هل جاء العرب من بلاد القوقاز إلى الجزيرة العربية؟ ج2 من3
علاء اللامي*
التوثيق والاقتباسات:
من الواضح أن المؤلف بذل جهدا كبيرا في توثيق كتابه، ورغم وفرة الاقتباسات الضرورية غالبا فيه، فلم يتحول الكتاب إلى كشكول منوعات مبعثرة لا يجمع بينها جامع. وهذا للأسف ما نجده في بعض كتب المؤلفين المعاصرين في الميدان التاريخي والآثاري والإناسي والمثيولوجي والثيولوجي، حيث يعمد هذا البعض إلى إيراد المئات من الاقتباسات وبطريقة يشوبها الخلط بين كلام المؤلف والمقتبسات عن كتب الآخرين، فلا يفهم القارئ منها حدود النص الأساسي والاقتباسات إلا بجهد جهيد. ولكن طريقة كنجي في توثيق هذا الكتاب، وإنْ كانت واضحة الحدود، من خلال حصر المقتبسات دائما بين أقواس، لكنها لم تكن موَّثقة وفق الطريقة الأكاديمية المعهودة والتي تعتمد الترتيب التالي داخل هوامش خاصة بالتوثيق؛ “اسم مؤلف المرجع أو المصدر – بذكر اللقب ثم الاسم الأول غالبا- ثم عنوان الكتاب، فرقم الطبعة أو الجزء، فدار النشر، فعاصمة النشر، فسنة النشر، وفي النهاية رقم الصفحة” مع بعض التقديم والتأخير في التفاصيل، فمؤلف هذا الكتاب يذكر غالبا اسم الكتاب المُقْتَبَس منه ومؤلفه ورقم الصفحة في نص الفصل وليس في الهوامش المخصصة للتوثيق والتعليق، فغالبية فصول الكتاب تخلو تماما من الهوامش، وفي بعضها الآخر نجد الهوامش مختصرة وغير مرتبة، أما في نهاية الكتاب فثمة قائمة بـ “المصادر” تحتوي على 117 عنوانا غير مرتبة بالشكل الأكاديمي سالف الذكر. وفي حالات أخرى يورد المؤلف مراجع لا يعتد بها منهجيا من قبيل عبارات “كما وردت معلومة من مصدر في الانترنيت/ ص49″، أو “والمثبت في كتب التاريخ يروي…/ص105 “. إن هذه الطريقة في التوثيق، رغم قلة الأمثلة عليها، والتي قد تكون مبررة في المقالات الخفيفة والسريعة ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها لا تنسجم مع كتاب ضخم وتخصصي كهذا، لأنها تفقده جزءا من رصانته البحثية وقد تجعل إمكانية استفادة الباحثين وطلبة العلم الجامعيين منه صعبة في متابعة التوثيقات.
من أين جاء العرب واللغة العربية؟
خصص المؤلف الفصل السابع من كتابه لما سمّاه “أبعاد ودلالات لغة بعشيقة وبحزاني”. وفيه يؤكد أن لغة هاتين المدينتين هي لغة قائمة بذاتها وليست لهجة، ويعلل ذلك ببعض الأسباب التي لا تحسم الموضوع بما يؤدي إلى الخروج بهذا الحكم القاطع المناقض لقول المؤلف نفسه أن هذه “اللغة” هي خليط من اللغات الكردية والعربية والفارسية والتركية وغيرها. وفي نقاشه للموضوع يتطرق كنجي ومن باب التبني والتأييد الحماسي إلى ما طرحه الباحث المصري د. لويس عوض من آراء وافتراضات في مجال فقه اللغة سنة 1980.
إن عوض الذي عُرف بدعوته إلى اعتماد اللهجات العربية المحلية بديلا للغة العربية الوسيطة “التي تسمى الفصحى”، وهو صاحب فرضية – كما يصفها هو نفسه- خلاصتها أن العرب لم يهاجروا من الجزيرة العربية الى شمالها، وأن التكوّن السكاني لشبه الجزيرة لم يكن فيضا سكانيا من داخل الجزيرة إلى داخلها أو حوافها المحيطة بها، ولكنه كان فيضا سكانيا من خارج شبه الجزيرة إلى داخلها؛ وخاصة من أقوام بادية لا تزال في مرحلة الرعي آثرت حياة البداوة على حياة الاستقرار في وديان الأنهار أو حيل بينهما وبين الاستقرار- ص 328″، وهذه الفرضية تخالف كل ما هو معروف وعقلاني عن الهجرات البشرية التي تنطلق من المناطق الجافة إلى المناطق الفيضية الرطبة الوافرة المياه وليس العكس!
