«بيرم التونسي» استعادة رجل المنافي
من لا يعرف محمود بيرم التونسي (1893-1961)؟ أليس هو الذي غنّت له أم كلثوم، وفريد الأطرش، وأسمهان، وشادية، ونور الهدى، ومحمد فوزي، وكان من وراء أعمال أوبراتية وإذاعية وصحافية كثيرة؟ أليس هو من نعتَه كامل الشناوي بالفنان الثائر، وكان طه حسين يثير المخاوف على اللغة العربية الفصحى بسبب سحر شعره العامّي؟ أليس هو من طلب منه سيد الأغنية المصرية العميقة العظيم سيد درويش أن يؤلف له أوبريت تحرك حماسة الشعب المصري ضد الاستعمار وتمجد الإنسان وإرادته في مواجهته لأقداره الصعبة؟ وماذا بعد؟ فجأة يحتل الصمت زوايا ما نعرفه عنه؟ فندرك أن كل ما نعلمه عنه لا يعدو أن يكون ثقافة سماعية في أغلبها، محدودة، بينما هو أكبر من هذا كله. محمود بيرم التونسي كان وما يزال قيمة إنسانية وأيقونة خالدة، لا تحصرها الحدود التونسية ولا العربية أو الفرنسية، بل رسختها المنافي المتتالية بقوة في تربة الإنسان الهشة. من هنا يكتسي جهد الباحثة والأكاديمية ابتسام الوسلاتي، قيمته العالية التي جعلت من «الأدبية التونسية» مشروعها الكبير من خلال الأقطاب الذين صنعوها وهُمِّشوا بعدها. فقد سبق أن اهتمت ابتسام الأكاديمية المجتهدة، بالميراث الشعري والسردي التونسي، من خلال كتابيها المميزين: «في الشعر العصري التونسي 1900 – 1930» التجربة التي جسدت بدء مغامرة التجديد في النص الشعري ورصد ملامح رؤية الشعراء الذين أسسوا وأصَّلوا التغيرات التي هزت كيانات القصيدة الكلاسيكية والتقليد، ثم كتابها الثاني «الهامشية في الأدب التّونسي – جماعة تحت السّور» الذي اهتمت فيه بهذه الجماعة «الثورية» أدبياً، «فتعمقت عوالمها التي تبنت فكرة التغيير والتحديث وتغذية المشهد الثقافي التونسي خلال ثلاثينيات القرن العشرين. فكانوا لحظة مميزة، وبجرأة غير مسبوقة جعلت المؤسسات الثقافية والقيمية في حالة إحراج. وكانوا لحظة فارقة في تاريخ الإبداع التونسي. الهامشية كانت خياراً ثقافياً وفكرياً، وهي رفض الانضواء تحت ظلال مؤسسات الهيمنة الثقافية والدينية». من هنا، فمؤلفها النقدي الجديد «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيل»، ليس معزولاً عن جهود الباحثة السابقة، لكنه يأتي في إطار مشروع نقدي موسع يعيد إلى الواجهة، بعد نسيان طويل، الأدب التونسي بمختلف تشكلاته اللغوية وإبداعيته. ولأن الذاكرة الجمعية كثيراً ما تنسى المنجز الأكثر ترسخاً وشعبية، اختارت ابتسام الوسلاتي أن تسخر جهدها الكبير لاستعادة هذه الجهود المطموسة في معظمها، ووضعها في المدار الثقافي الوطني والعربي والإنساني. فكان الرهان كبيراً؛ لأن الأمر لا يتعلق بالجهد المبذول وهو كبير، لكن بجمهور تونسي شبابي تحديداً، أصبح اليوم من حقه أن يعرف الذين بنوا سجلاً إبداعياً كبيراً جعل الثقافة التونسية تتخطى العتبات المحلية في اتجاه مساحة عربية أوسع، لأن هذه البلاد التي يغمرها نور العقل لم تنشأ من الفراغ، لكنها صيرورة ثقافية تستحق كل التقدير والاهتمام. تقول ابتسام مبينة طبيعة مشروعها: «إنّه خطوة جديدة على نفس الدّرب الذي اخترته بوعي وحبّ، وبعشق لمبدعين أنصاف مجهولين بيننا، وقد وجدت من واجبي بهذا الإصدار، تحقيق الإضافة المرجوّة إلى كل ما قيل وكتب عن هذا الشاعر المجيد الذي أغنى سياقات تجربة القصيدة المغنّاة.»
