عِــنـدمـا يتـحـدّث الضـمـير : قـراءة تحـتـيّـة في كـتاب ” بـيني وبيـن نفسـي ” للكاتب محـمـد الـسَـعـدي .
بيدر ميديا.."
عِــنـدمـا يتـحـدّث الضـمـير : قـراءة تحـتـيّـة في كـتاب ” بـيني وبيـن نفسـي ” للكاتب محـمـد الـسَـعـدي .
منشـورات الـرافدين – ط1 – بغـداد 2021 .
القسم الأول – 1 مـن 3
يستـفـزّك العـنوان ” بيني وبين نفسي” حين تسرح ذاكرة الكاتب لشجون الذكريات في سفر الأحـلام، ليحـكي قِـصّـة مناضلٍ في صفوف الحركة اليسارية العراقية، أوصلته قناعاتهِ النضالية لأن يترك سـاحـة النضال، بعـد تـراكم الأخطاء في تنظيمٍ كان ينتمي إليه طـوال عُـمره .
* فهـرست الكتـاب، تقـودك الى ( 65 خـاطرة) أو حـدثٍ مـرَّ بهـا الكـاتب، مُـسطّـرة على صفحات الكتاب البالغـة ( 397 صفحة) .
* في الإهـداء الى زوجـته ( جنان – ص9 ) يُـدخلك الكاتب الى ” حالة نرجسية شعرية حالمة” كانت دواخله تعيشهـا، بغية أن يراهـا مُجسّـدةً مع حبيب العُـمر، ولكن ” النكسات المتـواليـة” كانت تقول غير ذلك:
” إلى جِـنان … أيّـة خيبةٍ، أيَّ خُـذلان,, كنتُ وعـدتُكِ، إن نجوب معـاً أزِقّـةَ الهـويـدر، موسم القِـدّاح، موسم الشَـذى ” .
في هـذا المُـفـتَـتح، يُـريد الكاتب أن يدخلنا معه الى ذلك العـالم المُـتخيّـل في رؤاه الحـالمة ولــكن ( مات شجرُ الصبّـار، والسواقي لم تعـد تهـدر” فأدخلنا الكاتب بالتناقض المباشر، بين المُـتخيّـل والـواقع ومـآلاتـه القادمة .
* كاتبُ المقدمة، د. عبد الحسين شعبان، يُـسلّط الضوء على تجربة سابقة، كان الكاتب محمد السعدي، قـد وقع في ” فخ الإستخبارات العراقية ” عام 1978م ، بخديعةٍ أو تـواطئ، حيث أصبح لُـقـمـةً سائغـة لرجال الإستخبارات العراقية ” في الشعـبة الخـامسة ” ولمدة 87 يوماً، حيث ذاقَ أنـواع التعـذيب، بغية الإعـتراف، وقـد اقـتيدَ الى ” محكمـة الثـورة” والتي تـمَّ تـأجيل النظر في قضيته، مع 8 أشخاص من حزب الدعوة الإسلامي، وعند العـودة الى مقر الشعبة الخامسة، جرت المساومة معه ” للتعـهُّـد” بالعمل لصالح الإستخبارات العسكرية، وهـو أسلوب تَـتّـبعه المخابرات العراقية مع مَـن يلقى القبض عـليهم، لا سيما مِـمّـن كانوا يتوجّـهون الى الداخل العراقي، لإعادة بناء ” التنـظيم” ، وقـد أفلحت المخابرات العسكرية من تجـنيدهِ، هُـو وغيرهِ، لإدارة “أمـاكن حزبيّـة” مرصودة كل تحرّكاتها واتصالاتها، مُـتعقِّـبة أثرهـا، في أكبر عملية اختراق لصفوف الحزب الشيوعي العراقي، في مطلع التسعينات من القرن الماضي” وقـد شرح الكاتب محمد السعدي، هـذه العـلاقة في كتابهِ ( سـجين الشُـعبة الخـامسة). راجع مقدمة د. شعبان ص11- ص12 .
* تـدور أحداث هـذه ” المذكرات” في ” قـرية الهـويدر” وبساتنينها ومقاهيها الواقعة في محافظة ديالى – وحـواري أزقة بغـداد وجامعاتها، وبين ” العمل الأنصاري” في المنطقة الجبلية في شمال العراق ” منطقة كردستان” حيث شاهـد ولامس الكاتب كل تجربة الحزب الشيوعي عام 1978 وصولاً الى المـؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي عام 1985 م .
* وتكاد تمثّـل المرحلة من 1980 – 1983 ، وحوادثها التي رافقت انفراط : عقـد الجبهـة الوطنية” وقيام الحرب العراقية – الإيرانية، مع انتظامه في ” نـواتات الخلايا الشيوعية في داخل العـراق، ومشاركتهِ في تـأسيس ” منظمة الصدى” ، ومن ثم توجُّـهِـهِ الى المناطق الجبلية عام 1983، حيث تكون صدمتهِ الكُـبرى، وهـو يلتقي بقـياداتٍ سياسيةٍ تاريخيةٍ للحزب الشيوعي العراقي، من أمثال بهـاء الـدين نـوري، وكيفيّـة عـزلهِ، مع وقوفهِ على ” حيـثيّات ” أحـداث بشت آشان عام 1983 ” حين شَـنَّ حزب الإتحاد الوطني الكرستاني هجومهم على مقرات الحزب الشيوعي العراقي، إذ راح ضحية هذا الهجوم الغادر عشرات الرفاق والرفيقات، وتداعيات ذلك على القاعدة الحزبية في شمال العراق، أو في منظمات الخـارج. وقـد وقف الكاتب محمد السعدي على الترتيبات للمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي، وآثـار الإنقِسامات فيه، لا سيما كلمة ” السكرتير العام للحزب عـزيز محمد، وهـو يفتتح المؤتمر بقوله ” إجتمعنا هُـنا اليوم ليُـلغي نصفنا النصف الآخر” حيث تم في هذا المؤتمر، استبعاد أغلب أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، من القيادات العربية، حيث جرى ” فصلهم وإبعادهم بسبب وجهات نظرهم الفكرية والسياسية، لا سيما بعـد انـدلاع الحرب العراقية – الإيرانية. ثـم يكشف الكاتب ” الإختراقات الخطيرة ” التي قامت بها المخابرات العراقية داخل صفوف ” الأنصار” للحزب الشيوعي العراقي في جبال منطقة كردستان العراقية ، وقد اعترف بعضُ هـؤلاء المندسين، بعـد التحقيق معهم بفعلهم هذا . صـ 14 .
يذكر د. عبد الحسين شعبان ، في مقدمته للكتاب ص 15 بـأن الكاتب محمد السعدي امـتـــازَ بجرأةٍ وشجاعـة نادرتين ، بكتابه الأول والثاني، حين اعترف بالكثير من اخـطائه ومثالبه وعيوبه، ومنها تعاونه مع أجهزة الإستخبارات العسكرية، حين تم اعتقاله، وذلك إنقـاذاً لنفسهِ، بعـد أن لم يتمكّـن من الصمود في التعذيب الى النهاية ، حينها قرر قبول عرض الإستخبارت، بعد أن رفضه في السابق باصرار، ولكنه قـرّر تضليلها، ثم الهرب في أوّل فرصت سنحت له، وذهب الى الجبل، مرّة ثانية، وقد أخبر الحزب الشيوعي بجميع هذه التفاصيل التي جرت معه، لا سيما أخبرهم عـن ” الرفاق” الذين تـمَّ إلقاء القبض عليهم، وتعاونوا مع الأجهزة الأمنية، ويعـتقد أن قِـسماً منهم قد أخفى هذه المعلومات عن الحزب، وكان هـؤلاء في ” مواقع متقدمة” داخل صفوف الحزب. ص16 .
* هـذه الأحداث السياسية والتاريخية، والتي مـرَّ بها الكاتب، كانت تَـمُـرُّ على خاطرهِ، ويتوجّـسَ منها، وأحياناً يعيد استحضارها بين يقظةٍ وذهـول، وحالة تراجع ومراجعة وتقيّـيم حيث يقول : ” في هذه الأوراق، هُـناك ما كُـتب بدواع من توثيق حقبة مهمـة من حُـقب تاريخ الحركة الأنصارية، سبقني الكثيرون من رفاق المسيرة في تـدوينِ أحداثها، كُـلاًّ فيما يخص تجربتهِ ونظرتهِ للأحداث، كما أني وجدتُ أنه من الأمانة التاريخية أن اُكـمل سرد بعض التفاصيل التي لم يأتِ عليها أحـدٌ مِـمّـن سبقني في الكتابة عنها، لأنها تفاصيل تخُـصّـني شخصيّـاً، وباتـت جُـزءاً من كياني” ص 23 . ثم يُـضيف عبارةً مهمة ومسؤولة، يقول فيها :” أنا أُعـلن أنّـني مسؤول عن كل ما فيها، مسؤولية تاريخية وأخلاقية يفرضها عليَّ الضمير العقائدي” ص24 .
* تتـحدّث الفصول الأولى من ” المذكرات ” عن حياة ونشأة الكاتب محمّـد السعدي، وتُـظهـر انتماءه الطبقي للفلاحين من قرية الهـويدر، ص25 ، وانعكاس عادات وتقاليد الفلاحين على تربيته الإجتماعية ومواقـفهِ الأخلاقية، فيما تُـظهر بقية الفصول نشأتهِ الثقافية، وتأثُّـرهِ بالكُـتاّب الذين أثّـروا فيه، أمثال ( سيمون دي بفوار ، آرنست همنغـواي، والمفكّـر المصري المعروف ( سلامة موسى ) . وبدايات تعرُّفهِ على سلمان الفارسي، وأبي ذر الغـفاري وما تعرّض له، فيما كانت بداياته نحو الفكر الماركسي – الشيوعي . ص27 – 28 .
فيما كانت إسقاطات وتأثيرات التراث الحسيني ومظاهره الفولكلورية، في أيّـام عاشوراء، تجد لهـا مكاناً في نفسيته القلِـقـة، قبل أن يتلمَّـس معالم طريقهِ نحو الماركسية . ص31 .
* يلتفت الكـاتب الى ( الحِـس الشـعبي) من خلال نظرات الناس ومطالبتهم باتخاذ موقف مبدأي تجاه ممارسات سلطة القمع البعثية، بعـد انفراط عقـد الجبهة الوطنية، وضرورة إشهار موقف مُـمـيّز للشيوعيين بوجه البعث الفاشي، وإن الشيوعيين هُـم المناضلين من أجل الشعب وعيشهِ الكريم، لكن السؤال الذي كان يؤرّقـه من قبل الناس هـو : كـيف ستـتمكـّـنون من زعـزعـة النظام الجاثم على صدورنا ” ؟
وأزاء هذه الأسئلة المُـحيّـرة، كانت حـالة التـداعي لديه تُـثير داخله هـواجس التراجع في العمل الحزبي داخل الساحة العراقية،، فـقـد انكشفت أمام السلطة الفاشية للبعث كل تحركات الشيوعييّـن، وأصبحت خلاياهم مكشوفــة، لذلك كانت حملتهـم القمعية شـديــــدة عام 1978م . ص35 .
* كان غـياب الـرؤيـة السياسية قـد ظهرت على قيادة الحزب الشيوعي من خـلال التخبّـطات التي ظهرت بعـد ضربة الحزب، وانفـضاض عـقد الجبهة عام 1978م . ويستـنتـج الكاتب أن القـادة الشيوعيين يعلمون بجرائم البعث التي مورست ضدّهـم عام 1963م ، فسلطة البعث هي من قامت بالإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم، وبيـان رقم 13 للحاكم العسكري رشيـد مصلح، القاضي بإبـادة الشيوعيّين، وقـد استشهـد منهم خيرة قادتهم في أقبية التعذيب، فيما قـامت ” الجبهة الوطنية ” بمعزل عن آراء القـاعدة الحزبية، وخضعوا لإمـلاءات القيادة السوفيتية في إقـامة تلك الجبهـة، وهـذا ما كشـفـهُ الشيوعي البارز في ” القـيادة المـركـزية” إبـراهيم عـلاّوي في كـتابهِ الهـام ” المقـايضة – برلين بغـــــداد” الصادر عام 1991م . صـ 36 .
