فاطمة أحمد إبراهيم وشيوعية الوجدان
أتذكر أول لقاء لي مع فاطمة أحمد إبراهيم، حين وصلتْ إلى لندن لإجراء عملية بعد سنوات من الاحتجاز والاعتقال، وحجب الحقوق المدنية والسياسية، وكان شعوري أنني أعرفها منذ زمن طويل، فقد تابعت نشاطها بعد استشهاد زوجها الشفيع أحمد الشيخ، عبر عدد من الصديقات والأصدقاء بينهم فتحية زوجة محمد إبراهيم نقد، الذي أصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوداني بعد إعدام زعيمه عبد الخالق محجوب ورفاقه، إثر فشل انقلاب هاشم العطا، وكذلك من صديقي وجاري حيدر الأبجر والأصدقاء الحسن أبا سعيد وعبد الوهاب سنادة ومحمد الأمين وعبد السلام نور الدين وناهد (حمزة) وكمال عبد الكريم الميرغني وفتحي الفضل أمين عام اتحاد الطلاب العالمي وآخرين، وهؤلاء جميعهم كانوا زملائي خلال دراستي للدكتوراه في براغ.
وكنا قد نظمنا أنشطة تضامنية مع الحزب الشيوعي السوداني بعد لجوء الرئيس الأسبق محمد جعفر النميري إلى إعدام قادة حركة الانقلاب، بمن فيهم قادة الحزب، وشنه حملة شعواء ضد الشيوعية، بما فيها إعدام الشفيع أحمد الشيخ زوج فاطمة أحمد إبراهيم، وهو مناضل عمالي معروف وكان رئيساً للاتحاد العمالي في السودان ونائباً لرئيس اتحاد العمال العالمي (براغ)، وكان صديقنا المناضل العمالي قاسم أمين الذي نناديه “عمك قاسم” كثيراً ما يحدثنا عن الشفيع صديق عمره ورفيقه.
وكانت أول فعالية للجنة التضامن التي تأسست إثر المجازر ضد الشيوعيين السودانيين عقد اجتماع حاشد في براغ، كان لي شرف تمثيل العراقيين فيه، واجتماعين تضامنيين في مدينة برنو(مورافيا) وبراتسلافا (عاصمة سلوفاكيا)، شارك فيها كمال عبد الكريم الميرغني، وكاتب السطور في إلقاء محاضرتين حول أهمية التضامن ودوره في وقف القمع ضد الحركة الشيوعية.
لم يكن مسموحاً لفاطمة إبراهيم مغادرة البلاد، فقد وضعت قيد الإقامة الجبرية لمدة عامين ونصف العام، كما تعرضت للاعتقال أكثر من مرة، بل إنها كانت ضيفاً دائما على المعتقل. وقال عنها الرئيس الأسبق محمد جعفر النميري في حينه، تعبيراً عن نهج الحقد والانتقام بعد اعتقالها “لقد تم اعتقال هذه المرأة أم اللسان الطويل والتي هاجمتني وشتمتني”. ووعد بتقديمها إلى “محكمة طوارئ عسكرية ليقذفوا بها في السجن إلى مدى الحياة، إلى أن تموت”.
المحامي أبو جديري
حين وصل المحامي الطيب أبو جديري التقيته مرتين، الأولى مع مهدي الحافظ في اتحاد الطلاب العالمي، واستمعنا إلى روايته عن حركة هاشم العطا وتداعياتها، والثانية مع فتحية التي كانت تسأله باستمرار عن فاطمة، بعد ذلك الصيف الملتهب الذي شهد اعتقالات وإعدامات في السودان. فروى لنا محاولة استدراجها من جانب النميري وجلاوزته، لإضعاف موقفها بالتأثير في صمود زوجها، وكيف واجهت ذلك ببطولة نادرة، وكنت قد سألتها حين التقيتها بعد عقدين من الزمن، عن قصتها المثيرة مع النميري، وقد روت جزءا منها في ندوة عن التعذيب، كنا قد دعينا إليها في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي كنت أترأسها في لندن 1992. فخلال تعذيب الشفيع في معسكر الشجرة، تم إخطارها بالذهاب إلى المعسكر هي وولدها أحمد لتطلب من النميري إيقاف تعذيبه ومنع إعدامه، وكان الغرض واضحاً وهو التنكيل بها وبابنها أمام الشفيع حتى ينهار، لأن التعذيب لم يهده، بل واجهه بشجاعة منقطعة النظير. وكان جوابها “الشفيع لم يرتكب جرماً، ولم يعرف الخيانة طيلة حياته، وأخطِروا الديكتاتور السفاح نميري أنني لن أستجديه لو قطع الشفيع إرباً أمامي، ولو قطعني إرباً، سأبصق بوجهه قبل أن يبدأ بتقطيعي، وخيرٌ للشفيع أن يموت مقطوع الرأس من أن يعيش وهو منكس الرأس”.