وفي موضع آخر ينقل كنجي عن عوض فرضيته، وقد تحولت إلى نظرية مصوغة هذه المرة بمنتهى الجزم، وتقول “فالعرب موجة متأخرة جدا من الموجات التي نزلت على شبه الجزيرة العربية من القوقاز والمنطقة المحيطة ببحر قزوين والبحر الأسود نحو ألف ق.م، نفذت الى الفراغ الكبير في شبه الجزيرة من طريق بادية الشام، حاملة معها لغتها القوقازية المتفرعة عن المجموعة الهندية الأوروبية – م.س”. وتبقى وجهة نظر عوض والتي طرحها قبل عدة عقود مجرد وجهة نظر أو فرضية ترجيحية نقضتها العلوم الحديثة كما سأبين في الأسطر التالية:
وقفة مع فرضيات لويس عوض:
إنَّ الفرضيات المناخية التي طرحت قبل نصف قرن تقريبا تم تعديلها بشكل جذري نتيجة التطور المذهل الذي طرأ على “علم مناخ العالم القديم” حيث أصبح من الميسور تحديد مناخ أية بقعة من العالم بدقة عالية، وقد ثبت مثلا أن فترة الجدب والتصحر وتسمى “الفترة المظلمة” سادت في الجزيرة العربية في هذه الفترة بالتحديد “الألف الثالث والرابع ق.م” ، إذ أكدت دراسة تخصصية نشرت ترجمتها في موقع (scientificamerican.com) وكانت بإشراف معهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري في ألمانيا، “أن سكان المناطق الشمالية في شبه الجزيرة العربية تعايشوا مع فترات الجفاف بشكل يدعو إلى الإعجاب، وهو ما يُرجعه إلى أن المنطقة كان لديها نظام هطول أمطار مختلف، مقارنةً بجنوب شرق شبه الجزيرة العربية، وكان الناس قادرين على التجمع في مناطق تتسم بوجود بحيرات قديمة ضحلة، مثل واحة “جبة” في شمال شرق السعودية حاليّاً. وتصف هذه الدراسة الفترة بين 5900 إلى 5300 سنة (أي بين 3900 إلى 3300 ق.م) بـ”الألفية المظلمة”؛ إذ سادت القحولة – الجدب – معظم المنطقة، ما دفع العلماء إلى اعتقاد أنها لم تكن صالحةً للسكن”، وأثبت الدراسة بالأدلة الإركيولوجية وتحليل بقايا المواقد والبحيرات القديمة أن الإنسان الجزيري تكيف وتعود على ظروف الجفاف الجديدة، وتصدى لها بمختلف الأساليب ومنها كما تقول الدراسة “التحول من الصيد والزراعة إلى الرعي، نتيجة نقص الأمطار والغطاء النباتي، وبالتالي تَحوَّلَ كثيرٌ من المجتمعات من حالة الاستقرار والاستيطان إلى حالة التنقل والترحال. وهاجرت تجمعات من السكان من قلب الجزيرة العربية إلى البيئات الفيضية المرتبطة بوجود الأنهار، كبلاد الشام والعراق. م.س”!
أما الفيلم الوثائقي العلمي بأجزائه الخمسة “رحلة بشرية لا تصدق” (incredible human journey )، والذي اعتمد منفذوه على ما يسمى “الحاسوب المناخي” والذي يسمح لنا بمعرفة الحالة المناخية التي كانت عليها أفريقيا والجزيرة العربية الجافتين في العصور السحيقة، ولكن وقبل 125 ألف سنة حدث تغيير جذري في المناخ وصار رطبا مطيرا وبدأت صحاري أفريقيا والجزيرة العربية تخضر وتزدهر بالحياة، ثم بدأت مرحلة جفاف أخرى قبل 90 ألف سنة وهي مستمرة حتى اليوم. ويخلُص هذا الفيلم الوثائقي إلى تأكيد حدوث هجرة بشرية انطلقت من أفريقيا عبر مضيق باب المندب الذي تناقص عرضه بسبب حقبة الجفاف الثاني وتناقص مياه عند المضيق الى كيلومتر واحد وصار بإمكان الإنسان عبوره بسهولة، وتواصل خط الهجرات من داخل أفريقيا الى أسيا حتى الهند والصين، ورغم أن هذه النظرية عن أصل البشرية الأفريقي تعرضت إلى بعض النقود العلمية في تفاصيلها، ولكنها تبقى على صعيد تفسير الهجرات البشرية أكثر معقولية من فرضية لويس عوض حول هجرة أجداد العرب من القوقاز وبحر قزوين.