* ثم ينتقل الكاتب الى ” بـداية هجمـة البعثيين على منظمات الحزب الشيوعي العراقي، في عام 1978م ، حيث يكشف أن ” حـالة التملمُـل بـدأت تظهر داخل صفوف الحزب الشيوعي ، حينما أخذ المَـد الجماهيري الواسع بكافة القطاعات الشبابية والطلابية والنسوية، والتضيّيق عليهم من قبل البعثيين، حيث عمد حزب البعث الفاشي الى شَن هجماته الشرسة، ضد قواعد الحزب الشيوعي العراقي، الأمر الذي يكشف أن قـادة الحزب الشيوعي كان الخَـلَل في تفكيرهم قـد أفقـدهم الإدراك لمعنى ” جـدلية التحالفات الستراتيجية، ومضمونها التكتيكي” حتى أن قرارات الحزب الشيوعي كانت تـؤخذ بعيداً عـن آراء القـاعدة الحزبيـة، لا سيما المنظمات الطلابية والمهنية الأخرى . ص41- 42 . وقـد زاد الطينُ بلّـة مسألة الإشاعـات بين أوسـاط الحزب الشيوعي ، حين اتخذت سلطات البعث الحاكمة قراراتها التعسفية بحق ” كـل عسكري، إنتـمى الى غير حزب البعث ، يحكم بالإعـدام، وفق قرار مجلس قيادة الثورة رقم ( 111 ) في 7/ 6/ 1978م، حيث قُـدّر عـدد الشيوعيين الذين أُجبروا على ” التـوقيع ” على هـذا التعـهّـد ” نحو ربع مليون إنسان من الشعب العراقي، بين شيوعي ومساند للحزب الشيوعي، خـلال الأعـوام 1978 – 1980 . ص43 .
وفي معـمـعـة تلك الظروف الصعبة من حياة الشيوعيين العراقيين، بـدأت تتـوارد الأخبار بـأن الشيوعيين بـدأوا بتـأسيس ” قـواعـد للأنصار الشيوعيين” في شمال العراق، الأمر الذي فـتح المجال لإلتحاق الكثير من الشيوعيّين بتلك القـواعـد النضالية، لـتبـدأ مرحلة جـديدة من النضال السياسي . ص 44 .
* في ظلِّ تلك الضروف الصعبة للحياة السياسية في العراق، في ذلك الوقت من عام 1978 وما بعدها، يُشير الكاتب محمد السعدي إلى مسألةٍ مهـمّـة، ألا وهي : غـياب قيادة الحزب الشيوعي العراقي، من الساحة العراقية، ومـن بقي منهـم تـمَّ إلقاء القبض عليه، أمثال الشهيد ” صفاء الحافظ، وصباح الـدُرّة” حيث اعـتقلا وغُـيِّـبا في عام 1980، ولم يعرف خبرهما حتى اللّـحظة . / ص45 . الأمر الذي دفع بعض الرفاق في ” القـاعـدة” من تشكيل ” خـلايا سِـريّـة” للحزب، خـارج إطار التنظيم المركزي، حيث كان هـؤلاء الرفاق على استعـداد للإلتحاق برفاقهم في الجبل بتوصية من هـذه الخلايا السريّـة / ص46 – 47 / رغم أن سلطات البعث كانت تأخذ الناس على الشُـبُهـات، بغية زرع الخـوف في قلوب الناس، وقـد أعلن حزب البعث الحاكم في 1/ك2/ 1986م ساعة الصفر للقضاء على تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، حيث بدأت أجهزة الأمن العراقية بالهجوم على أوكار ومقرات الحزب الشيوعي في كافة أنحـاء العراق، وفق معلوماتٍ دقيقة قـد اعترف بها ” المنهارون” من أعضاء الحزب الشيوعي / ص48/ .
* إستطاع بعض الكـوادر الحزبية، بعـد فترة قياسية، من العمل التنظيمي بأن يصبحوا ” أعضاء ارتباط” من ضمنهم الكاتب محمد السعدي،، حيث اصبح عضو ارتباط بين كركوك وبغـداد، لتسهيل عمليات الإلتحاق بأنصار الحزب الشيوعي في المنطقة الجبلية .
* حـين ألقت الحرب العـراقية – الإيرانية أوزارهـا عام 1988م، بـدأت تلوحُ في الأُفق جولاتٌ مكوكية للوزير الشيوعي الوحيد الذي بقي في الحكومة ” مُـكرم الطـلباني” بغية غـلق صفحة البعث السابقة، وإعـادة الحِـوار بين الشيوعيّين والبعثيّـين، وكـأن ما قـد حـدث للشيوعيين ” شـربة مـاء” مرّت مـرور الكرام . / ص50- 52 .
* ثـمّـة نقطـةٍ هـامة يتوقّف عـندها الكاتب، ألا وهي : التسفير الى إيـران، كـإجراءٍ شوفيني نـازي، قامت بـهِ سلطة البعث الديكتاتورية، تحت ذريعة ” التـبعـيّـة الإيـرانية” فيوصّـف تـداعيات هذه الحالة وما حدث لصدام حسين، بعـد مسرحية ” قتل رفاقه البعثيّـين في قاعة الخلد” عام 1979م، حيث بعـدها، تـوجّـه نظامه الفاشي في صيف عام 1980 ، وبـدأت قطعانه المسعورة باقتحام ” قـرية الهـويدر” الغافية على ضفاف نهر ديالى، وكلّـهم مُـدجّـجين بالسلاح، واقتحموا بيوت القرية، وحشروا الناس في عربات مكشوفة وإرسالهم الى مصيرٍ مجهـول، بعـد أن إنتزعوا منهم عِـنوةً منازلهم بقوة السلاح / ص63 .
وتوصيف للحـالة السلبية والموقف العاجز، جَـرّاء هـذا الأجراء العنصري، يتـأمّـل الكاتب، المشهـد الدرامي الذي حَـلَّ بقريته الصغيرة، ووقوف الشيوعيين وغيرهم موقف المتفرّج على هـؤلاء الناس المحشورين بالسيارات المكشوفة، وهُـم يلوِّحون لهم بالأيـدي، وتـمتـماتٍ مخنوقة بالدمعِ والعبرات، وهـم يرصدون هذا المشهـد بصمت، والناس جالسة على أعتاب المنازل وتخوت المقاهي وعواميد الدكاكين الموجودة في القرية . / ص63 . ويعلّق الكاتب على ذلك المشهد بالقول :لم ألمُـس موقفاً شُـجاعـاً أو إنسانيّـاً من أيِّ بعـثي في القرية، للتضامن مع أبناء جلدتهم” . رغم أن التهجير كان عـنوةً لكلِّ ذكرٍ دون سِـن 18 سنة مع أهـلهِ، في حملةٍ هستيريّـة بلا أيِّ رادع إنساني ولا شرفٍ وطني، حيث تم رمي هـؤلاء الناس على الحدود الإيرانية، وقـد وجد هـؤلاء المهجّـرين أنفسهم، بين ليلة وضُـحاهـا أمام مسؤولية كبيرة في البحث عن سُـبل العيش، ومُـعاناةٍ جديدة، ومسؤولياتٍ تفوق أعمارهم وقُـدراتهم على التكـيّـف مع حياةٍ جديدة بعيدة عن نشأتهم الأولى . / ص65 .
* وفي حـالةً واعـية لمراقبة ” الحـالة السياسية في العراق” في زمن صدام حسين، يـؤشّـر الكاتب الى ” قبضة النظام الفاشي البعثي وأجهزته القمعية، والتي كانت مفروضةً على مقدرات البلد، ومفروضة بقوة النار والحديد، وطاغية على أفكار الناس وتصرّفاتهم، فهـاجس الخوف هـو الغالب في منظومة العلاقات الإجتماعية وتـداعياتها، الأمر الذي يفرض تَـردُداً وخوفاً على ممارسات الناس للعمل السياسي المعارض، فيما كانت شعارات البعث الشوفينية كان يرددها قـرود الإعـلام والمطبلين لـه، فيما كانت لغـة الشارع العراقي مُـتهـكِمـةً على هذه الشعارات الجوفاء/ ص70 . رغم أن البعث فرض عسكرة الحياة كاملة، ومع ذلك كان الكاتب محمد السعدي، يلمس أثناء جلوسهِ بين الناس، وحـالة من الإستقراء الخفايا في الوضع السياسي وتـداعياته اليومية، كان يلمس أوجاع الناس وويلات الحروب المكبوتة في نفوس الناس، ناهيك عـن طوابير الجثامين القادمة من جبهـات الحروب، والملفوفة بالعلم العراقي، وسط استهجان عام من الناس، وكان هاجس العراقيين مُنـصبّـاً على ” ضابط شـريف” يذيع البيان الأول، للإعـلان عن سقوط النظام الديكتاتوري في العراق، فيما كانت القِـوى الكردية في شمال العراق، كانت تُـؤمّـل على ” الهـجوم الإيراني” لإسقاط النظام، فيما كان البعـثيّـون يتخوّفون ويتوجّـسون من انفجـار الوضع في الداخل، وهـذا واضح للمراقب السياسي. / ص72 .
* وضمن هذا المشهـد التحليلي السياسي للكاتب، لم يذكر موقف الحزب الشيوعي العراقي من هذه الأوضاع المتفاقمة في ظلِّ هـواجس البعثيّين وخوفهم من الإنفجار الداخلي، ولذلك يشير الكاتب/ ص73 بالقول: لم يكن العمل السياسي السرّي سهلاً في خضم هذه الأوضاع، وأمام تساؤلات الناس المُـلحّـة والمحرجة حول أوضاعنا، ومواقفنا وخُـططنا المستقبلية، لذلك كان من الصعوبة بمكان تحُـثِّ هـؤلاء الناس والحديث معهم حول العمل السياسي المعارض، ونتائجه الوخيمة بالنسبة لهـم، حيث يكون الموت المحتّـم إن حصل شئٌ خارج الحسابات / ص73 . وكان سؤال الناس لأعضاء الحزب الشيوعي العراقي : هـل لكم القـدرة والإمكانية على إسقاط البعث ؟ وهـذا السؤال كان يبرز دور العـامل الداخلي في نفوس الناس، والمتردّد دائماً، والمقتنع بشكلٍ أو بآخر، بعـد إمكانية الحزب الشيوعي على إحـداث أيّ شئ، بمعنى آخر، إن ثقة الناس بالحزب الشيوعي باتت منعدمة، لذلك يظهر هذا التردّد والخوف، ولذلك كان قلق الكاتب كبيراً، حتى نقل تصوراته وأسئلة الناس الحيرى الى قـيادة الحزب الشيوعي في المنطقة الجبلية عام 1986م وجعـبتهِ ملئ بإستقراءات الوضع السياسي وأمزجة الناس، وتقلباتهم وخوفهم، حتى أنه يشير الى أنه ” أصبح أكثر إيماناً بقدرة الشعب على التغييّـر، لكن فراغ الشارع العراقي من قـوّةٍ سياسية فعلية ، قادرة على استيعاب تطلعات الناس بخطاب وطني يُـدغـدغ مشاعرهم، كان يحول دون ذلك ” . ص73 . فالشارع يبحث عـن ” نموذج لقيادة يحتذى بِـهِا، في التغييّـر، لذلك كان وجود الكادر الحزبي المتمرّس في الشارع العراقي، وبشكلٍ يومي وفعّـال، هـو الضرورة التي يجب توفّـرها في النضال السياسي والميداني، بغية إعـادة ثـقتة الناس بالحزب، وكسرِ حاجز الخوف الطاغي على تفكير ونفسية المواطن العراقي البائس.
* ونتيجة هـذا الفراغ السياسي للحزب الشيوعي العراقي بين أوساط الناس، كان للإسـلامييّن الدور الواضح في ملئِ هذا الفراغ، وبمواجهةٍ عـلنية مع البعثيّين، الأمر الذي زاد من حظوظهم وتعلّق الجماهيرِ بهـم، حتى أن الكاتب محمد السعدي يشير صراحة بالقول: ” لم يبقَ لنا أيَّ تنظيم شيوعي داخل قرية الهـويدر، فالعديد من رفاقنا اعـتكف وعـزل نفسهِ، خـوفاً وتوجسـاً من تسارع الأحداث وتـداعياتها، لا سيما بعـد أن تصدّر صدام حسين المشهد السياسي، وأصبح رأس الدولة في تموز 1979م ./ ص74 .
* حـين تـواردت أخبار وجـود ” حركات الأنصار للحزب الشيوعي العراقي” في المنطقة الجبلية، إستشعر الناسُ خيراً، الأمر الذي يعكس رغبة الجماهير في مساندة العمل الثوري، حتى أصبح الإستعداد النفسي عند الناس الثوريين، بدرجة كافية، للإلتحاق الجماعي من بعض الشيوعيّين القُـدماء، ومسانديهم الى مواقع الثـوّار، بعـد أن ذاع صيت ” التجربة العسكرية للأنصار الشوعيين” ، وشاعت بين أوساط الشيوعيين أنفسهم ، وخصوصاً ” مقطوعي الصِـلة” بحزبهم، لا سيما في أوائل الثمانينات، حين بـدأت تنتشر أخبار الأنصار بكثافة، عـن حجم وقوة الثـوّار في المنطقة الجبلية . / ص79 .
ورغم تلك الإنـدفاعات الجماهيرية، وتوجّـه البعض منهم الى المنطقة الجبلية، إلاّ أن سلطات البعث كانت ترصد تحركـاتهم، وقامت بنصب الفِـخـاخ، وأوقعت أول دفعة من هـؤلاء المناصرين بيـد الأمن العام، حين انطلقت سيارة النقل العمومي، التي كانت تقُـلّـهم من قضاء الخالص في ديالى باتجاه مدينة كركوك، حيث تبعتهم سيارتين للأمن الخاص وأوقفتهـم، بعـد عِـدّة كيلو مترات، وصعـد رجال الأمن الى داخل السيارة، ونـادوهم بالأسماء، وجرى إنـزالهم على مرآى ومسمع من الركاب، وتـم اعتقالهم جميعـاً / ص80 .