وقالت في سردية لها بعد أن روت ما حصل “لقد كان قلبي يقطر دماً”، وواصلتْ حديثها: لقد جاءت عربة فيها جنود لاعتقالي، فأخذتُ أهتف ضد القتلة المجرمين، لأنها أدركت بسليقتها الثورية أنهم نفذوا فعلتهم النكراء وأعدموا الشفيع، فاقتادوها إلى مركز شرطة أم درمان، ثم اتخذ قرار بحبسها في منزلها (إقامة جبرية) مثلما حصل مع نساء الشهداء الآخرين.
وبالعودة إلى أبو جديري فقد عُثر، حين إلقاء القبض على عبد الخالق محجوب، على ورقة بأسماء الوزراء الذين اختارتهم حركة الانقلاب، وبقي وزير العدل شاغراً، فكتب عبد الخالق محجوب بخط يده: يُسأل أبو جديري. فكان ذلك كافياً للبحث عنه بهدف اعتقاله. فاختفى عن الأنظار حتى تمكن من الهرب إلى إحدى الدول الإفريقية، ومنها إلى براغ. وحين التقيت فاطمة إبراهيم بعد سنوات دخلت معها في التفاصيل، وكأننا في تواصل مستمر انقطع لسبب طارئ، وسألتها عن اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، الذي أصبحتْ رئيسة له بعد اجتماع مانشستر عام 1991. وقد أعجبت بتحليلاتها واستنتاجاتها واعتدالها، خصوصاً أن الحركة الشيوعية العالمية كانت في حالة انحسار وتراجع، بل تقهقر، وجئنا على أزمتنا الخاصة والعامة، وبيروقراطية المنظمات الدولية، التي أطلقنا عليها “ديمقراطية” وتبعيتها وازدواجية معاييرها أحياناً، وفساد بعض حواشيها، وعدم تقديرها لواقع بلداننا، وتلك مسألة شملت الطلبة والشبيبة والمرأة واتحاد الصحافيين العالمي ومجلس السلم العالمي وغيرها.
عائلة دينية
أخبرتني فاطمة أنها تنتسب إلى عائلة دينية، فجدها لوالدها كان قاضياً في عهد المهدي قبل الاستعمار، وجدها لأمها كان نائبا له، أما والدها فكان متعلماً، ونشأت في بيت يرعى العمل والعلم. وأخبرتني فاطمة أن جدها لأمها قام بخطوة جريئة، حين أدخل أمها وأخواتها في مدرسة البنين الوحيدة للبنات في السودان التي كان مديرها، ثم ألحقهن بمدرسة الإرسالية الإنكليزية الوسطى للبنات في مدينة الخرطوم، وهكذا أصبحت والدتها أول امرأة سودانية تتحدث الإنكليزية.
وكنت قد أعلمتها أنني أيضاً أنتسب إلى عائلة دينية كذلك، لها موقعها في حضرة الإمام علي في النجف، وأن الكثير من أبناء العوائل الدينية انخرطوا في التيار اليساري، وكان الكثير منهم يشاركون في المناسبات الدينية، خصوصاً في عاشوراء حيث تقام المواكب الحسينية، إضافة إلى ميلاد النبي ووفاته وغيرها من المناسبات، نظراً لرمزيتها، وذلك في فترة الأربعينيات والخمسينيات في نوع من المصالحة مع المزاج الشعبي، وأشارت من جانبها إلى أن الكثير من القيادات الشيوعية السودانية كانت تؤدي الفرائض الدينية، وهو ما عزز من تغلغل الحزب الشيوعي السوداني في الأوساط الشعبية الكادحة.