وفي السياق ذاته دحضت دراسات جديدة أخرى في علم مناخ العالم القديم حدوث هجرات معينة كهجرة الكنعانيين من الجزيرة العربية إلى هضاب فلسطين الوسطى إذ أن هذه الهضاب كانت تعاني في الألف الثالث قبل الميلاد من تغير مناخي جاف شديد وانحباس مطري طويل، ولا يصح بالتالي حدوث هجرات بشرية واسعة النطاق إليها لانعدام الجاذب والمسوغ الزراعي، وقد حلَّ بعض الباحثين الفلسطينيين الأركيولوجيون والجيولوجيون هذا الإشكال بأن أكدوا على أن الكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون منذ البداية، فتكاثروا ثم تناقصوا سكانيا في فترة الجدب ثم عادوا الى الانتشار والتكاثر مع تحسن الظروف المناخية والاعتماد على المياه الجوفية وهناك أدلة جيولوجية وأركيولوجية ذكروها تدعم هذا التفسير، ومن القائلين بهذا التفسير الباحثان الآثاريان الفلسطينيان د. عيسى الصريع ود. هاني نور الدين، وقد توقفنا عند آرائهما في مقالة سابقة.
أعتقد أن الخطأ في التعامل مع أفكار لويس عوض يتأتى من الخلط بين المنهج الذي اعتمده وبين القضايا التي عالجها وفق ذلك المنهج، فهو قال ذلك صراحة في حوار معه اقتبسه نسيم مجلي في كتابه “لويس عوض ومعاركه الأدبية”، والذي طُبع فصل منه كمقدمة لكتاب عوض المذكور، حيث قال عوض في ذلك الحوار مع نبيل فرج “هناك في الكتاب منهج وهناك قضايا. أما المنهج فهو امتحان اللغة العربية بتطبيق كافة قوانين الفونوطيقيا (علم الصوتيات) والمورفولوجيا (علم الصرف أو علم صور الكلمات) وقوانين الإيتمولوجيا (علم قوانين الاشتقاق)، “…” حيث أرى أن أي دارس للفيلولوجيا أي فقه اللغة، يجب أن يكون مسلحا منذ البداية بهذه العلوم، وأنا لا أطالب إلا بتطبيق هذه القوانين بعقل مفتوح حتى نستطيع أن نهتدي إلى ما بين لهجاتها من صلات وما بين مفرداتها ومفردات اللغات الأخرى من صلات. أما القضايا فهناك جملة قضايا أهمها أن اللغة العربية كغيرها من لغات العالم مكونة من طبقات شبيهة بالطبقات الجيولوجية التي اندمجت وتكاملت مع نفسها، وانصهرت في هذه البوتقة، وخرجت منها هذه اللغة العربية/ ص 8-9 من “مقدمة في فقه اللغة العربية – لويس عوض” -ط1 سنة 2006 – دار رؤية للنشر والتوزيع”. فالاعتراض ليس على المنهج العلمي الذي زعم عوض أنه يأخذ به ويعتمده، وهو منهج علمي فعلا ولكنه يبقى ذا أساليب أدبية غير تجريبية حاسمة النتائج كالفيزياء والرياضيات والكيمياء إلا في جانب ضئيل منه يتعلق بالجانب الكيميائي والفيزيائي المتمم لعمل الإركيولوجيا والجيولوجيا، بل الاعتراض على كيفية تطبيق هذا المنهج على القضايا موضوع البحث والاستنتاجات والفرضيات والنظريات التي خلص إليها الباحث حول “الطبقات الشبيهة بالجيولوجية في اللغة العربية” والقضايا المتفرعة عنها كأصل العرب ولغتهم التي اعتبرها فرعا من “هندوآرية” ومن أين جاءوا كما يقتبس مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا.