هـذا الأمر يوضّـح مدى الإختراق الأمني للتنظيم، وعـدم اليقظة والحذر، في أوّل تجربة تنظيمية سِـريّـة، قُـبرت في مهـدهـا .
* بشير الكاتب محمد السعدي، إلى أن هـذه الإختراقات الأمنية للتنظيم، كان مصدرها الأرأس” وُكــلاء الأمـن” الذين كانوا بأعـــدادٍ كبيرة من الشيوعيين الذين وقّـعـــوا على ” تعـهـدات المادة 200 ” من قانون العقوبات البغـدادي، حيث أن هـؤلاء ” الوكلاء” كانوا يبلّـغون سِـرّاً أجهزة الأمـن عـن أيِّ نشاطٍ حزبي، محاولة منهم- كما يقول الكاتب- للنخلّص من عُـقـدة الإتهـام والشُـبهةِ والمُـلاحقة المرهقـة، وقـد وقعت بالفعل حالات كثيرة مُـماثِـلة، قِـسمٌ منها أدّى الى استشهـاد نخـبة من الرفاق الشيوعيين / ص83 .
* مُـنظمـة الـصدى وتـداعيـاتهـا :
سَـلّط الكاتب محمد السعدي الضوءَ على ” هـذه المنظمة الحزبية ” والتي قام بتـأسيهـا النصير الشيوعي ” آشتي الشيخ عطـا الطـالباني” مع محمد دانـا جلال المغنّـي والشهيد صارم حسن الزهـاوي” الذي اعتقل عام 1981، حيث تـمَّ تأسيس هـذه المنظمة الحزبيّـة السِـريّـة في عأم 1978 – 1979م في بغـداد، بين الأوساط الطلابيّـة في بغـداد، في الجامعـة المستنصرية والجامعة التكنلوجية، وكذلك في كركوك وقضاء كُـفري والسبيمانية، وأربيل والبصرة، وبعض المناطق الأخرى، وكان تشكيل هـذه المنظمة من ” خـارج نطاق الحزب وبـدون معرفتـهِ” حتّـى تـم الإتصال بالحزب الشيوعي عام 1980م ، عـن طريق مـام صالح . / ص86 . وكان من بين أعضاء هـذه المنظمة ، الشهيد صارم، من جامعة البصرة، حيث كان هـذا الطالب، قـد هـرب من البصرة والتقى في بغـداد بالأعـضاء المؤسِّـسين للصـدى، ثُـم كلّـفته هذه المنظمة الى الإنتقال الى العمل في الفرات الأوسط والجنوب، وذلك لـتوسيع القـاعـدة الحزبية، إلاّ أنـهُ اعـتقـل في عام 1981م، ورغـم قساوة التعـذيب معـه، لم يعترف بأيِّ شئ، فـأعـدم بعـدهـا، وقـد كان هـذا الفـتى قـائداً ميدانيّـاً صارمـاً ومـبدئيّـاً، وشجاعاً بمعنى الكلمة . / ص86 .
* كـان بـداية نشاط هـذه المنظمة عام 1979م، عنـدما قامت بكتابة واستنساخ ” أوّل بيـان بإسم الحزب الشيوعي العراقي” دون عِـلم قـيادة الحزب، نظراً لعـدم وجـود صلـة اتصال بالحزب، حيث قام أعضاء هـذه المنظمة باستنساخ، بـخط الـيـد ” 500 نسخة” وتـمَّ توزيعـها في بغـداد، داخل الجامعة المستنصرية، والجامعة التكنلوجية، وبعض من إعـداديّـات مدينة الـثورة وشارع فلسطين، وفي أكثر من 12 بـاص للنقل العام. ويقول الكاتب محمد السعدي: بـأنـه عرض مضمون هـذه البيانات على السيد ” د. مكـرّم الطـالباني” واستحسن مضمونها، ومن ثُـمَّ تـم استنساخ 60 نسخة وتم توزيعها في كركوك، و 250 نسخة في البصرة، و50 نسخة في الحِـلّـة ./ ص87 .
* مـا يُـلفِـت النظر، وفـق استعراض ما قَـدّمـه الكاتب لنشاط هـذه المنظمة، أن الـكادر السياسي والتنظيمي الطـلاّبي، كـان أكثر وعـياً من قـيادات الحزب في اللجنة المركزية، والتي تركت الساحة العراقية وتوجّـهت الى الخـارج، بـدليل أن هـؤلاء الثـلاث، الذين أسّـسوا هـذه المنظمة ( الصدى) استطاعوا أن يعيدوا الى الناس صَـدى الحزب الشيوعي العراقي، وثـوريّـة أعضاءه، حتى وإن كـانوا خـارج سياق الحزب، ولكن تجربتهم التنظيمية، وشعورهم الوطني دفعهم الى ذلك النشاط، وهـو المر الذي نستنـتِجُ مـنه ، أن القـيادات الشبّـة تستطيع أن تخـلق تنظيماً لوحـدها باقـتدارٍ ملحوظ، وهـذا الأمر يُـعيد الى الأذهـان ” المنظمات الطتلابية في العراق ” الإتحـاد العـام لطلبة الجمهـورية العراقية” والذي رفضت أغلبية قـياداته – وأنـا واحـدٌ منهـم- قـرارات الحزب في تجميد هـذه المنظمات المهـنية، ونـلاحظ هُـنا أن ” منظمة الصدى” قام بتـأسيسهـا طلبة كُـليّـات، واستطاعوا أن يثبـتوا جدارتهم السياسية في العمل داخل أرض العراق، وبزمن البطش البعثي، وهـذا الأمر يعيد الى الأذهـان بأنّ القـيادات الشابة هي أصلح للقيادة والمجابهـة، واتخـاذ القـرار في لحظتهِ التاريخية، حـتى أن المؤلف يشير إلى هـذه المنظـمة بـدأت تـأخــذ الــقرارات لإيــــجــاد ” هـيكلية تنظيمية” للإشراف على تنظيمات الحزب في الجنوب وفي الفرات الأوسط، والإشراف على تـنظيم المنطقة الشمالية، حتى أنّـهم / خلال ثلاثة أشهـر/ إستطاعـوا أن يوسِّـعـوا التنظيم، وأوجـدوا ركـائز لته، ووزّعـوا التنظيم على أساس عـملي وفـقَ المحـدّدات التالية:
آ -العـناصر المعـتمدة جـداً . وعـددهـم يتراوح بين 25 – 30 عضو .
ب- العـناصر غـير الفـعّـالة. ويكونوا ” محطّـات عـند الحاجة” .
ج- شكّـلوا ” جهـازاً إعــلاميّـاً” يقوم بكتابة ” الشعارات على الجـدران” وغيرها من الأماكن .
د- القيام بحملة ” جمع التبرعـات المـالية” . راجع تفصيلات ذلك على ص87- 89 .
* حـين تأسّست هـذه المنظمة ” منظمة الصدى” كانت تضُـمُّ عـدداً بسيطاً من الرفاق، موزعين على أغلب مناطق العراق، وكان المركز الرئيسي لهـذه المنظمة هـو ” مـدينة كركوك” وكانت فعالياتها السياسية والتنظيمية بين أوساط طلبة الكليّـات والثانويّـات، وقـ امتدَّ التنظيم وتوسّـع، وشمل قطاعات واسعة من الشعب العراقي، نتيجة الفراغ السياسي لأي حزب، ثـم أن أعضاء هـذه المنظمة، مَـدَّ أواصر صلاتهِ الى تنظيماتٍ كانت تفتقـر الى التواصل بينهـا، عِـبر خيوطٍ حزبيـة، وبلقاءات فردية، كما استطاعت هذه المنظمة من أن تَـمُـدَّ ” خيطاً تنظيمياً ” الى كثير من القيادات الحزبية المقطوعـة، وتـم التواصل معها، لا سيما الكوادر الطلابية، وقـد أخـذ صداهـا يصل الى أبعـد نقطة في مُـدن العراق، حيث كانت العـزائم والمعنويات مرتفعة جـداً، رغم شراسة البعثيّـن وعيونهم الأمنية، وقـد بـدأت “منظمة الصدى” بتوزيع جـريدة ” طريق الشعب” وأدبيات الحزب الشيوعي، ونشاطات الأنصار في المناطق الجبلية، ونشر تقـارير اللجنة المركزية. / ص90 .
* ومنظمة حزبية مثل ” الصدى” لو كان الحزب الشيوعي بلجنته المركزية اصدر بيـاناً تضامنيّـاً، وموجّـهـاً للـداخل العراقي، يحضُّ فيه قوى الشعب العراقي للإلتحاق بها، لكانت وصلت إلى مديات أبعـد وأعمق وأكثر تـأثيراً، لكن قيادة الحزب الشائخة، كانت تنظر بعـين الريبة الى عمل هذه المنظمة، وتخشى على مواقعها القيادية من الضياع، لذلك لم تُـصدر مثل هذا البيان.
* * *
* شكّـلت مسألة رفـد ” حركات الأنصار” في شمال العراق، هـاجسـاً عـند أعضاء ” منظمة الصدى” فتوجّـه بعض أعضاءها الى مفاتحة الشيوعيّـين السابقين، والناس الآخرين الذين سـيقوا الى جبهات الحرب عِـنوةً، وتـم مفاتحة هـؤلاء الناس، بشكل فردي، وبعـد تـردّد وانتظار ، تـمَّ موافقة البعض، والتحقوا بقوات الأنصار. / ص99- 101 . إلاّ أن منظمات الحزب الشيوعي كانت مـُـتردِّدة بقبولهم في قوات الأنصار، ممّـا شكّـل صدمة عنيفة لهـؤلاء الملتحقين، ولذلك سلّـموا أنفسهم إلى قوات الحدود الإيرانية . / ص102 .
* يوضّـح الكاتب محمد السعدي هـذه الإشكالية على النحو التالي : ” عندما عرفت قيادة القاطع بالأمر، أرسلت لي برقية لإبـلاغي رسميّـاً وحزبيّـاً، بعـدم استقبالهم، والمنع البات في السماح لهم بالبقاء في المقر، ولـو لِـلحظات، وكان موقفاً غريباً، لا يمت بصلة لروح الرفقة، ومجرّد من أي موقف إنساني وأخـلاقي، لكني تعاملت معهم بأصلي، وإعتبارات إنسانية ونضالية، وحتى مناطقية، وبـلا تـردّد، قمت بما يمليه عليَّ ضميري الشيوعي ، ولم أمتثل لأوامر القيادة، واستقبلتهما بكل اهـتمام، حيث قضيا ليلة كاملة معنا، وودعتهما في الصباح، حيث انطلقوا صوب الأراضي الإيرانية، طـالبين اللّـجوء مرة أخرى، وبأسماء مغايرة وسيناريو جديد / ص103 * لم تكن مسألة الصعود إلى الجبل للإلتحاق بقوات الأنصار الشيوعية مُجرّد حُـلُمٍ ثوري، كان يصبُ إليه بعض الثـوريّين من الحزب الشيوعي، أو من جماهيرهِ، بـل هـو تجربة جـديدة وقاسية تتخلَّـلهـا نزعاتٌ نفسية ووعيٍ متـفاوت، وخِـسّـة في في بعض المواقف، لم يكن لأحّـد أن يتصوّرهـا، نـاهيك عـن بروز ” بعض التـكتلات” والإنحرافات الفكرية، وبروز العنصرية والشوفيتية المُـتعـدِّدة الوجوه والأشكال، حتى وصلت في بعض ظواهرها الى ” تصدعات وانشقاقات داخلية للحزب” ففي صيف عـام 1984م ،أُرسل د. كاظم حبيب للإشراف على قاطع السليمانية وكركوك، كمندوب عن قيادة الحزب، للنظر في التصدعات الداخلية التي أصابت هـيكلية عمل “قاطع السليمانية” عسكرياً وسياسيّـاً وتنظيميّـاً، على ضوءِ تـداعيات ” أحداث مجزرة بشت آشان” وما نتج عنها من تكتلات واستياء وتـذمّـر، وعصيان في بعض السرايا والأفـواج، واتّـفاقية ” قـرية ديوانه” بين المسؤول الأول في القاطع ” بهـاء الـدين نـوري” ومسؤول تنظيمات الإتحـاد الوطني الكردستاني ” مُـلا بختيار” والتي كانت تنص على ” عـدم الإقتتال بين الأخـوة، ووجوب اللّـجوء الى المفاوضات والسِـلم والهُـدنة، وقـد لاقت تلك ” الإتفـاقية” الرفض والإستهجان من القاعدة الحزبية في قاطع السليمانية وكركوك، وأدّت الى انسحابات من مواقع الثـوّار باتجاه إيران، لا سيما بعد أحداث بشت آشان، “وصدور بيان تساومي ” رفض حزبيّـاً، بعـد أسر الرفيق كريم أحمد وأحمد باني خيلاني، وقـد أُذيع البيان من ” إذاعة الإتحاد الوطني الكردستاني” وكان وقعهُ مُـدويّـاً بين الرفاق، خصوصاً بعـد “قـتل الأسرى من الرفاق العرب” إضافة الى الشُهـداء الذين اغـتيلوا غـدراً، وقـد شَـنَّ د. كاظم حبيب في أحاديثهِ ونـدواته، هُـجوماً شديداً ضد ” بهـاء الدين نـوري” ومتناولاً تطورات الوضع السياسي، والحرب العراقية – الإيرانية، ومحاولاً مغـازلة قاعـدة الحزب الرافضة والمعترضة والمحـتجبة، بسبب هـزيمة بشت آشان، وعـدم مُـساءلة القيادة، كما يقول المؤلف . / ص111 .
