، فالمحذور قد حصل، واستمرّت محنة العراق من الدكتاتورية إلى الاحتلال وتوابعه. حزب أبو التمّن بعد الاحتلال عاد لؤي إلى العراق والتقى العديد من الأصدقاء القدامى، وكانت موجة تأسيس للأحزاب الجديدة قد سادت بما فيها لأسماء أحزاب قديمة، وقد بادرت بعض الشخصيات إحياء ذلك على الرغم من اختلاف الظروف، فقد شكّل نصير الجادرجي حزباً باسم “الحزب الوطني الديمقراطي”، حيث كان والده كامل الجادرجي رئيساً للحزب منذ تأسيسه العام 1946 وشكّل مجيد الحاج حمود حزباً آخر بالاسم ذاته أسماه الحزب الوطني الديمقراطي، وأضاف له الأول ، وشكّل السيد مقتدى الصدر تيّاراً استند فيه على إرث والده السيد محمد صادق الصدر، وأعلن عمّار الحكيم لاحقاً عن تيار باسم “الحكمة” بعد أن تولّى مسؤولية المجلس الأعلى خلفاً لوالده السيد عبد العزيز وعمّه السيد محمد باقر الحكيم ، كما أصبح دور محمد رضا السيستاني نجل المرجع الكبير السيد علي السيستاني كبيراً، بل أن له القول الفصل في العديد من القرارات الهامة التي تتعلّق بتشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة، وكذلك في بعض القرارات الأخرى. ولم يخفِ الحزب الديمقراطي الكردستاني موقع العائلة البارزانية التي يقف على رأسها الزعيم الكبير مصطفى البارزاني في تأسيس وقيادة الحزب كجزء تاريخي من الحركة الوطنية الكردستانية، فاستمرّ مسعود رئيساً للحزب وأصبح رئيساً للإقليم ومن بعده نجيرفان البارزاني إبن أخيه إدريس كما أصبح مسرور نجل مسعود رئيساً للوزراء بعد أن كان رئيساً لجهاز المخابرات. ليس هذا فحسب، بل إن عائلة الطالباني التي كانت تنتقد الحزب الديمقراطي الكردستاني لعشائريّته اتجهت هي الأخرى إلى تكريس زعامة العائلة، فأصبح دور هيرو خانم بارزاً، إضافة إلى نجلي جلال الطالباني الرئيس السابق وكذلك بقية أفراد العائلة، خصوصاً وقد تعزّز دور العشيرة على مستوى الدولة وفي مواقفها في ظلّ نظام المحاصصة الطائفي – الإثني. في هذه الأجواء هناك من جاء يفاتح لؤي أبو التمّن ليُنشئ حزباً باسم “حزب الوطني العراقي” الذي ترأسه جدّه محمد جعفر أبو التمّن العام 1922 بعد أن قاد جمعية حرس الإستقلال في العام 1919 وساهم في ثورة العشرين، وبعد فشلها هرب إلى إيران، ولكنه عاد إلى العراق بعد تأسيس الدولة العراقية وتولي الملك فيصل الأول العرش، كما تعاون جدّه مع ياسين الهاشمي وناجي السويدي في تأسيس حزب الإخاء الوطني العام 1930. كان كلّ من يأتيه يسمع منه ويحاول مناقشته ولم يستطع أحد إقناعه للإنخراط في العملية السياسية القائمة على المحاصصة، بل كان يردّد مع نفسه كما أخبرني عبر الهاتف مثلاً مشهوراً قائلاً “عرب وين طنبورة وين”، وخاطبني: فهؤلاء يريدون بعد رحلة حافلة بالتجريب والشك والحداثة والنقد أن أعود القهقري لأقبل بكوني وريثاً لحزب جدّي الذي لم أره أصلاً، فقد توفّي وأنا في المهد. وتاريخه غير تاريخي و قناعاته غير قناعاتي، على الرغم من إعجابي بآرائه وبالدور الذي لعبه، لكن الظروف تغيّرت والامكانات اختلفت وطبيعة الصراع تعقّدت. ولذلك رفض جميع الدعوات، تلك التي حاولت إقناعه بدخول العملية السياسية أو تشكيل حزب أو العودة للعمل السياسي أصلاً، فقد تخلّى عنه طواعية، حتى وإن بقي يتابع ويحلّل ويُبدي رأياً، لكنه خارج الرأي المسلكي السياسي الضيّق. عاد من رحلته إلى بغداد أكثر همّاً وشعوراً بالإحباط والقنوط، وظلّ على هذه الحال ولم يمتلك أي أوهام