من الرابح من مقتل زعيم تنظيم الدولة؟
(في ليلة الأمس ووفقا لإوامري تمكنت القوات الأمريكية وبنجاح من إزاحة أكبر تهديد إرهابي في العالم القائد العالمي لتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية المعروف الحاج عبدالله، الذي استلم قيادة التنظيم في عام 2019 عقب مقتل البغدادي على يد قوات مكافحة الإرهاب الأمريكية). بهذه الكلمات أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مقتل زعيم تنظيم الدولة، الذي تبين أنه كان يسكن في المنطقة الواقعة على الحدود بين محافظتي حلب وإدلب السوريتين، وإقليم هاتاي التركي. فما أهمية الحدث؟
لا شك في أن العملية تمثل نجاحا عملياتيا أكيدا في مكافحة ما يسمى الإرهاب، منذ مقتل زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي، على اعتبار أنها نُفذت من دون خسائر بشرية من الجانب الأمريكي، مقابل هدف كبير بحجم القرشي. لكن في الواقع كان للنجاح وجه آخر يمثل الهزيمة. فإعلان بايدن عن الحدث، والتركيز بهذا الشكل على أهمية الهدف، يعني من حيث وعوا أم لم يعوا أن التنظيم عاد مرة أخرى، وصار له نشاط وحركة وفعل على الأرض، وبذلك يظهر الوجه الآخر للعملية على أنه فشل للولايات المتحدة، ولكل القوى التي تبجحت خلال السنين الماضية، بأنها أنهت هذا التنظيم. وهو ما يؤكده تقرير الأمم المتحدة الذي قال وبوضوح، إن التنظيم استفاد من الهزائم السابقة، وأعاد بناء هيكليته منذ خسارة موطئ قدمه في الباغوز السورية في مارس 2019، ووضع قيادة جديدة في قمة الهرم بعد مقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي. كما يشير التقرير إلى أن التنظيم لا يزال لديه أكثر من 10 آلاف مقاتل في العراق وسوريا، وهنالك 20 ألفا من الخلايا النائمة، ويملك أكثر من 300 مليون دولار سيولة نقدية. وإذا ما أضفنا إلى كل هذه العناصر عنصر الأيديولوجيا، يصبح من السهل فهم ظهور التنظيم إلى السطح مجددا في العراق في الآونة الاخيرة، وفي سوريا أيضا من خلال العملية التي قام بها في مهاجمة سجن الحسكة، لكن هل يمكن القول إن العملية إيذان بعودة واشنطن الى الشرق الأوسط مرة أخرى؟
إن التحول الأمريكي إلى ساحات أخرى هو ليس قرار بايدن، بل هو نهج اتبعه الرئيس السابق ترامب، ومن قبله الرئيس أوباما. وهذا التحول أصبح عقيدة في السياسة الأمريكية، وفق استراتيجية الدفاع الوطني التي أقرت في عام 2019، والتي وضعت الصين وروسيا كأولوية في سلم المواجهة المطلوبة. وإذا ما أضفنا إليها تداعيات كورونا على الصعيد المالي والصحي، وأولوية مواجهة الإرهاب الداخلي، حسب تعبير التقرير الأخير للخارجية الأمريكية، فإن مواجهة ما يسمى الإرهاب عابر الحدود، تراجعت في الاستراتيجية الأمنية الأمريكية، ولم تعد تشكل تهديدا للأمن في الولايات المتحدة. وقد انعكست هذه السياسة على أرض الواقع فعليا، بالانسحاب من أفغانستان، والمطالبات المتكررة بالانسحاب من العراق وسوريا، كي تتفرغ للأولويات الاستراتيجية الأخرى. ومع ذلك لا يمكن القول إن واشنطن قد انسحبت من المنطقة كليا، فهناك قواعد كبرى لها في منطقة الخليج، وقواعد أخرى في العراق وسوريا، وسواء انسحبت، أم بقيت فإن هذه العمليات هي استثمار سياسي للولايات المتحدة، تستخدمه ضد الخصوم مثل روسيا، سيكون هناك قول بأن مشاركة روسيا في الحرب على الإرهاب ليست جادة، بدليل أن لديها عشرات الآلاف من الجنود والكثير من القواعد، لكن زعيم تنظيم الدولة كان هناك، بينما الولايات المتحدة لديها فقط 2000 جندي على الأراضي السورية وهي من قامت بالفعل، كذلك فإن العملية تعيد الثقة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين وحلفائها في المنطقة، التي تزعزعت بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حيث تركت الحلفاء الاوروبيين يواجهون مصيرهم وحيدين.