* يتوقّـف الكاتب محمد السعدي مع هـذه الأحداث الحاصلة في مواقع الأنصار الشيوعيّين بصورة دقيقة، بغية تحليلها ووضعها في مكانها الصحيح، لا سيما بعـد أن ترك الحزب الشيوعي العراقي مواقعه الداخلية والتجاءه إلى الخارج، ودفع بعض أنصاره الى المناطق الجبلية، حيث تعرّض الكثير من الرفاق إلى ” عـقوباتٍ قاسية” بل إلى العـزل والتهميش، بسـبب اعتراضهم على قـرار ” عسكرة الحزب” وإرسال الرفيقات والرفاق إلى كردستان، مع أن بعض الرفيقات كُـنَّ حـوامل، أو رفيق مريض، موهمين إيّـاهم بأنهـم سوف يطلقون آخر رصاصة على نعش النظام الآيـل للسقوط، ليصطدموا عند وصولهم الجبل بالواقع المـرير، فـتهـز قناعاتهم، ويصبح الأمر عبئاً عليهم، وتتـحمّـل القيادة – كما يؤكّـد الكاتب- مسؤولية ما تعرّض له المئات من الرفاق الذين اضطرّوا إلى ترك الحزب أو فصلوا منه، أو حتى بعضهم مِـمّن عادوا إلى الداخل، ولا قوا مالاقـوه، بينما القيادة في مكانها، تتـمتّـع بالإمتيازات، وتتصارع فيما بينها على المواقع، كمـا حصل في المؤتمـر الرابع للحزب . / ص113 .
* لعـبت كارثة بشت آشان عام 1983م دوراً سلبيّـاً جداً في مسار الحزب الشيوعي العراقي ، حيث تـرك الحـزب رفاقٌ بشكل جماعي، وتركوا مواقع النضال، حيث تـوجّـه قسمٌ منهم الى دول الجوار، فيما توجّـه آخرون الى دول أوربا وغيرها من البلدان،، وزادت وتيرة الصراع بين قيادات الحزب، كان أول ضحاياهـا ” بهاء الدين نـوري” حيث عُـزل عن مهامه ومسؤوليّـاته الحزبية والعسكرية، الأمر الذي حـدا بـهِ للتلويح بالإعـلان عـن ” نشر وثيقـة التقـيّـيم حول سياسة الحزب الشيوعي، في فترة ” الجبهة الوطنية” مع حزب البعث، واختلاف المواقف بـدأً من العام 1968 – 1979م ، لا سيما وأن قيادة الحزب الشيوعي كانت تُحـذّر من مغبّـة ذلك، نظراً لتـأثيراتها السلبية وتـداعياتها على سير التجربـة ومعنويات الرفاق، وكشف المخفي، حيث كان القـرار الحزبي للقيادة ” يطالب تأجيلها الى المؤتمر الرابع وطرحها للنقاش والتصويت ” / ص114 .الأمر الذي رفضه بهاء الدين نوري، وأعـلن عن تشكيل ” تكتـّل جديد حمل إسم ” القـاعـدة” وقد قام بإصدار ” نشرات داخلية” هـدفها فضح سياسة الحزب الداخلية فيما يخص التحالف مع البعث، وعشية التوقيع على ميثاق الجبهة الوطنية” وقـام يتوزيعها على ” القِـوى السياسية الكردية” في قاطع السليمانية وأربيل، ووصل بعضها الى ” النظام” عـن طريق عُـملائه ( مُـلا عـلي) مسؤول التنظيم العسكري وسـرية حلبجـة بقيادة توفيق الحاج وإخوانه وأبناء عشيرته وشخصيات أخرى) وأخذ هـذا الصراع مديات خطيرة في التشهير والتلويح بالتصادم العسكري، واستقدام ” قوة عسكرية” الى مناطق شهرزور، وبالتعاون مع قوات الإتحاد الوطني الكردستاني “جماعـة جلال الطلباني” المتحالفة مع قـوات حكومة البعث ، والتي كانت تجري مباحثاتها مع قيادة ” أوك” مـنذ عام ، أي قبل وقوع أحداث بشت آشان، الأمر الذي يفضح شكل التـآمر الكردي على الحزب الشيوعي العراقي . / راجع تفصيلات ذلك على ص115 وما بعدها .
* تكشف هذه التـداعيات المتلاحقة مـدى تخلخل الوعي السياسي بين القيادات الحزبية، حالما تتعرّض مواقعها الى الإهـتزاز، بحيث تصبح ” المبادئ الأخلاقية” مبادئ عشائرية، وتصبح هي المقياس في التعامل الكردي – العربي، وتصبح سِـني النضال السياسي مكشوفة للعيان، ويُـبان الخـرمُ فيها في أول تجربة تخص اختبار المبادئ الوطنية.
وقـد وصل الإنحـطاط الشوفيني، عـند القـيادات الكردية بالتواصل مع حكومة البعث بشكلٍ عـلني وواضح للعيان، وقـد امـتـدَّ هـذا الكره الشوفيني ليصل حَـد ” إعـدام كوكبة من الشيوعيين العرب” الذين وقعـوا أسرى بيـد قـوات الإتحاد الوطني الكردستاني، عقيب أحداث مجزرة بشت آشان، لاسيما بعـد ” البيان السياسي” الذي وقّـعـه الرفيق كريم أحمد وأحمد باني خـيلاني وقـادر رشيد” حيث ان هذا البيان سـاهـم في شق وحدة الحزب الفكرية والتنظيمية، حتى أن القاعدة الحزبية مازالت تستهجن باستغراب وغضب من هذا البيان أولاً، وتستهجن القاعدة الحزبية كذلك تنصيب أحمد باني خيلاني، كـمسؤول أول لقاطع السليمانية وكركوك، خلفاً لبهاء الدين نـوري، وهـو من وقّـع على ” البيان” الأمر الذي أدّى إلى التمرّد والعصيان الحزبي، والتلويح بالإنتقام، ممّـا أدّى الى تـدخل وسطاء لإلغـاء هـذا القـرار . / ص116 .
* يشير الكاتب محمد السعدي الى أن ” توجيهات حزبية، وتـحذيرات من الإقتراب ” نحو جماعة بهاء الدين نـوري” مصحوبة بجملة تشويهات طالتهم، حتى وصلت هذه التشويهات الى منحىً خطير، حيث إتّـهمت هذه المجموعة ” بالتعاون مع أجهزة سلطة البعث”. وكانت سيـاسة التشهير هذه بحق بهاء الدين نـوري وصلت حَـدّاً لا يقبله الضمير ولا التاريخ النضالي لهــذا الرجل. /ص117 .
* إن المتابع لتطور الأحداث في شمال العراق، وفق ما يعرضه الكاتب محمد السعدي، يشاهـد أو يتلمّـس بأن ” الساحة الكردستانية” مُخترقة من أكثر من جهـة، داخلية وخارجية، الأمر الذي يضع ( جهـاز أمـن الحزب) أمام عِـدّة أسئلة مصيرية وتنظيمية حول / الكيفية والآليـة/ التي تـم بهـا إختراق ساحات الحزب النضالية، وكيف وصل ” عملاء النظام الفاشي” الى هـذه ” الفجوات” واختراق التنظيم في أكثر من نقـطـة !؟.
يقول الكاتب: في يومٍ من الأيام وصلتنا بعض الأخبار والتي تُـفيد بأن ” مُـلاّ دانــا” وكيل أمـن رسمي، مرتبط برفاق داخل تنظيماتنا، وعلى مستوىً عـال من التنسيق، وبـدأنا بحملة مراقبة وتـدقيق وحـذر، حيث اكتشفنا / بوقتٍ متـأخّر/ أن عـدداً من الرفاق على اتصال بأجهزة البعث ، عِـبر مُـلاّ دانـا، وبعـد أن شعر هـذا المُـلاّ بالخطر، تمكّـن من الإفـلات من قبضتنا والهروب إلى ” مدينة حلبجـة” والإحتماء بأجهزة السلطة، وهُـناك من رجّـح في حينها، أن يكون ” بعض رفاقنا” مسؤولين عـن هـروبهِ، وإثـر هـروبهِ، تـم اعتقال مجموعة من الرفاق داخل التنظيم، فيما تمكّـن البعض الآخر من الهروب باتجـاه المُـدن التي هي تحت سيطرة الدولة!
ويؤكّـد الكاتب أيضا : كان أغلب المتهمين هُـم الرفاق الأكراد، وفي محاولة يائسة من البعض، زُجَّ بالنصير العربي ” أبـو أنـور” ولكن سرعـــان ما كُـشف عن دوافعــها الشوفيـنية”./ ص119 .
* مُفـجعٌ هـذا النص، وأكثر وجعاً مـنه هـو مشاهـدة الكاتب بـأُمِّ عينيه بأن ” الدكتور سـالار” وهـو خريج كلية الإقتصاد، من الأكاديمية البلغارية، ومِـمّن تخرّج من مدارسها الحزبية، يقود بعض السُـجناء باتجـاه القرية” قـرية أحمد آوه” ويُهـرّبهـم من معـتقلات الحزب، عِـلماً أن غُـرفة سجنهم تقع وسـط المقر، وبجانب المطبخ، فإذا أهمل الحرّاس المراقبة، فعيون الرفاق مفتوحةً” ص119 . فكيف تـمَّ تهريب هـؤلاء ؟ . والمُحزن المبكي في هـذا العرض للحقائق، عـندما يكشف الكاتب/ وكان وقتهـا/ ضمن قوات الأنصار، هذا الأمر، يكشف ذلك لأحد القيادات الحزبية ( د. محمد هـادي – أبو عـادل) وطرح تلك المعلومات في الإجتماع مع مسؤول قاطع السليمانية وكركوك باني خيـلاني، حـول تهريب أؤلئك السُـجناء ” العُـملاء” . وقد طلب المسؤول باني خيلاني، من الرفاق المجتمعين عـن ” مصدر هذه المعلومات” فأشار أبو عـادل إلى أن ” الرفيق لطيف – الكاتب محمد السعدي – هـو صاحب هـذه المعلومات، قال الكاتب : فغضبوا مني، وتـمَّ نقلي، بعـد أن عُـقـبت، ومقاطـعة حزبية واجتماعية، ونُـقلت على أثـــرهـا الى منطـــــقة ( هـزار روست) المقر العام للتنظيم المدني، حيث كان في هـذا المقر ( بعض الرفاق المغضوب عليهم من الحزب ) نتيجة مواقفهم المبدئية تجاه ما يجري من خروقات ، ومن هـؤلاء : الشهيد أبو سالار،من السماوة، وأبو أحمد وأبو سرمد/ من الديوانية- ناحية الدغّـارة، والشهيد بختيار عـرب من بغـداد – مدينة الشعب، والشهيد يوسف من الكوت، ورفاق آخرون، مـازالوا على قــيد الحـياة ” ص120 .
إن الـبوح ، في هـذا النص، يظهـر أن هُـناك ( طمطمـة حـزبيـة) لإحـكام وغـلق الحقيقة، ومحاربة الشرفاء من الرفاق داخل صفوف الحزب، ونحـنُ نتسائـل : عـن السبب في محاربة الرفاق ، أصحاب الفكر والرأي ، داخل منظمات الحزب في كردستان وفي غيرهـاّ؟ مَـن المسؤول عـن إخفـاء هـذه الحقائق؟ ولمصلحة مَـن يجري هـذا الفِـعِـل َ؟ .
