توالي الصدمات في المغرب: هزيمة كروية ورحيل «ريّان» ولهيب الأسعار!
كرة القدم تملأ الشاشات وتأسر قلوب الكثيرين، كما تأبى إلا أن تلقي بثقلها على الأحداث المتسارعة، فبينما يعلن اللاعب المغربي عبد الرزاق حمد الله (الذي يلعب في نادي “الاتحاد” السعودي) عن تبرّعه بمنزل مجهز لوالدي الطفل الراحل ريّان، يخرج زميله حكيم زياش (أحد نجوم نادي “تشيلسي” الإنكليزي) ليفاجئ الجميع بقراره الابتعاد نهائيا عن اللعب ضمن صفوف الفريق القومي المغربي، بسبب تداعيات استبعاده من المشاركة في كأس إفريقيا للأمم.
الواقع أن المغاربة عاشوا صدمتين قويتين في وقت وجيز: صدمة انهزام الفريق القومي في الأطوار النهائية للكأس الإفريقي، وصدمة فقدان الطفل “ريان” إثر غرقه في بئر في ضواحي شفشاون؛ وانضافت إليهما صدمة الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية والاستهلاكية وأثمان البنزين وغيرها.
بيد أن حجم المشاعر الإنسانية الغامرة التي ارتبطت بمحاولات إنقاذ الصغير طيلة أربعة أيام، غطّت على الخسارة الرياضية الكبرى، وما اتّصل بها من مطالب تخصّ محاسبة المسؤولين عن الأموال الباهظة التي تُصرف باستمرار على الفريق القومي، دون نتائج تُذكر.
بمحاذاة البئر التي سقط فيها ريان، حضر مندوبو القنوات التلفزيونية المحلية والعالمية، مثلما حضرت المواقع الإلكترونية والمدوّنات وشبكات التواصل الاجتماعي، واختلط الحابل بالنابل: ففي مقابل العمل المهني المضبوط لدى البعض، سعى الكثيرون إلى اختزال الأزمة في السعي نحو الكسب المالي السريع، بمحاولة استقطاب مُستعملي الإنترنت عن طريق التهويل والمبالغة واختلاق الأكاذيب، بل وافتعال البكاء أحيانا أثناء النقل المباشر لما يجري في القرية الرابضة بشمال المغرب!
وكما قالت إيمان إغوتان، إعلامية قناة “ميدي 1 تي في” في فيديو: “إذا كنت تريد أن تبكي فَابْقَ في بيتك، واذرفْ ما شئت من الدموع، أما في ميدان الحدث فالمتتبعون ينتظرون منك مَدّهم بالمعلومة، ووصف ما يجري أمامك بمنتهى الموضوعية والحياد وبدون عواطف” .
وفي خضم انشغال المغاربة والعالم أجمع بمحاولات إنقاذ الطفل العالق، أظهر مدرّب الفريق القومي المغربي وحيد خليلوزيتش، ذو الجنسية البوسنية، أن كل همّه منصب على ما يكسب من مهمته الفاشلة، إذ عقد مؤتمرا صحافيا ليبرّر الخسارة الكبرى في كأس إفريقيا للأمم، ويهاجم بعض اللاعبين المستبعَدين خصوصًا حكيم زياش. والحال أنه كان من اللائق إنسانيا وأخلاقيا أن يؤجّل المدرب الفاشل مؤتمرَه الصحافي إلى ما بعد مرور أزمة الطفل العالق؛ غير أنه لم يفعل… أليس ذلك مبررا كافيا لاستعباده عن الفريق؟ ولكن، يبدو أن للمسؤولين المغاربة رأيا آخرَ في الموضوع، مما يجعلنا نتساءل مجددا: ألم يُدركوا بعدُ أن الأحداث الأليمة، رغم وقعها القوي على النفس، تكون فرصة للأفراد والأمم والحكومات من أجل مراجعة الذات والقيام بنقد ذاتي؟
بكاء اللاعبين!
يتذكر الجميع أن رئيس الحكومة انبرى مدافعًا عن هزيمة الفريق المغربي خلال مثول معاليه أمام البرلمان، وشوهد على الشاشات والمواقع الإلكترونية وهو يقول: “إذا كُنّا كمغاربة شعرنا بالحزن بسبب الهزيمة، فقد خلدنا للنوم بعد ذلك؛ لكن اللاعبين لم يناموا تلك الليلة، بل ظلّوا يبكون”!
المغاربة لم يذرفوا الدموع لهزيمة الفريق، بل شعروا بالمرارة، وطالبوا بالمحاسبة على ضياع المال العام في مجال لا تتحقق فيه أية نتائج، عوض صرفه في مجالات أحوج ما تكون إليه كالتعليم والمعرفة والبحث العلمي والطب وغيرها.
لا يهمّ إنْ كان النوم هجر جفون اللاعبين “المدلَّلين” أم لا، بل المهم أن المغاربة ناموا بعدما تجرّعوا مرارة الهزيمة. وحين علموا بسقوط ريّان في البئر بعد “سقطة” الفريق القومي بأيام قلائل، نسوا تلك المرارة، وظلّوا مستيقظين وأيديهم على قلوبهم، يتابعون محاولات الإنقاذ أولاً بأول، متسمّرين حول شاشات التلفزيون وهواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر.
صحيح أن هذه الواقعة الأليمة جسدت حالة التضامن بين المواطنين، كما شمل التعاطف العالم بأسره؛ وصحيح أيضا أن ما حدث أبان عن معدن أصيل، جَسَّدَهُ كلّ الذين بذلوا أقصى جهدهم في محاولة لإنقاذ الطفل ريان، ولكنّ الواقعة ـ في المقابل ـ دقّت ناقوس التنبيه إلى أماكن الخلل في السلوك الإنساني والتقصير الحكومي. فمن جهة، كشفت عن مخاطر الآبار المفتوحة في الأرياف عموما، وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي ما يمكن أن تتسبب فيه من كوارث لا سيما بالنسبة للأطفال، ومن جهة ثانية كان الحدث الأليم بمثابة لفت الانتباه إلى ما تعانيه مناطق “المغرب العميق” (أو “المغرب غير النافع” وفق المنظور الاستعماري القديم) منذ عقود عدّة من تقصير حكومي على مستوى البنيات التحتية والمشروعات التنموية؛ فما أوسع المسافة بين الشعارات والواقع!
رأسمالية متوحشة!
بينما كانت الكاميرات مُنصبَّة على ما يجري في قرية الطفل ريان، وعلى البئر وعمليات الحفر تحديدا، استغلّ “أرباب” المحروقات الوضع، من أجل رفع أسعار الوقود إلى مستويات أعلى لم تشهده البلاد من قبل؛ فكانت تلك ضربة قاضية لمستعملي السيارات والشاحنات والحافلات… انضافت إلى الضربات المتوالية والمتمثلة في الزيادات التي جرت تحت مبرر الجائحة، والتي شملت المواد الغذائية والاستهلاكية ومواد البناء والتجهيزات المنزلية وغيرها.
إنها “رأسمالية متوحشة”، تُكشِّر عن أنيابها لتُجهز على الطبقات الفقيرة والمتوسطة؛ فيما تحمي نفسها بإقرار قوانين تخدم أهدافها، وسحب مشاريع قوانين أخرى من البرلمان لكونها لا تنسجم مع توجهاتها! ولا تتردد في التوظيف السياسي للمآسي وحتى لكرة القدم، من أجل تنفيذ “استراتيجية الإلهاء” كما بسطها المفكر الأمريكي المتنور نعوم تشومسكي.
الحداثة والقدامة!
في واقعة البئر الأليمة تجاورت الحداثة مع القدامة، والمعاصرة مع الأصالة، ووثّقت الكاميرات هذه التوليفة العجيبة، إذ حضر مهندسون طوبوغرافيون وخبراء إنقاذ وأطباء ومسعفون وعناصر من الدفاع المدني، ولكن كان لافتا أيضًا حضور رجل عصامي بسيط، لكنه ذو خبرة في حفر الآبار، فمُدّت الجسور بين هذا وأولئك في تلاحم عجيب!
وعلى مسافة غير بعيدة من مكان الحفر، كانت نساء القرية يهيّئن أطباقًا بطريقة تقليدية من أجل توفير الأكل لفرق الإنقاذ. ولم يلاحَظ وجود المموّنين العصريين الذين عادة ما يُتعاقد معهم في الأعراس والمآتم والمهرجانات والمؤتمرات!
بسطاء الوطن تطوّعوا من منطلق الإيمان بنبل المهمة الإنسانية، في حين لم تبدُ أية التفاتة إيجابية من لدن رموز الرأسمالية. ألا يدعو الأمر للاستغراب حقًّا؟!