صدر كتاب «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيل»، عن دار الجنوب في تونس، في 260 صفحة من اللغة الاقتصادية والدقة النقدية، بعيداً عن اللغة الفضفاضة والسهلة التي لا تقدم معرفة بقدر ما تقدم يقينيات، تنفي الفعل النقدي الذي يرسخ المعرفة والحيادية والصرامة المنهجية. اختارت الكاتبة جهود بيرم التونسي في المنافي، من خلال منهج تاريخي تحليلي، يتقصى الحقيقة بالسند المقنع، ولا يستبق النتائج. وعلى الرغم من مأساة المنافي، فقد عاش بيرم التونسي وفيّاً لبيئته ولتاريخه وللجوهر الذي استقاه من منافيه المتكررة بسبب نشاطه الثقافي والسياسي المعادي للاستعمار. فجاءت نصوصه في شكل وثيقة جمالية تنبض بالحياة، تشهد بطاقته الإبداعية الخلاقة وتمرده وثورته. وعندما عاد إلى تونس في أواخر 1932 ليشرف على تحرير جريدة الزمان في يناير 1933، كان فعالاً ومناضلاً ثقافياً. جعل من الجريدة، في وقت قصير، منبراً ثقافياً وسياسياً حراً. فكانت منبراً مرجعاً للسجالات السياسية في ذلك الوقت. ووجد ضالته في «جماعة تحت السور» التي جعلت من الهامش اختياراً لها. فساهم في تحرير الصحف التي أصدروها، بخاصة جريدة «السرور» التي كان يشرف عليها مؤسس القصة التونسية، على الدوعاجي، في 1936.
بهذا العمل المميز تثير ابتسام قضية نسيان هذا الجيل التأسيسي الذي كان له الدور الأساس في ترسيخ الأدب العربي التونسي بوسيلتيه التعبيريتين: العربية، والعامية. إدراج العامية في متن هذا البحث يعني الشيء الكثير في مجتمعات عربية جعلت من تراتبية اللغة أمراً حاسماً ومضراً بالمعنى الثقافي. أي اعتبار الأدب الشعبي، الذي هو الروح النابضة لشعب من الشعوب، في مرتبة دنيا والمنتج في دائرة الإهمال. وأن الاهتمام بالأدب الشعبي هو تدمير للغة العربية، مع أن الشعر العظيم ليس فقط ابن أرضه ووطنه، لكنه يتخطى هذه الحدود المصطنعة في اتجاه ما هو أوسع وأكثر إنسانية. وبيرم التونسي أجمل الأمثلة على ذلك، الذي ما تزال أعماله الشعرية خالدة حتى اليوم.
حددت الباحثة ابتسام الوسلاتي عناصرها المنهجية من خلال ما ارتأته مفيداً لدراسة ظاهرة بيرم التونسي. خصصت الفصل الأول للصورة الأدبية بين المتخيّل والتمثُّل الثقافي، دون أن تهمل علم الصورة، فقامت بعملية حفر في تشكل المصطلح. كما اهتمت بفكرة الأنا والآخر بين المطالقة والانزياح. الفصل الثاني حللت فيه أطوار الشاعر محمود بيرم التونسي، الرجل الذي لا يشبه الآخرين. المتمرد والإشكالي، بداية المنفيين المصري والفرنسي ثم العودة إلى مصر. وبداية تشكل صورة الآخر، وهي صورة أكثر تعقيداً من التسطح الذي تبديه الكثير من الدراسات النقدية من خلال النظرات الاختزالية. أما الفصل الثالث فقد خرج من التاريخ ليهتم بالبنية الفنية والجمالية في شعر بيرم التونسي الغنائي تحديداً، وتجلياتها. في الفصل الرابع، حللت صورة الأنا والآخر وفكرة التبادل القيمي والاختلاف الديني والثقافي، بما في ذلك صورة المرأة وبقية المجالات الحيوية من ألبسة وأطعمة وعادات وتقاليد، مع التركيز على تحولات الاختلاف والائتلاف في منجزه الثقافي. ثم ختمت جهدها بصورة الغرب كما تتبدى في مرآة الشرق من خلال كتابات بيرم التونسي.
ويتضح جلياً من خلال هذه الخطاطة المختصرة، الجهد الذي بذلته الكاتبة لاستعادة ذاكرة رجل كان ابن زمنه بامتياز بكل تناقضاته. إذ لم يكن عصر الاستعمارات والثورات والانتفاضات عصراً هنياً وسهلاً. كل ذلك تم في ضوء رؤية نقدية اعتمدت على المادة التاريخية والأدبية وتفحصها بعمق، من خلال البحث الذي وفر للقارئ العربي مساحتين حيويتين: المعرفة التاريخية، والتحليل الموضوعاتي، ليتمكن من خلالهما من قراءة ظاهرة ثقافية وأدبية وحضارية وأيقونة خالدة اسمها محمود بيرم التونسي.