* * *
عِـندما يتحـدّث الضمير : القسم 2 د. خيرالله سـعـيد
* * *
* حــالة الحِـزب الشيوعي العـراقي، عَـشيّـة انعـقـاد المـؤتـمر الرابع :
لقـد خلقت حـالة ” الإخـتراق الأمني للحزب” من قبل أجهزة الأمـن البعثية، أمراً خطيراً، جعلت الحزب أن يتـّخـذ إجراءاتٍ دقيقة وتكتيكية، بغية التـمويـه على ” عـقـد المؤتمر الرابع للحزب” فـقـد انعقد المـؤتمر في ” خـيـمـةٍ” نُصبت في منطقة آرموش السفلى، من ناحية لـولان عام 1985م. وقـد أصدر الحزب بيـانـاً تمويهـيّـاً، بُـثَّ من إذاعـة الشعب في المنطقة الجبلية، يُـعـلن فيه ” تـأجيل عـقـد المؤتـمر” خوفاً من مُـداهمات السلطة، أو استهـداف مكان المؤتمر ومـندوبيه، ومع ذلك تـمَّ استهـداف المكان بإطـلاقاتٍ وقـذائف من الربايا الحكومية، وسقطت حول المرتفعات القريبة من خيمة المؤتمر . / ص121 .
* كان من نتائج هـذا المـؤتمر ” كـارثـة حـزبية” على كافة الأصعـدة، فقـد ظهرت انقسامات واضحة في التوجّـه والتنظيم، فقـد أزاح عـزيز محمد – سكرتير الحزب وجماعتهِ ( 26 قياديّـاً) من اللّـجنة المركزية، وأبعـد عشرات الكوادر المتقدمة، واخـتار – من غير انتخاب – عشرة رفـاق للّـجنة المركزية سِـرّاً، عُـرفوا هـؤلاء، فيما بعـد بـ ” العشرة المبشرة بالجنة” راجع ص121 .
وقـد ظهـرت حالات من الإنـدساس والتعامل مع الأمـن العراقي، ظهـرت عِـند عـودة الرفاق من المؤتـمر الرابع، وقـد كان الرفيق ” محمد وردة – أبو جيفارا ” أول الضحايا، حيث قام عضو الإرتباط المدعو ” شـهـاب” بتسليمه بطريق العـودة إلى مُـديرية أمـن دهـوك، وبعـدها اتصل بالحزب ليُـطمإنـهم بأن ” الرفيق أبو جيفارا، وصل بأمان، وقـد انكشف هـذا الأمر بعـد مُـدّةٍ، وانكشفت كامل تفاصيله ./ ص122 .
* وعلى مـا يبدو، أن حالات الإختراق الأمني لصفوف الحزب، بـدأت واضحة من خلال بعض الوقائع والأحداث، فبعض الرفاق كـان يعمل ” بخـط مـائل ” فهـو في الليل مع فصائل الحزب وقوات الأنصار، وفي النهـار مع أجهـزة الأمـن التابعة لحكومة البعث. وقـد كلّـفت حالات الإختراق هـذه الحزب كثيراً، وفق ما ذكره الكاتب محمد السعدي . / ص122 .
* لم تـكن حالات البطولات الفـردية لصمود الرفيق أبو جيفارا حالة نادرة، فهو كغيره من البشر، له قدرته المحدّدة، رغم أنه مورس عليه أنواع التعذيب، فاقت قـدرته، فانهار واعترف بأنه ” من الكوادر القيادية” ، وأدّت اعترافاتهِ من توجيه ضربة قوية لقواعـد الحزب، سرعان ما انعكست آثارهـا السلبية على الشارع العراقي، وتغيّر مزاج الناس من جهة، ومن جهة أخرى انعكس على واقع التنظيم الحزبي الداخلي . / راجع تفاصيل ذلك في ص122- 123 .
وهُـنا يُـثار أكثر من سؤال : على من تقع مسؤولية هـذا الإختراق !؟ أوليس هـناك ” جهـاز الأمن الحزبي” وهـو مختص بالناحية الأمنية للحزب! أين دورهُ ؟
ومن ثُـمَّ السؤال الأهـم : لماذا تتـكرّر هـذه الإخـتراقات بوضوح في إقليم كردستان !؟ .
* ومن تـداعيات المـؤتمر الـرابع أيضاً، إنكشاف خطير لعضوٍ متقدم في الحزب إسمهُ ” أبو بهـاء – فـالح حسـن ” عضو محلية مدينة السماوة، مع زميلٍ آخر لـه يُـدعى ” عـدنان الطالقاني أبو هـيمـن” فقـد دُعـيا لحضور المؤتمر الرابع، إلاّ أنهـما حُـجِزا بعـيداً عن خيمة المؤتمر، ولم يحضرا وقائع المؤتمر الرابع. ويذكر الكاتب محمد السعدي، بـأن اللّـغط حولهما كان قـويّـاً حول ارتباطهما بأجهزة الأمن العراقية، وكانا يتظاهران باليسـارية، وينتـقـدان نتائج المؤتمر الرابع، وكانت الفرصة سـانحة لهـما للهروب، لكنهما لم يفعـلا ذلك ! / ص125 .
وبعـد انقضاء أعمال المؤتمر الرابع بـأيام، تـمّ احتجاز ” أبو بهاء، في حين سُـمِـحَ لأبي هـيمن بالذهـاب إلى بغـداد، ممّـا أثار تسـؤلات واعتراضات بين رفاق ” الفصيل المستقل” ، ورغم الشكوك القوية حـوله، كـونه المسؤول عـن تسليم واعـدام عـدد من رفاق الفرات الأوسط، ولكن الصراع بين قـادة الحزب على المواقع القيادية، والتنظيمات الإقليمية، كان السبب الرئيسي وراء تسريب أبو هيمن الى الداخل عـندما افتضح أمره، فـترك الحزب، وبواسطة الحكومة العراقية تـمَّ إرساله الى السـويد، ونشط هـناك في التعاون مع البعثيّين. / ص 125 .
* ثـمّـة اعتراضٍ تُـبديه السيدة والرفيقة السابقة ” نصيرة القيسي” زوجة أبو بهـاء، بأن زوجهـا – أبو بهاء، لم يكن من المتعاونين مع اجهزة السلطة، وإن هـذا التشويه والغبن الذي لحق بزوجها ” وتسميه الشهيد أبو بهاء ، لم يكن في يومٍ من الأيام ” خائن للحزب” وقـد دوّنت شهادتها هـذه في ” برنامج ” شهادات خاصة ” مع د. حميد عبدالله ، وقد بُـثّ البرنامج بتاريخ 7، أبريل، 2019 ، وعلى الرابط التالي ” https://www.youtube.com/watch?v=RXAwMceNU_Y&t=449s ”
* يـبدو أن مسألة اختراق صفوف الحزب الشيوعي العراقي، قـد أخذت بُـعـداً غير محدود، نتيجة الخيانات التي قام بهـا المنهـزمون، والذين أُسقطوا سياسيّـاً، وأصبحوا “عُـملاء لمخابرات النظام” وهـذا الشرخ أصاب الحزب بشكل عمودي، فقـد استطاعت مخابرات النظام البعثي أن تستدرج بعض قيادات الحزب من كردستان الى بغـداد، بواسطة عميل لهـم ” وهـو مرشّـح للّـجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، يُـدعى ” نجـم الجبوري- أبو طالب” حيث عمل هذا العميل على استدراج الرفاق القادمين من منطقة كردستان الى بغـداد، حيث أسكنهم في شُـقق تخضع جميعها لكاميرات المخابرات العراقية، وهُـم تحت النظر في كل حركة من حركاتهم، وقــــد فضح هـذا الأمر ” ضابط كـردي” كان يشتغل في مديرية الأمن العامة، ويقوم أيضاً بترجمة الوثائق الكردية، وقـد طلب هـذا الشخص – بواسطة الحلقة السـريّـة لمسعود البرزاني، بترتيب لقاء له في قاطع بهـدينان، مع محلية الحزي الشيوعي العراقي في نينوى، وطلب اللّـقاء بقادة الحزب، لأمـرٍ هـام، وبالفعل تـمَّ لقاءه بـ ” حميد مجيد موسى – أبو داود ” السكرتير الجديد للحزب الشيوعي العراقي وتـوماس تـوما، عضو اللجنة المركزية، وأخبرهم بما قام بهِ ” نجم الجبوري ” فـانصدموا من هـول المفاجأة، وأخبرهم بان ” كـل رفاقكم الموجودين في بغـداد مخترقين، وإن تحرّكاتهم تـتُـم بإشراف أمني كبير، حيث كان يوجـد ” ثمانية من أعضاء اللّـجنة المركزية، بضمنهم عضو المكتب السياسي عُـمر الشيخ عـلي، . راجع تفاصيل أكثر في ص 130 .
وعلى ضوءِ ذلك اتخذت قيادة الحزب إجـراءً، إستدرجوا فيه ” أبو طالب – نجم الجبوري” ودعوه للقدوم الى كردستان، وأن يصطحب معه بقية الرفاق بحجّـة ” إجتماع طـارئ في شقلاوة” ، وقـد انطلت هـذه الحيلة على أجهزة المخابرات العراقية، واعتقدوا أنهـم سوف يمسكون بكامل أعضاء قيادة الحزب، وحين وصلوا إلى المنطقة الجبلية مع نجم الجبوري، والذي تـمَّ اعتقاله فـوراً، ومواجهـتهِ بالأدلة والإعترافات، عـندها إعترف بكل شئ، ومن ثم جرى إعـــدامـه. / ص 131 .
*إن مثل هـذه الإختراقات الأمنية، تضع قيادة الحزب أمام مسؤولية التساؤل والمحاكمة، في مؤتمرٍ خاص، يقصيهم عن المسؤولية التنظيمية والسياسية، على أقل تقـدير .
* * *
* أخطاء الحـزب الشيوعي وانعكاساتهـا على تجربـة الكفـاح المسـلّـح :
# يتوقّـف الكاتب محمد السعدي، بنظرةٍ تـأمُليّـة، على تجـربـة ” الكفاح المسلّـح ” والتي اتّـخـذها الحزب في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عـازيـاً مُجمل الإخـفـاقات السياسية والتنظيمية، التي مـرَّ بهـا الحزب إلى ” عـدم استثـمار التصدعـات والأزمات التي كان يعاني منها النظام العراقي، لاسيما بعـد انكسارهِ في ” معركـة المُـحمّـرة” عـام 1982م، وما أعقبها مـن تـذمُّـر واستياء شعبي في الشارع العراقي” ويعـلّق الكاتب محمد السعدي على ذلك بالقول : ” كُـنّـا نعاني من ضعف الإرتباط، سياسيّـاً وفكرياً وإعـلامياً ونفسياً، كما إنـنّـا لم نستطع التـمـدّد داخل المُـدن، لتعبئة الجماهير للقيام بانتفـاضة شعبية، أو عصيان مـدني، أو إنقـلابٍ عسكري يقـوده ضابط شريف ، كما كانت تـراودنا بذلك أمـانـيـنا بشكلٍ دائم ” / ص132 .
* إن التعليقت التي أبـداهـا الكاتب، بالأسطر السابقة ، تشير بوضح الى ” ضعف القيادة السياسية والتنظيمة، وعـدم آهـلية تلك القـيادة في قيادة المرحلة السياسية والتنظيمية التي مـرَّ بها الحزب، والدليل على ذلك ، بكل بساطة، هـو استثمار ” القـوى الدينة الإسلامية ” تلك الأوضاع وقامت بمهاجمة النظام في أكثر من بقعـةٍ ومكان، وسيطرة على نبض الشارع ، بشكلٍ أو بـآخر .
وبالعـودة إلى الكاتب محمد السعدي، وما دوّنه أعـلاه، فهـو ينطلق من أحاسيس الشارع العراقي وأمنـياتهِ، ومـا يحسُّ بـهِ كشيوعي مرتبط بتنظيم يساري، يرفع شعـار” إسـقـاط السـلـطة” ، ولكنه كـان يـدرُك أو لا يدرك، أن غـياب ( الوحـدة الفكرية والتنظيمية والجماهيرية) في داخل صفوف الحزب الشيوعي، لـم تـكن قـائمة أو متوفّـرة ، لا سيما بعـد أحـداث مجزرة بشت آشان 1983 ونتـائج مخرجات المؤتمر الـرابع للحزب عام 1985م والتي قضت على آخر أمـلٍ ثـوري داخل صفوف هـذا الحزب، بغية تنفـيذ شعاره المركزي ” إسـقـاط السـلطة”، وفي ظلال هذه الرؤى النرجسية الثورية الحالمة، كان الكاتب يؤشّـر إلى وجود ” بعض الظروف المساعدة لإيجاد مكـان تعبئة الجماهير، المنقـطعة عن التنظيم، أو المسانـدة للحزب، حيث كانت المنطقة الجبلية في شمال العراق تُـشكِّلُ مساندة للحزب، بوصفها ” محطّـة حزبية ” أو ” خط رجعة” للرفاق الذين ضاعـوا في أزقّـة ودرابين بغــداد وفنادقها الرخيصة، وليس لهم من معينٍ سوى ” إيمانهـم الشيوعي بعـدالة قضيتهـم” كما يقول الكاتب . / ص132 .
* شكّـلت مسـألة التـواجد مع الـثوار – الأنصار، في المنطقة الجبلية، فُـسحةً للملـتحقين من داخل المُـدن، والتي هـربوا منها نتيجة شِـدّة القبضة الأمنية للنظام، كما أن ” المحطات الجبلية للأنصار الشيوعيين” شكّـلت نقطة انـدفاع للداخل العراقي.
ويشير الكاتب ، بشكلٍ واضح الى وجود ” دائرة صراع فكري ” ، فيها مختلف الرؤى ووجهـات النظر، كانت سـائدة داخل صفوف الحزب، مُـضافـاً إليها ” نـزعـة في التنـكيل لكل المعارضين، وصلت ذروتها في الإعتقالات والقتل، ومنها إستشهـاد الشيوعي ” مشتاق عـبد الجبار – منتصر” تحت التعذيب بيـد رفاقهِ الشيوعيين، وإخـفاء جُـثّـتـه، رغـم مطالبة عـائلـتهِ بالكشف عـن مصيره، والإعـلان عـن مسؤولية قـتله، ومحاسبة مرتكبي جريمة قتل رفيق شيوعي” / ص133 .
* لقـد أشعلت مسالة إستشهـاد الرفيق ” منتصر” الكثير من الجـدل والنقاش، بين أوساط الحركة الشيوعية في العراق، وما زالت تثير الكثير من الأسئلة واللغـط السياسي والتنظيمي ، وكنتُ وادّاً أن يقوم الكاتب بتعرية الفـاعلين بالإسم والصفة الحزبية وبالوسيلة المستخدمة في قـتلِ هـذا الرفيق المقدام،، ومن أشرف وآمر بـإعـدامـه، ولماذا لم تجري محاكمة الفاعلين حتى هـذه اللّحظـة !؟ . بالرغم من أن الكاتب محمد السعدي، مـرَّ على هـذه الواقعـة وبذكرها، مشيراً إليها بالإدانة والإستنكار بقوله : ” كانت هـذه الأفعـال مخالفة لأخلاقنا ومشروعـنا السياسي في بناء مجتمع مُـتعـدد الآراء والإجتهـادات، ومـا حـدثَ في منطقة ” بـرزان” عام 1984م بقيَ مثيراً للجـدل، ولم يجرؤ أحـدٌ على كشف ملابسات الإعـتقال بحق الشيوعيين ” ستار غـانم – سامي حركات، وأحمد الناصري – أمين ” وغيرهم ، ومقتل “مشتاق عبد الجبار – منتصر” بحيث تـركت عِـدّة تساؤلات مُـبهـمة، حول تلك الأعمال المُـستنكرة، والتي مازال العـديد من القياديين السابقين، والمسؤولين عـنها يغضـّون النظر عنها، أو يكـذّبونها، أو يهملون الإجابة عنها، حين يسألهم الرفاق، ولمذا لم يجرِ التوقّـف عـندها الى الآن !؟ ومن يتحمّـل مسؤولية تلك الأحداث!؟
أسئلة مازالت مُـعلّـلقة ويسودهـا الإلتباس والغموض إلى الآن، والكثير لا يملك الجرأة لكي يسمّي الأشياء بمُـسميـاتها.
وقد شكّـلت مسألة ” إغتيال وإعـدام” النصير الشيوعي ” منتصر” وقضية زُمـلائه المتمردين ” سامي حركات وجماعته” قـلقـاً بـدأ يـؤرّق الكثير من رفاق الحزب الشرفاء، وراحت هـذا القضايا تُـشغل بال صاحبنا ” محمد السعدي” وهـو يرصد هـذه الظاهرة ويقـرأهـا بعيون وأفـئدة الآخرين، ويحاول أن يصل الى نتيجة تُـقـنِـعُـهُ بأن ماجرى غير متوقّـع من قيادة الحزب الشيوعي العراقي، والتي تمادت بهـذه القضية تحـديداً، ممّـا حـدا بسكرتير الحزب عـزيز محمد لأن ” ينزل إشرافاً على قاطع أربيل، ويعطي الضوء الأخضر بالتحرّك ضد ” هـذه المجموعـة المعروفة بإسم ” جماعة سامي حركات – أو ستّار غـانم، وأحمد الناصري – أمين، ومنتصر – مشتاق ، ومهـنّـد” باعتبارهـم ” إنقـلابيّين وخـونـة ومخطّـطين لإغـتيال أعضاء قـياديين في الحزب” / ص134 . وهـكذا تـمَّ اعتقالهم من قبل رفاقهم في منطقة ” برزان” بزنزاناتٍ فـردية، عبارة عـن ” مـرافق صحيّـة قديمة” وقد شُـكّـلت لجنة تحقيقية برئاسة ” مُـهـنّـد البراك”، وهـو طبيب الشهيد ” مشتاق – منتصر” ويعرف أمراضهِ،ويُـقـال أنّـهم ” ضربوه على كُـليتيه، اللّـتين كان يعني منهما، مِـمّـا أدّى إلى إستشهـادهِ، ودُفِـن في ” حُـفـرةٍ” بقيت سـريّـة إلى يومنا هـذا ” / ص134 .
وقـد تجرّأ الكاتب محمد السعدي، وللمرّة الأولى من ذكر ” الأشخاص الذين كانوا يساعـدون مـهـنّـد البراك في التعـذيب، وهـم كل من : أزهـر المظفّـر – من مدينة النجف ، وهو معروف بإسمٍ حركي هـو ” حميد صريم” يعيش في السـويد حـالياً، ومـام كاويش، والذي تبيّـن فيما بعـد بأنـه ” عميل للمخابرات العراقية” ، واشترك معهم في التعـذيب، مسؤول قاطع أربيـل ” يوسف حـنّـا – أبو حكمت” عضو اللجنة المركزية، ولحُـسنِ الأقـدار التي كشفت – بعـد سقوط النظام – أن ” أبو حكمت هـذا، كان عميلاً للسلطة، وفق ماذكره الكاتب محمد السعدي. / ص134 .
* إن هـذه الأحداث التي يقشعـر لهـا بـدن كل شريف في الأرض، ناهيك عـن الرفاق الشرفاء في الحزب يتساءلون: أيِّ خيانـةٍ للضمير ارتكبها سكرتير الحزب عـزيز محمد وأعضاء اللجنة المركزية يوسف حـنّـا ومـهـنّـد البرّاك ، بحق الشهـيد ” منتصر” وبحق الآخرين ” جماعة سامي حركات:!؟ أحقّـاً يكون الشيوعييين أكثر فاشية من أعـدائهم البعثيّـين !؟ لماذا لم يكتفوا بطرد هـؤلاء من الحزب! مَـن أعطاهـم حـق تصفية الرفاق بهذه الوسائل الدنيئة!؟ أهـذا هـو حزب فهـد الثـوري !؟
ولقد ذكر الكاتب محمد السعدي: أنـه بعـد شهـور من اعتقال سامي حركات وجماعته، تمكّـن أحد الكوادر الحزبية ويدعى ” قاسم سلمان داود” والمعروف بإسم ” أبو الجاسم” وهـو من أهـل الرمادي، يسكن حالياً مدينة مالمو السويدية، أن يحصل على ” قميص الشهـيد منتصر، مضرّجـاً بالدماء” مع أدوات التعذيب، وفي إجتماعٍ حـزبي، رماهـا أمام السكرتير عـزيز محمد قائلاً لـه : هـذا هـو حزبنا الثوري!؟ مِـمّـا دعـا عزيز محمد إلى إطـلاق سراحهم، ورميهم على الحدود الإيرانية في حزيران عام 1984 / راجع ص 135 .
وقد استطاع الكاتب محمد السعدي من أن يلتقي بالرفيق ” سامي حركات ” داخل الأراضي الإيرانية، وحكى لـه عـن كل شئ بالتفصيل، يقول الكاتب ” وجدتهُ مناضلاً، يحملُ مشروعاً سياسيّـاً متقدّماً عـنّـا، ولخمسين سنة قادمة، وبعـد حـوارٍ لم يخلُ من الأوجـاع، ودّعـنا بعضنا، وفي طريق العـودة إلى المقر، سـألت الرفيق ” علي الجبوري” والذي كان يرافقني في تلك الرحلة: من أين لـنا تلك القسوة في قتلِ رفيقٍ وهـو حي ، بِـشتّـى التُـهَـم والأقـاويل ونحنُ حزب معارض ومناضل!؟ ، أجابني قائلاً : سامي ورفـاقه، ما تعرّضوا لـه لا يُـذكر قياساً بما تعرّض له رفاق آخرون من التشهير والتهميش والطعن والغُـبن في تاريخنا الطويل ” / ص136 .
* وفي نهـاية المطاف، عـاد سامي حركات إلى العراق، واستطاع أن يُعـيد تشكيل بعض الخلايا الحزبية السريّـة، ولكن أُلقي القبض عـليه بوشاية من الساقطين سياسياً، وأُعـدم بيد البعثيّين عـام 1994م . / ص138 .
* في تجـواله بين مـواقع تواجد قوى المعارضة العراقية بين كردستان العراق والمناطق الإيرانية، ينقلنا الكاتب محمد السعدي إلى الداخل الإيراني، حيث تتواجد بعض قوى المعارضة العراقية في ” هـوتيل حـافظ” في مدينة “رضائية الإيرانية” وقد وصلها بأوراق تحمل بصمة ” الحزب الديمقراطي الكردستاني ” وصادف وصوله إنتهاء أعمال المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي، بفصلٍ نصف أعضاء اللجنة المركزية أو أكثر، فقد أصبحوا 15 عضواً في اللجنة المركزية، بعـد أن اختار عزيز محمد ، سكرتير الحزب، عشرة أعضاء، سُـمّيوا فيما بعـد بـ ” العشرة المبشرة بالجنة” بشكلٍ فاضح، يشير إلى الخرق التنظيمي الذي قام به سكرتير الحزب، وهـو الأمر الذي ظلَّ محيّـراً لكل من شهـد او سمع بوقائع المؤتمر الرابع. وعلى أثر نتائج هذا المؤتمر، ظهرت حـالات من التمرّد الحزبي ” غير المُـعـلن” حيث كان الكثير من الرفاق يرفضون التوجّـه للعمل في الـداخل العراقي . / ص144 .
* إن الجولات المكوكية التي كان يتحرّك بها الكاتب محمد السعدي، بوصفه رفيقاً مـلتزماً بتوجيهات الحزب، فهـو كان يُـنفِّـذ كل أمرٍ يطلبُ منه، إن كان ذلك في مناطق كردستان الجبلية، أو في داخل إيران، أو النزول إلى بغـداد أو كركوك، وهـذه التنقلات جعلته يتلمّـس آراء الناس وأفكارهم عـن قُـرب، وبـدأ يعرفُ هـواجس الأحزاب الكردية التي يتعامل معها الحزب الشيوعي بصدقيّـةٍ، بينما كانت هي تتعامل معه بِـتـدليس وخيانةٍ مُـبطنة، لا سيما ما ظهر منها وانكشف في أحداث بشت آشان عام 1983م، أو تـترك هذه الأحزاب الكردية رفاقنا في بعض الأماكن وتنسحب عنهـم دون إشعارٍ مُـسبق، فـلقـد ذكر الكاتب أنه ” في ليلة هـادئة ومقمرة، كُـنّـا في كمين متقدّم، أنا وأبو زاهر والشهيد عمّـار والشهيد قاسم، وقـد تخلّى عنا مقاتلو الحزب الديمقراطي ” البيشمركَـة” عن راقمهم، مما أثار التساؤل والحيرة بيـنـنا، ونحنُ في ذلك الوضع العصيب، وبدون التنسيق مع مسؤولي فوجنا، وقد كان موقعنا الواقع بين مدينة حلبـﭼـة والسليمانية مُـجرّداً من أي تحصينات، بعكس ربيّـة البيشمركَـة، التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني ، حيث أنها موقع عسكري مُحصّـن بالسواتر الترابية والصخور والحواجز، ورغم مرور كل هذه السنوات، لم تُـكشف الأسباب الحقيقية التي كانت وراء دوافعهم للتخلّي عن واجبهم في تلك اللّـيلة، والتي حـدث فيها التقدّم للقوات العراقية، ولم يصدر اي بيان، ولا حتى قصقوصة من ورق لأيّ اجتماع دوري، يُـحلّل ويفنّـد هذا الشأن ./ ص147 – 148 .
ويضيف الكاتب : حين قرّرنا الإنسحاب والمناورة والتخلّص من كمين القوات العراقية المُـهـاجمة، ونجونا باعجوبة، وعـند أول اجتماع للهيئات الحزبية، تمّـت معاقبتنا ! وبهذا الإنسحاب كُـنّـا قـد أنقـذنا ” 70 رفيقاً” كانوا يغطّـون في نومٍ عميق، في وادٍ محصور بين جبلين، وذلك بعـدم إطلاقنا الرصاص باتجـاه العـدو” . / ص140 .
* لقـد زرعت أحـداث بشت آشان 1983 غِـصّة بنفوس الشيوعيّين العراقيين بشكلٍ عام، والأنصار الشيوعيين بشكلٍ خاص، لا سيما أولئك الذين شهدو المعركة، وشافوا الغـدر ولمسوا الخيانة من قبل الأكـراد في الإتحاد الوطني الكردستاني ، مما شكل عـند هـؤلاء الشيوعيين توجّساً دائماً من هـذه الأحزاب الكردية العاملة في كردستان، ورغم صدور” بيان ديوانه ” بعدم الإقتتال بين الطرفين ( الأكراد والشيوعيين) عـاد الأكراد الى الغـدر بعـد سنين، وراحوا ينصبون الأفخاخ والمكائد للنيل من الأنصار الشيوعيين، وبالتعاون مع كل الأطراف المعادية، ومـا حـدث مع مفرزة الشهيد ” مـلازم سعد – أبو يسار” ورفاقه في منطقة ” ﮔـرميان” خيرُ دليل على الغـدر وسوء النيّـة، وعقدة الشوفينية، كما يقول الكاتب، حيث تم الغـدر بكوكبة من الأنصار الشيوعيين العرب، في إحـدى المفارز المشتركة والحراسات اللّـيلية، والتي كانت قائمة في ظِـلِّ وضعٍ ملتبس، وكان الشهيد أبو يسار مع مفرزة صغيرة مشتركة من مقاتلي الإتحاد الوطني الكردستاني ” أوك” في مناطق ” ﮔـرميان” عام 1988، وقـد تـمَّ تسليمهم إلى أجهزة السلطة في المنطقة، مع تسليم أنفسهم لهم، حيث اتّـضح لاحقاً بأن هـناك تنسيقاً بين أجهزة السلطة العراقية ومفرزة الإتحاد الوطني الكردستاني، وأن المسؤول عـن تنفيذ هـذه الجريمة لا يزال حيّـاً طليقاً، ومقيمـاً في هـولندا، ويتقاضى راتباً تقاعدياً من وزارة البيشمركَة في أربيـل. / ص153 . ومن المؤسف أن الكاتب محمد السعدي لم يذكر إسم هذا الشخص الذي قام بهـذا الفعل الدنئ، هـذا أولاً، وثانياً، كان حريّـاً بالحزب الشيوعي العراقي أن يصدر بياناً سياسيّـاً يدينُ بِـه هذه الجريمة النكراء، ويعلن موقفاً واضحاً من تحالفهِ مع الإتحاد الوطني الكردستاني، ويطالب بتقديم هـذا الجاني وجماعته إلى العـدالة، لا سيما بعد سقوط نظام البعث عام 2003، وتقديم اعـتذار رسمي من ” أوك” لهذا الفعل الجبان الغـادر، لكن ذلك لم يحدث، ومرّت الجريمة بدون عقاب، كما هي جريمة بشت آشان .
* في تنفيذهِ للمهـام الحزبية، كان الكاتب محمد السعدي، لا يُـبدي أيّ ممانعـة من تنفيذ أي مهمّـةٍ حزبية يُـكلّف بها، لا سيما تلك المهام الصعبة التي يتوجّـه لتنفيذها في بـغـداد العاصمة، في ظل القبضة البعثية الشديدة الصارمة،، فذات مرّة كُـلّف بالنزول إلى بغـداد، وقـد مضى على الحرب العراقية – الإيرانية سِـتـّة أعوام، إلاّ أنه كان يرى حركة الناس والمركبات توحي إليه بالطُـمأنينةِ والدفئ / ص166 / ولكنه بعد أسابيع من وصوله إلى بغـداد وجد ” صعوبةً في إيجاد سكن يستقرُّ بـهِ” بغية وضع مسارٍ لتحرّكه السياسي والتنظيمي ، غير أنه فـوجئ بأن أغلبية الناس، لا سيما الرفاق الشيوعيين القدماء والمتابعين لأخبار الحزب كانوا سلبيّـين في آراءهم بالإجمال، وكانت ردود أفعالهم مُـتشنّـجة إلى حـد الإتهامات بالخيانة،، فقـد كان ما ينكأ جُـراحهم هـو ” موضوع الجبهة الوطنية” مع البعثيّين عام 1973م، وكارثة الهـجرة من الوطن عام 1978م ، وترك الناس في نفـقٍ مظلم، معلّـقة المصير والخُطى، فلقد كانت هذه الترسبات من مواقف الحزب السابقة تـركت ظلالها التراجيدية على مشهـد وحياة الناس الطبيعية، والتي نالها الكثير من الحيف والغُـبن / راجع ص167 .
* يصطـدم الكاتب محمد السعدي بالخيبة التي واجهتـهُ، وهـو يضع خطواته الأولى في بغـداد، من قبل أولئك الناس الذين كان يعتقد أنّـهم سيقابلوه برومانسية ثورية، لكن أغلبهم كان في زنازين البعث أو في جبهات القتال، وقـد عرف عـن بعضهـم بأنهـم قابلوا عِـدّة فـواجع./ ص167
ويرصد الكاتب، اللّـوحة الإجتماعية – السياسية لبقايا الشيوعيّين السابقين، والذين تركو العمل الحزبي دون مواصلة أو لقاء بوصفهم” شيوعيّين عُـملاء” وفق تصنيفات البعث الفاشي، إذ اعتبرهم ( خـونة وطـن مجرمين) وحين تلتقي ببعضهم تجدهم ” مُـعبّـئين بمعلوماتٍ خاطئة، لا تمت بصلةٍ الى أخـلاق الشيوعيين ومواقفهم التاريخية، إنها سياسة البعث في تحطيم صور مُـعارضيه. ويعتقد الكاتب محمد السعدي، أن هـول الحملة على الشيوعييّن وقوة الإعـلام المعادي لـنا، وفجوة غيابنا الطويل عن الشارع، قـد ساعدت البعثيين على الإستئثـار بمقدرات البلد، وتشويه الحقائق حول تاريخنا الوطني والأخـلاقي، ناهيك عـن العامل الأكبر وهـو ” دمـويـة البعث في التعامل مع خصومهِ ومعـارضيه” / ص168 .
* * *
* كـان عـام 1986م، عـاماً تعيساً على بغـداد وعموم العراق ، جرّاء سياسة البعث الدموية، وهـو في خضم حربه على إيران، ولذلك كان يوجّـه أجهزتـهِ الأمنية لمتابعة الشيوعيين وغيرهم، وضرب أوكارهم، وقـد استطاعت مخابرات النظام البعثية في شهر كانون الثاني من عام 1986 من توجيه ضربة مُـميتـه للتنظيم الشيوعي في ” قـريـة جـديدة الشط ” *1 ، وهي المركز الرئيسي للّـقاء والتجمّـع والمبيت في محافظة ديالى، والخيوط الممتـدة لهـم، وقـد دُمّـر بالكامل ./ ص168
وفي ظَـلِّ هـذه الأوضاع الأمنية والسياسية ” المكهربة” لم يجد كاتبنا محمد السعدي مَـنْ يـأويـه أكثر من يومٍ واحدٍ للمبيت، حيث أن ” الرعـب النفسي ” الذي زرعـه البعث في نفوس الناس، يجعل الجميعَ يشعر بأنـه ” مُـتهـم” إذا آوى شخصاً سياسياً معارضاً إذا لم يُـبلّـغ عنه، وقـــــد نقل
*1- في هذه القرية، إلتقيت للمرة الأولى الكاتب الساخر شمران الياسري ” أبو ﮔـاطع “.
الكاتب مشهـد الرُعبِ هذا على ملامح وسلوك زوج أختـهِ، والذي بات عندهم الكاتب ليلتين فقط، فهو يوضّح بالقول : أن زوج أختي باتَ ليلتـه في الحديقة مرعوباً، يدورُ حول نفسهِ في البيت ويحدّث نفسه، وحينها تركت البيت، باحثاً عـن مـأوىً جـديد، ولو لِلية واحدة، بعيداً عـن المراقبة والمـتـابعـة . / ص169 .
* زاد القلق في نفسِ كاتبنا محمد السعدي، بعـد مغامرة النزول هـذه إلى بغـداد بأمرٍ حـزبي، فقـد كانت خيالاته النرجسية الثورية تـدفعه إلى مثلِ هـذه المغامرة، من قـناعةٍ مفادها ، كما يعـقد أن “الشيوعي أوّل من يُـضحي وآخر من يستفيد” ولكن الواقع قـد صدمه بكل كيانه، وهــزَّ ثوابت قتاعاته تلك، فهو يقول: “طرقت باب كلّ من كانت لي علاقة بهم، ومـن كنت أعتقد أنهم سيشرّعـون أبوابهم لي، وخصوصاً من كانت قرابتي بهم وثيقة، وارتباطي معهم مُـمـتـدّاً لسنين طـويلة، وقد كنتُ آمل أن أجد أحّـداً منهم يساعدني في الإختفاء، مرّرت عليهم واحداً تلو الآخر، لكـن أبوابهم كانت موصدة بوجهي، فضاقت بي الظروف والمنافذ، ولم يعد لي من بصيص أملٍ، أو من سبيل الى النجاة، سوى اللّـجوء إليهم، وإلاّ الموت سيكون بانتظاري” / ص169 .
* كـاشفٌ هـذا النص لحالة القلق والخوف التي كان يعيشها الكاتب، وقـد صوّر لنا كل أحاسيسه بصدقٍ، وجعلنا نشعر بهذا الخوف عليه، ولذلك نطرح هذا الأسئلة :
1- عندما يجري التـوجّـه بإرسال الرفاق إلى الداخل من المنطقة الكردية، أوليس هـناك من تعليمات يسلكها النازل إلى بغـداد! وأين سيجد الصِـلة الحزبيّـة، لكي يتصل بها !؟
2- أولم تكن المنظمات الحزبية العاملة في الداخل والخارج، لديها كل التصورات الأمنية والسياسية في داخل بغـداد وغيرها من المدن العراقية!؟ .
3- هـل هُـناك ” غـايةٍ مـا ” لدفع الرفاق المتواجدين في المنطقة الجبلية للنزول إلى بغـداد، لغرض ” التخلّص منهم” ومن مشاغباتهم الحزبية، بشكلٍ أو بآخر!؟ .
4- كيف تـمّ التعامل مع حالات مثلُ حالتك هـذه من قبل!؟ .
5- ما هي قـراءة الحزب وقيادته السياسية للمشهـد الكلّي العراقي، للتَـتّـخذ مثل هذه القرارات الإرتجالية، وإرسال رفاقهم إلى مثلِ هـذه المغامرة الجهنمية!؟.
6- من هـو الشخص” المسؤول الحزبي المباشر” الذي أوعـز إليك للقيام بهذه المهمة الحزبيـة !.
* حين يكون الوعي الفردي الواعي يعي وجوده، ويدرك مسؤوليّـاته والتزاماته، يبدأ يفكّـر بأنجع الوسائل والطرق للحفاظ على ذاته، لا سيما في الأوضاع الإرهابية التي عاشها العراق، في ظلِّ حكومة البعث الفاشية، وصاحبنا ” محمد السعدي” حين ضاقت به السُـبل والعيش في بغداد، أراد أن يُـثبت بأنـه يستطيع أن يتحرّك سياسيّـاً واجتماعيّـاً، بغية تفادي ” حالة الحصار” التي كان يعيشهـا، فقـد لجـأ إلى أسلوب ” السفر في القطار، جيئةً وذهـابا ” حيث عمـد إلى ” محطّـات القطار بين بغـداد والموصل” بين صحوٍ ونـوم في كابينات القطار، ولعـدّة أيـام، كمـلاذٍ مؤقّـت وكسباً للوقت والإختباء، لا سيما بعـد ورود الأخبار في بغـداد وديالى عن ” كبسـة” ضد الشيوعيين، حدثت في سـاعة صفرٍ واحدة في منطقة ” جـديدة الشط” في محافظة ديالى، حيث قامت السلطات البعثية الفاشية بهذه الكبسـة، وقامت بجرف بساتين واقتلاع أشجار، واعتقال ذوي الشيوعيين، وعلى رأسهم ” الرفيق طـه صفوك – أبو ناصر” حيث تم إعـدام أخيهِ الشهيد ” أبو ستار” وحكم على والدتهِ بالسجن لمدة عشرين عاماً، وهي البالغة من العمر 80 عاماً، وقد شملت هذه الحملة كُـل مُدن العراق، فاستشهـد الرفيق ” محمد الخُضري – أبو جـلال” أثناء مقاومته لهم، واعتقل من ” جـدية الشط” كل من : وحيد الجليلي – ابو غسان ، ونجـم عرب وأبو إزدهـار” وأُعـدموا فيما بعـد، بينما قام ” خالد جاسم بمقاومتهم من على سطح منزله، وسط مدينة بعـقوبة، وأصاب بعضهم، وتمكّـن من الخلاص من قبضتهم، لكنه ما لبث أن وقع في أيديهم، عندما حاولوا الصعود إلى المناطق الجبلية، عبر قُـرى الموصل، وتـمَّ تغـيِّبـه./ص170 .
* هـذه الأحداث، تمُـرُّ كشريطٍ سينمائي على مرأى ومخيلة كاتبنا محمد السعدي، لا سيما تلك الأحداث التي وقعت في ” قرية جـديدة الشط” .