ارتباط روحي
وسألتها متى ارتبطت بالشفيع؟ فقالت في عام 1966 وأنجبت منه ولداً وحيداً “أحمد” وقد أُعدم زوجها بعد خمسة أعوام فقط. وقد أقسمَتْ ألا يدخل عليها رجل من بعده. وعن زوجها قالت إنه سجن في جميع العهود: في عهد الانتداب البريطاني، وفي زمن الجنرال عبود، ثم أعدم في ظل نظام جعفر النميري. وكانت فاطمة إبراهيم قد انضمت إلى الحزب الشيوعي السوداني عام 1954 وأصبحت بعد فترة عضواً في اللجنة المركزية، كما ترأست الاتحاد النسائي عام 1956-1957 وأصدرت مجلة باسم “صوت المرأة” التي رأست تحريرها.
أول برلمانية في الشرق الأوسط
تُعتبر فاطمة إبراهيم أول سيدة تُنتخب عضوا في البرلمان بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1964، حيث جرت الانتخابات في مايو/أيار 1965 وبفضل جهودها وجهود الحركة النسائية واليسارية نالت المرأة السودانية بعض الحقوق منها، الحق في الانتساب للقوات المسلحة وجهاز الشرطة وممارسة القضاء والأعمال التجارية، كما تم إلغاء ما يسمى “بيت الطاعة” الذي هو دليل انصياع وتسيد.
تمتاز فاطمة بحفظ الشعر، وهي مستعدة خلال جلسات صداقية لمطارحات شعرية لأنها تحفظ الكثير منه، وهو ما حصل في منزلنا في لندن. وبالمناسبة فهي شقيقة الشاعر المعروف صلاح أحمد، الذي ترك موقعه سفيرا في الجزائر ليعقد مؤتمراً صحافياً يندد فيه بسياسات النميري واضطهاده للشيوعيين، وانتقل على إثرها إلى باريس، وقد توفي في عام 1993. وكانت فاطمة شديدة الحزن على وفاته، مستقبلة عدداً من الزوار الذين وفدوا لمواساتها. وهي تكبره بعام واحد، حيث ولدت عام 1932 وتوفيت عام 2017.
كانت فاطمة قد تفرغت في التسعينيات للعمل النسائي والحقوقي، وكرست جل جهودها لهذا الميدان، وقد قررت العودة إلى الخرطوم في عام 2006 بُعيد الاتفاق الذي تم بين الحكومة السودانية برئاسة عمر حسن البشير، والتجمع الوطني السوداني المعارض، ولكن الأمور لم تكن سهلة فقد تصدع الاتفاق بعد فترة وجيزة من التوقيع عليه، وعادت الأوضاع إلى مواقعها القديمة، حيث استمر نهج الاستبداد السياسي والديني الذي شرعه النميري قبل الانقلاب عليه، وواصلته الحركة الانقلابية التي كان منظرها حسن الترابي وجنرالها عمر البشير.
كنت قد دعوتها أكثر من مرة لحضور فعاليات المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، وكان أحدها في عام 1992 وهو عن واقع التعذيب في العالم العربي، تحدث فيه خمس شخصيات، بينهم سيدتان الأولى فاطمة أحمد إبراهيم والثانية فاطمة الطالقاني “عراقية” التي أفصحت للمرة الأولى عن جزء مما تعرضت له من تعذيب، وكانت الطالقاني قد تعرضت للتعذيب في مطلع الثمانينيات في بغداد، وقصتها من أشد قصص التعذيب وأعقدها التي سمعتها في حياتي، وكم بودي لو تمكنتْ من تدوينها كاملة. وفي مكان آخر من هذه السرديات كنت قد تناولت كيف تأثرت فاطمة أحمد إبراهيم بوفاة الصديق الدكتور عبد الوهاب سنادة، حين ألقيت كلمتي وجئت على ذكر تلك الفترة الخاصة من النضال.
نالت فاطمة إبراهيم في عام 1993 جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومنحت دكتوراه فخرية من جامعة كاليفورنيا 1976، كما حازت جائزة مؤسسة ابن رشد (ألمانيا) وكان للصديق حامد فضل الله (السودان) ولي شرف ترشيحها لنيل الجائزة، بصفتنا أعضاء في لجنة التحكيم، وإن كانت قد حصلت عليها في دورة لاحقة.