بايدن يرى أن مقتل زعيم تنظيم الدولة سيكون استثمارا سياسيا شخصيا له، خاصة أن الاستطلاعات تشير بوضوح إلى أن شعبيته تدنت كثيرا
أما بايدن الذي أصر في بداية عهده على عدم وضع الكثير من الجهد في هذه المنطقة، ثم بدأ يرى أن هذه استراتيجية خاطئة، فإن مقتل زعيم تنظيم الدولة سيكون استثمارا سياسيا شخصيا له، خاصة أن الاستطلاعات تشير بوضوح إلى أن شعبيته تدنت كثيرا. كما أن خصومه السياسيين حمّلوه مسؤولية تنامي قوة تنظيم الدولة في أفغانستان، وفي مناطق أخرى من العالم، وتحديدا في افريقيا وجنوب شرق آسيا، التي تنامت فيها التنظيمات المتشددة كثيرا. إذن هناك نجاح سياسي لبايدن من وراء العملية، إذا أستثمرها جيدا، وقد سبقه الرئيس أوباما في الاستفادة من عملية اغتيال زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، حيث ربح ولاية رئاسية ثانية، لذلك وجدنا الآراء في الولايات المتحدة اليوم تركزت على الفوائد التي يمكن أن يجنيها الرئيس من العملية، ولم تُركز على إخراج زعيم تنظيم الدولة من المعركة، مع ذلك هناك طيف واسع يرى أن القضاء على القُرشي لن يغطي الإخفاق الأمريكي في أفغانستان، ولا الارتباك السياسي أمام روسيا في ساحات كثيرة أخرها أوكرانيا، لكن هل الاغتيال قادر على تجفيف التنظيمات الجهادية؟ واهم من يظن أن استئصال رؤوس التنظيمات الجهادية يقضي عليها. فقد نُفّذ الكثير من هذه العمليات، لكن تأثيراتها كانت محدودة وسريعة الاندثار. فلن تمضي بضعة أيام حتى نجد زعيما آخر في قمة هرم القيادة، يعيّنه مجلس شورى التنظيم. ولو تتبعنا العمليات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد الإرهاب خلال العقد المنصرم، نجد أن عدد من استهدفتهم قد تجاوز الخمسين شخصا، وكلهم كانوا من قيادات الصف الأول. لكن تأثير ذلك يكاد يكون معدوما على أرض الواقع، لأن التركيبة الأيديولوجية والبنيوية لهذه التنظيمات لن يؤثر فيها غياب القيادات، حيث أن المسار العقائدي مُحدد ومُحكم. وقد اعترف الرئيس الأمريكي بايدن بذلك، عندما استخدم كلمة (إزاحة) من المعركة في وصف اغتيال القرشي. بمعنى أن الفعل كان تأثيره فرديا تجاه شخص واحد، وأن هنالك غيره ممن هم ما زالوا في ساحة المعركة. كما أن الحاضنة الشعبية للتنظيم ما زالت موجودة، وأسباب وجوده قائمة، حيث التهميش والإقصاء والظلم سارية المفعول، إضافة الى أن الدول الفاشلة والحكومات التي لا تحكم، هي تربة خصبة تترعرع فيها هذه التنظيمات. السؤال المهم هو هل حقا يمكن اعتبار العملية ناجحة، رغم مقتل نساء وأطفال؟ والجواب هو أن الحديث عن أخلاقيات الحرب باتت نكتة سمجة جدا، فخلال الحرب على أفغانستان والعراق، والاستهدافات التي تمت بواسطة التحالف الدولي في هذين البلدين، إضافة إلى اليمن وسوريا وليبيا وافريقيا، قضى آلاف الأطفال والنساء نحبهم فيها ولم يكترث لهم أحد. وقد أصبحت هذه الأفعال شيئا عاديا وتحصيل حاصل يجري تبريره بأسباب واهية ومخجلة.
لقد قيل الكثير في موضوع الإرهاب، وتم تسخير موارد وإمكانيات مالية وسياسية وعسكرية وأمنية ضخمة لمواجهة هذه المنظومة، لكن لم يتم القضاء عليها حتى اليوم. والسبب في ذلك هو أن القوى الكبرى لم تكن جادة أبدا في البحث عن الأسباب التي وراء هذه الظاهرة. كما أن هذه القوى ما زالت ترعى وتتحالف مع حكومات تمارس إرهاب الدولة على شعوبها.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية