فلسطين في القلب!
بكثير من التقدير، استقبل مرصدي الفكري إطلاق وزارة الثقافة الفلسطينية «جائزة غسان كنفاني للرواية العربية» وذلك بالتزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على رحيل كنفاني، الروائي الكبير والصحافي الشهير. وزير الثقافة الفلسطينية عاطف أبو سيف أعلن في بيان، أن «هذه واحدة من أرفع الجوائز التي تمنحها فلسطين للناحية الاعتبارية الرمزية لغسان، ولما يمثله في الوجدانين العربي والفلسطيني ولإسهاماته في الحركة الوطنية الفلسطينية»، وقال إن إعلان الفائز بالجائزة سيتم في 8 ـ 7 في ذكرى رحيل كنفاني مع «ملتقى فلسطين للرواية العربية» الذي يقام سنوياً في ذكرى استشهاد كنفاني.
بسام أبو شريف: كنفاني القائد
شعرت بالرغبة في إعادة قراءة كتب غسان كنفاني في تلك المناسبة، مثل «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» و«أم سعد»، ولم أجدها عندي؛ فأنا أقيم في باريس منذ عدة عقود، وكتبه في بيتي البيروتي. ولهذا قررت قراءة كتاب بسام أبو شريف الذي حاولت إسرائيل اغتياله وفشلت واستطاع النجاة من الموت بعد جروح بليغة وأيام طويلة في المستشفيات؛ لانفجار الرسالة المفخخة التي تلقاها من إسرائيل. عنوان كتاب بسام أبو شريف «غسان كنفاني القائد والمفكر السياسي»، والكتاب جذاب لأنه يتحدث عن الكثير من النواحي الإنسانية والفنية الإبداعية لغسان، وهو الذي عمل مع غسان في «مجلة الهدف» التي أسسها في بيروت بعدما عمل غسان في مجلات وصحف لبنانية كـ«الحوادث» و«الأنوار» و«المحرر» وسواها.
كما سنقرأ على الغلاف الأخير للكتاب شهادة الشاعر الكبير محمود درويش في غسان بعد اغتياله، وفيها يقول: «لن نلتقي بعد. لن نسمع مزيداً من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائماً بقوة كلماته التي لا تموت. كم كتب الفلسطينيون وماتوا، لكن حبرهم كان يجف مع دمهم. كتاباته هو قد تكون هي الدائرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها. وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ مع غسان كنفاني.
عن شعراء «الأرض المحتلة»
يضم كتاب بسام أبو شريف عن «غسان.. القائد والمفكر السياسي» غير شهادة من الشاعر الكبير محمود درويش: «كان غسان كنفاني أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم متحدثاً عن أشعارهم وأزجالهم الشعبية». وفي الفقرات الأولى لتعريف العالم العربي بشعر المقاومة، لم تخل مقالة نشرت عنهم من معلومات كتبها غسان. أصبحت كتاباته عن «شعراء الأرض المحتلة» مرجعاً مقرراً في عدد من الجامعات، ومرجعاً للدارسين. الدراسة الوحيدة الجادة عن الأدب الصهيوني كانت لغسان كنفاني نشرتها «مؤسسة الأبحاث الفلسطينية بعنوان «في الأدب الصهيوني». يقول بسام أبو شريف معجباً بغسان، إنه كان أول من كتب عن حالة «اللاسلم اللاحرب»، قائلاً: «أشهر الصحافيين العرب صاروا يكتبون عن حالة اللاسلم واللاحرب»، ويضيف: «لو عدنا قليلاً إلى الأشهر التي تلت حرب حزيران 1967 وتابعنا تعليقات غسان السياسية في تلك الفترة لوجدناه يتحدث عن اللاسلم واللاحرب؛ أي قبل عدة سنوات من ابتكار الصحافة العربية والعالمية اليوم» ويضيف بسام أبو شريف: «كان غسان شعباً في رجل. كان قضية. كان وطناً. تتعذر استعادته إلا إذا استرجعنا الوطن».
لم يذهب غسان إلى الغداء!
الشاعر الكبير محمود درويش يبدو أنه كان على موعد للغداء مع غسان كنفاني يوم استشهاده ويكتب برهافة: ويا صديقي غسان، لم تتناول طعام الغداء الأخير ولم تعتذر عن تأخرك. تناولت سماعة التلفون لأعنفك كالمعتاد «الساعة الثانية ولم تصل، كفّ عن هذه العادة السيئة». لكنهم قالوا لي: «قد انفجر»!
لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء. لكننا (يا غسان) نراك في كل مكان.
تحيا فينا ولنا وأنت لا تدري ولا تعلم».
الطرد الملغوم لبسام!
كآلاف العرب، صعقتني محاولة قتل بسام أبو شريف بتفجير طرد ملغوم وصل إليه وفتحه بفضول دون أن يدري أنه على قائمة الذين قررت إسرائيل التخلص منهم باغتيالهم. ولكن بسام سجل لها أول فشل في هذا الحقل. وأصيب بالكثير من الأذى، لكنه ظل حياً نكاية بها! وكتب باختزال عن كتاب وصله بالبريد، وكان يحمل صورة «تشي جيفارا» على الغلاف: «في جزء من ثانية رأيت العبوتين في اللحظة التي انفجرتا، فلم أعد أرى ولم أعد أسمع. بالطبع كنت أعلم ما حدث. لقد انفجر الكتاب في وجهي، ولهذا فقد أصبحت الدنيا ظلاماً في ظلام. لكنني لم أستوعب أنني فقدت السمع ـ كنت أسقط في واد سحيق مظلم وبارد ودوي صدى مستمر يرافقني.
شعرت بالدم ينزف من وجهي وعنقي وصدري، وأحسست بقبضتين قويتين تمسكان بذراعي من أعلى وتحملانني، فسألت من أنتم؟ لا جواب. وأنا لا أرى. هل هو الخطف الذي فكرت فيه؟ شعرت بهم يهبطون درج مكاتب «الهدف» ويضعونني في المقعد الخلفي بسيارة. السيارة مسرعة وأنا أغرق، شعرت بضيق في النفس. كان الدم يسيل خارج جسدي وداخل فمي، وبدأت أختنق.. أيد تمتد تسحبني. هواء.. هواء.. وأنسد كل شيء وذهب اللاشعور.. لم أكن أدري كم من الوقت مضى قبل أن أسمع صوته مرة أخرى (يقصد أسعد عبد الرحمن) وسألته: قل لي بصراحة، ماذا فعلوا؟ ماذا حصل لي بالضبط؟
أجاب أسعد: لقد فقدت عينك اليمنى. لقد اقتلعتها المتفجرة. الآن لا ندري إذا كنت سترى النور أو ستصبح ضريراً. لقد فقدت عدة أصابع من يدك اليمنى وأجزاء من أصابعك في يدك اليسرى. جراحك كثيرة وعبر جسدك كله. وغرقت في بحر من الحمى واللهيب أصارع النيران التي تنبعث من جسدي وأنا أتلوى ألماً.
هذا أول وصف في الأدب العربي لمن ينفجر بين يديه الطرد الملغوم ويظل على قيد الحياة نكاية في العدو ووفاء للقضية الفلسطينية. ومن الجميل إطلاق وزارة الثقافة الفلسطينية للرواية العربية، وذلك بالتزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على رحيل غسان كنفاني. وما أكثر شـهداء فلسطين الأحياء والأموات!