سأركز الآن قراءتي النقدية على بعض الأفكار التي وردت في هذا الفصل من كتاب الأستاذ صباح كنجي بخصوص العرب ولغتهم وتاريخهم:
الجزيريون “الساميون” والعرب، الكل والجزء:
يخلط المؤلف بين العرب والجزيريين “الساميين”، وهو بذلك يكرر – دون أن يقصد طبعا- خطأ بعض القوميين العرب الذين يعتبرون جميع الشعوب الجزيرية عربا، أو ان العرب هم اصل جميع الجزيريين، فمن المعروف أن الشعوب الجزيرية هم من أصول إناسية متقاربة، وربما يرجعون إلى أصل إناسي وعرقي واحد، تفرع لاحقا، ولكننا لا نعلم عنه شيئا محددا وواضحا ومؤكدا حتى الآن، والعرب هم فرع أو شعب من هذه الشعوب، وليسوا أصلا إثنولوجيا “عرقيا” لغيرهم من الشعوب الجزيرية، فالعرب هم حقاً أحدث وآخر الشعوب الجزيرية السامية التي ظهرت على مسرح التاريخ في المشرق.
إنَّ الموثق بالأدلة الآثارية لأول حضور منظم للعرب كان في العصر الآشوري، حيث ساهمت قوة عربية في القتال وكانت بقيادة جندب العربي “جندبو آريبي” وتعدادها ألف مقاتل على الجمال حصرا، ضمن جيوش تحالف دويلات المدن في معركة قرقرة “كركرا” التي دَارَتْ رَحَاها عام 853 ق.م، شمال غرب سوريا، بين هذا التحالف وجيش الإمبراطورية الآشورية الحديثة بقيادة الإمبراطور شلمنصر الثالث، وكان جيش التحالف بقيادة الملك بن حدد الثاني ملك دمشق الآرامي وضم التحالف أثني عشر ملكاً وجيوشهم.
أما النقش الذي يشير إليه كنجي ويسميه “نقش امرئ القيس” والمعروف أركيولوجيا باسم “نقش النمارة”، فيرجع تأريخه إلى سنة 328م، وقد كتب بالخط النَّبطي. وشكك الباحث العراقي سعد الدين أبو الحب بترجمة وتعريف هذا النقش سنة 2009، وقال – في دراسة له بعنوان “قراءة نقشي النمارة وأم الجمال النبطيين” ما معناه، إنه ليس شاهدة قبر لمرئ القيس ولا علاقة مباشرة له بهذا الملك وقدم قراءة وترجمة جديدة ومختلفة له تذهب إلى أن كاتب النقش يقسم في السطر الأول منه بروح الملك امرئ القيس ليس إلا، ثم يتحدث في سطوره التالية “عن تفاصيل انتصار أحد القادة العرب المتحالفين مع الروم، واسمه عكدي، على قبيلة مذحج وذلك بعد معركة في شعاب نجران”. ومع هذا وذاك، وبغض النظر عن محتوى نقش “النمارة”، فإن هذا النقش متأخر زمنيا على ما ورد في نصب شلمانصر الثالث حول معركة قرقر بأكثر من ألف ومائة وخمسين سنة.
ترى، ألا يشكل هذا الدليل الآشوري دحضا نهائيا لنظرية لويس عوض عن هجرة الأقوام البدائية من القوقاز إلى الجزيرة العربية عبر بلاد الشام والعراق قبل الميلاد بألف سنة؟ أم أن هذه الأقوام البدائية جاءت من القوقاز مكتملة العروبة لغة وتكوينا؟
إن هذا الخلط الخاطئ بين العرب والجزيريين، أو اعتبار العرب هم أصل الجزيريين، أو أنهم أقدم الشعوب الجزيرية وليس جزءاً متأخر منهم، هو ما أوقع المؤلف في العديد من الاستنتاجات غير الدقيقة والمتسرعة، ودخل في عملية تفنيد لما ليس ثمة حاجة لتفنيده أصلا كما يعرف المتخصصون والمهتمون بالشأن الإناسي والتأريخي. بل وقاده ذلك إلى ترجيح ومناقشة فرضية هامشية حول أصل السومريين والشعوب الجزيرية الأخرى تقول بأن أصلهم من منطقة القوقاز والتي يصفها بأنها “كانت منبع الهجرات المتعاقبة وهذا ما تؤكده المكتشفات الآثارية التي تكشف شعوب وقابل هذه المنطقة بالتعاقب ابتداء من السومريين وما أعقبهم من قبائل وأجناس رعوية…ص 322″، دون أن يذكر مثالا واحدا من هذه المكتشفات الآثارية.
في الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة سنواصل مناقشة فرضيات لويس عوض ومناقشة المؤلف حول استناده إلى بعض الكتب المقدسة كالتوراة، ودخوله على خط الجدالات السياسية الأيديولوجية حول العرب، ونختم بالتنويه بعدد من النقاط الإيجابية المنهجية في هذا الكتاب. يتبع.
*كاتب عراقي