حول تقدم الوضع أو حدوث انعطافات في الحياة السياسية، خصوصاً تردّي الأوضاع في ظلّ دستور قائم على المكونات. وأخبرني أن أكثر من دعوة وصلته للترشّح للانتخابات، لكنه رفض قائلاً كيف أقبل بالاحتلال الأمريكي وبدستور قائم على التوافق الطائفي – الإثني وبمعاهدة تفرض شروطاً على العراق بالهيمنة الأمريكية، وذلك منذ مناقشة موضوع الانسحاب الأمريكي من العراق. وقد وقف بشدّة ضدّ حملة التطهير الطائفي في العام 2006 إثر تفجير مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي، وكانت الطائفية في كلّ حياته آخر همٍّ له، فقد ظلّ حالماً بالحريّة والعدالة الأساس في مواطنة عادلة ومتكافئة. ثلاث مواصفات ثلاث سمات يمكن أن أختتم بها هذه السردية الاستعادية على الرغم من وهن الذاكرة أحياناً بمناسبة رحيل الصديق لؤي أبو التمّن: أولها – وطنيّته الأصيلة، فعلى الرغم من كلّ ما حصل له لم ينس دروسه الأولى في العمل السياسي، وهو حب الوطن والتضحية في سبيله، وما الانتماء السياسي سوى السبيل إلى ذلك، واستناداً إلى ما تقدم لم تدفعه عذاباته وما تعرّض له في قصر النهاية إلى التعاون مع قوى لا تضمر الخير لوطنه مهما كانت ادعاءاتها، وظلّ يقظاً وحذراً إزاء تلك المحاولات، سواء أيام الحرب العراقية – الإيرانية أو خلال فترة الحصار الدولي الجائر، أو عشية وبعيد احتلال العراق. وثانيها – عروبته الطافحة، فقد تطوّع بعد نكسة حزيران / يونيو 1967 مع المقاومة الفلسطينية، وظلّ داعماً لها على الرغم من ملاحظاته حول نقاط ضعفها وتخفيض سقف نضالها . وعلى الرغم من ميله لحلول واقعية حسب توازن القوى، لكنه لم يكن مع اتفاق أوسلو الذي يعتبره لا يمثل الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل هو تنازل بالمجان عن حتى معايير الحدّ الأدنى والذي هو قرار الأمم المتحدة لعام 1947 والذي تجاوزته “إسرائيل” بالكامل، خصوصاً بعدوان العام 1967 ولاسيّما باحتلالها القدس. ولم يكن لؤي مع بعض الأعمال التفجيرية أو الانتحارية التي تستهدف المدنيين، وكنا قد تناقشنا أكثر من مرّة حول ضررها قياساً بما تحققه، ناهيك عن خسارة جزء من الرأي العام الدولي المشوّش أساساً والملتبس في مواقفه إزاء القضية الفلسطينية. وثالثها – مدنيّته وإنسانيته، فقد كان حضارياً يقرّ بحق الاختلاف ويأمل في قيام دولة تحترم حقوق الأفراد والجماعات. ينعم فيها الجميع بالحرية والعدل، وهما الأساس الذي كان يحلم به، يضاف إلى ذلك سلوكه الاجتماعي المتمدّن واحترامه للآخر، وخصوصاً للمرأة، وكان من أكثر الداعيين لحقوقها وتمكينها. ويمكنني أن أقول أن لؤي كان معتدّاً برأيه ويحاول أن يعبّر عنه في كلّ الظروف والأحوال بشجاعة واجتهاد وقناعة . لم يكن ممالئاً أو مداهناً أو باطنياً، بل على العكس من ذلك كان صريحاً وواضحاً وجريئاً أخطأ أم أصاب، وفي العديد من المرات كان يراجع نفسه ويغيّر موقفه وكثيراً ما ضحكنا على بعض مواقفنا. وبقدر ما كان يحاول تشكيل رأي خاص به ومراجعته ونقده بين حين وآخر، فإنه في الوقت نفسه كان يحترم الآخر ويحاول أن يستمع إليه ويتفاعل معه. ودائماً ما كان يردّد لا يُفسد في الودّ قضية. وقد تعزّزت تلك القيم الوطنية والعروبية والإنسانية لديه، سواء حين كان شيوعياً أو بعدما ترك العمل السياسي وانشغل بالعمل العام، وذلك ما يؤكد معدنه الأصيل ومروءته وشهامته التي تكاد تكون إجماعاً حتى لمن يختلف معه في التوجّه والموقف. |