* إن تراكم الأحداث والأخطاء المصاحبة لها في مسار تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، تجعل من الكاتب محمد السعدي كثير التـأمُّـل و ” الصفنات” وهـو الطامح لأن يكون الفكر السياسي الذي آمن بهِ هـو السائد، وفق أصولهِ الماركسية – اللّـينينية، وقـد شكّـل المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي، صدمة نفسية وفكرية للكاتب، ولغيرهِ أيضاً، ولذلك راح يُـعيد قراءة ” المشهـد الحزبي” بزاويتيه ، التنظيمية والفكرية، ويحاول قراءة أفكار ومواقف بعض القيادات السياسية للحزب، أثناء وبعـد انعـقـاد المؤتمر الرابع في عام 1985م . وكان أقرب الناس إليه هـو ” الرفيق باقر إبراهيم” عضو المكتب السياسي، ويكاد يكون هـو والرفيق آرا خـاجادور، من أقـدم الرفاق في الحزب تاريخيّـاً .
يـنذهـل الكاتب ويندهش من ” موقف الرفيق أبو خولة – باقر إبراهيم ” والقاضي باعتذاره من الترشيح الى عضوية اللجنة المركزية، بحجّـة وضعه الصحي أولاً، وليأسـهِ من إصلاح الوضع الداخلي للحزب، والموقف من خطورة احتلال الوطن والدفاع عـنه بوجـه إيران ” الأمر الذي سَـبّب بلبلـة بين الجموع داخل الحزب وخارجه، وقـد نزل الخبر – كما يقول الكاتب، بمثابة الصاعقة على رؤوس الذين كانوا يُـراهـنون على وطنية وانـدفاع الرفيق باقر إبراهيم في قيادة الحزب، ومُضِـيِّـهِ في تحمّل مسؤولياته النضالية، وأخذ المبادرة في إنقاذ وضعية الحزب، والحفاظ على تاريخ مجدهِ النضالي والوطني ./ راجع ص 172 – 173 .
* وبتقـديرنا أن الكاتب محمد السعدي، كان مأخوذاً بـ” الهالة الحزبية ” التي أُحيطت بتاريخ بعض الرفاق، دون التعمّق في تحليل شخصية هـؤلاء الرفاق الفكرية والسياسية والثقافية، بمعنى دراسة تاريخ هذه الشخصيات وأنجازاتهم الفكرية والسياسية، ومواقفهم التاريخية في المنعطفات الخطيرة، ومساهماتهم في تطوير بُـنية الحزب السياسية والفكرية، وهـذا ما لا نجدهُ عند هذه الشخصيات السياسية في الحزب، بـدأً من عـزيز محمد ووصولاً إلى أعضاء اللجنة المركزية، بما فيهم ” العشرة المُـبشرة بالجـنّـة”، ومـا الذي قـدّمه هـؤلاء للفكر السياسي في العراق، ومـا الذي قـدّموه على صعيد بُـنيـة الحزب وتطويره!؟ وهـذا الخـلل البُـنيوي في الحزب هـو نتيجة تراكم تاريخي متصاعـد منذ 1963 وحتى الساعـة، بـدليل أن الإنشقاقات المتكررة للحزب، وظهـور خط آب عام 1965، وانشقاق القيادة المركزية عام 1967، وأحداث بشت آشان 1983، ثم انشقاق الرفاق الأكراد داخل منظمة الحزب في إقليم كردستان وتشكيلهم ” حزب شيوعي قومي كردي” ساهم في تكوينه كل أعضاء اللجنة المركزية الأكراد في الحزب الشيوعي العراقي ! فـأين كان موقف هـذه القيادات التاريخية في الحزب!؟.
كل هـذه الأسئلة لم يجريهـا الكاتب محمد السعدي على قراءته لموقف القيادات السياسية المتقدمة في الحزب الشيوعي ، وفي محاولة منه في صــ173 ،يحاور الكاتب بعض هـذه القيادات بسؤال، يكاد يكون يـتيم، كل من : باقر إبراهـيم، آرا خـاجادور، عـدنان عباس، حسين سلطان، عامر عبدالله، عبد الوهـاب طاهر، / وكلهم معارضين لخط عزيز محمد / فيسألهم : لماذا تخلّـيتم عن إعـانة جسم الحزب وهـو هـزيل وضعيف!؟ فيجيبون بردٍّ لايمكن قبوله بالمطلق وهـو: ” لـم نعُـد نملك لا مالاً ولا نفـوذاً ولا قوة قرار في إيقاف مـوتـهِ، لقـد باتت مالية الحزب، وإعـلامه المختلف، وقوّة قراراته وشبكة علاقاته، بعيدة عـن متناول أيـدينا، فعزيز محمد سلّمها، بمحض إرادته الى ” فخري كريم” ورهـطـهِ، ليصبح جُـثّـة هـامدة، كما يصفهُ القيادي في الحزب ” رحيم عجينة” في مذكراتهِ .
ثم يحاول الكاتب محمد السعدي، دون الدخول في التفاصيل والتحليلات، والتعريج على ” حملة التصفيات السياسية” والتي نال قسطها الأكبر أعضاء وكـوادر وقادة الفرات الأوسط، ممّـن كانوا قريبين للتطلعات الفكرية والسياسية. ويضيف : إن هـذه الحملة شملت العلاقات الشخصية والروابط الإجتماعية لباقر إبراهيم، حيث أطلقت ضدّهُ حملة حملت عـنوان : جماعة السيد باقر الموسوي” ولم يذكر الكاتب مِـنْ أطلق هـذه الحملة ! / راجع ص 173 .
ويستدرك الكاتب بالقول: والمتابع لتلك التطورات، يجد أنها ترافقت مع أزمة تنظيمية، وأفق سياسي مُـتدهور، وانحدار عام على مستوى الحياة الحزبية – الرفاقية، والمواقف السياسية الوطنية” / ص173 .
ويربط الكاتب هذه النتيجة والأزمة في الحزب الشيوعي العراقي بالواقع السياسي العام في العراق، والذي حتّـم ” القبول بكرسي هـزّاز” في عملية احتلال طائفية قذرة، دمّرت البلاد والعبـاد، وبقي صوتنا مخنوقـاً، وبقينا عاجزين عن إيجاد رؤىً وتطلعات وسبل لإنقاذ الوطن من هـمومـه ومعاناته” / ص173 .
* وفي تحليلٍ لافت، يشير الكاتب إلى ” أن الأحداث أكّـدت، طيلة الفترة النضالية الماضية، والممتدة من جريمة شباط 1963، وما تعرّض له الحزب ورفاقه وكوادرهِ، من إبادة جماعية على يـد المغـول الجُـدد، من بعـثيّـين وقوميّين، إنها أفقـدتنا الزعامة الشيوعية، وزعامة الحزب والناس ، وإلى الآن لم يعُـد لدينا مفكّـر، بالمعنى الحقيقي للمفكّـر والقائد، وربما كان الرفيق ” عامر عبدالله” رمزاً في هـذه الزعامة، لكن الصراعات والخلافات الفكرية الداخلية المتخلّفة هي التي أطاحت بـهِ ” /ص174 .
* * *
* في مفصلٍ هـام، يتوقّـف الكاتب مع ” مسألة الجواسيس” لا سيما المدعـوين ” أبو بهـاء وأبـو أيـمـن وشهـاب” الذين كـانوا يمدّون أجهزة السلطة الأمنية بكل تحركات الحزب الشيوعي ومنظماته الحزبية في كردستان وفي بغـداد، وفي غيرها من المُـدن العراقية، وكان هـؤلاء من خيرة المناضلين في الحزب، وقد استطاعت أجهزة البعث الأمنية من تجنيدهـم. / أنظر تفاصيل ذلك في ص 187 -188 .
كما ويشير الكاتب محمد السعدي، إلى الأعـداد الكبيرة من الأكـراد الذين كانوا ” عيونـاً علينا” في المناطق الكردية، والذين يطلق عليهم ” الجحـوش” / راجع تفاصيل ذلك في ص190 -191 .
* وقـد ظلّت هـذه المسألة، أي ” مسألة الجواسيس” والإختراقات بين صفوف الحزب وتنظيماته، تشغل بال زميلنا الكاتب محمد السعدي، بحيث أنها صارت حاكـمة على تفكيره، في السكرِ والصحو، وقد أصبحت هي الهاجس الذي يقض مضجعه، لا سيما بعـد اطّـلاعـه وسماعه لاعـترافات ” الرفيق أبو بهاء” .
* ظلّت مسألة “التجسُّس والخيانة”، هاجساً دائم الحضور في ذهـن الكاتب، وخصوصاً عندما وصل بغـداد عام 1986، وبدأ يجري اتصالاته بمن بقي من صفوف الحزب، وقـد اكتشف ” خطّـاً حزبيّـاً كاملاً” وتعرّف على وجـوه من ” مدينة الكاظمية والحرية والشعلة وبغـداد الجـديدة”، وهـذا الخـط الحزبي كان مخترقاً بالكامل من قبل مديرية الأمن العامة، والأنكى من ذلك أن هـذا الخـط كان يضُم بين صفوفهِ رفاقاً يعملون بكل نكران ذات، ولم يـتنبّـهـوا إلى أنه ” خـطٌّ مُـموّل من الأمن العامة” وبإشرافٍ مباشر منهم،ويقومون في طبع وإعـداد جريدة ” طـريق الشعب” ويشرفون على تـوزيعـها، ويعرفون من يستلمها، وردود الأفعال حولها، ولديهم محاضر عـن لقاءاتهم وتحرّكاتهم اليومية ” . /ص214 .
* حقّـاً أنه لأمرٍ محيّـر! لمـاذا تتـكرّر مسألة الإختراقات في صفوف الحزب الشيوعي العراقي تاريخيّـاً، وفي زمن البعث أصبحت هـذه المسألة شُـبه ظـاهرة وملموسة، فلم تَـعُـد هـناك ” قلعـة حصينـة” للشيوعيين العراقيين إلاّ واخترقتها أجهزة الأمن العراقي، ولذلك لا نستغرب عـندما نقـرأ صفحات طويلة قـد مُـلأت كتاب الرفيق الكاتب ” محمد السعدي – بيني وبين نفسي ” . ونستطيع أن نلمُس مـدى القلق والتوجس في روح الكاتب، وهـو يستعرض تلك الإختراقات، من مكانٍ لآخر، إن كانت في بغـداد أو في المنطقة الكردية.
يذكر الكاتب حكاية هـذا ” الإختـراق الواسع ” في بغـداد، داخل التنظيم الذي إلـتقى بهِ، حيث يشير إلى ” أن حكاية هـذا الخـط المُـخترق، بـدأت في كليّـة الهـندسة، جامعة بغـداد، عـند تشكيله الأول، عِـندما بـدأ ” عـلاء سُـفر” الشيوعي القديم ، والطالب في كليّـة الهـندسة، وإبن مالك فرن الصمون في “منطقة الحريّـة الأولى” مع زمـلائه في الجامعة ” عـادل مـوّات وحسين” الذين تـم اعـتقالهم وتعـذيبهم ومساومتهم على الخيانة والتجسُّس، وقبلوا ذلك، على أن يبقوا في مواصلة عملهم الحزبي برعاية مديرية الأمن العامة، كي يكون ” التنظيم” كميناً مُـبيّـتاً للشيوعيّين، مقطوعي الصِـلة، مِـمّـن يبحثون عـن خيوط اتصال بالحزب الشيوعي” / ص214 .
وقـد وقع في حبائلهم كل من ” عبد الرضا دبش وخطيبته” الطالبة في كلية الإدارة والإقتصاد بغـداد، ومع الضابط “غسان” من أهـالي الكاظمية، ومع ” نيران” من مدينة السليمانية وهي طالبة في كلية الهندسة وآخرين ” . ويشير الكاتب محمد السعدي إلى أنه ” عـرف تلك المعلومات من خلال علاقتهِ بعـبد الرضا دبش، حيث اطّـلع على تلك الخيوط المُـعقّـدة في العلاقات والعمل، حيث وجد عِـندهم ” آخر أعـداد جريـدة طريق الشعب” وبيانات اللّجنة المركزية، في إجتماعات دوراتها العادية، ووجد أيضاً ” كـنزاً من المعلومات حول عقد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ونتائجه، ومنها مقال في ” جريدة السياسة الكويتية” بقلم رئيس تحريرها أحمد الجـارالله ” حول آليـة الصراع في الهرم القيادي، وعدّة قضايا عالقة” بالإضافة إلى مواقع المراكز الحزبية، وهـذا كلّـه قـد تفجّـر داخل أروقة المؤتمر الرابع وخيمته” وكانت تتصدّر المقال ” صورٌ عريضة باللّـباس العربي ( عقال وعباءة) للقيادي الشيوعي باقر إبراهيم. ويبدو أنه ” كان تقريراً مُعـدّاً في دوائر المخابرات العراقية . / ص215 .
* مع هـذه الإختراقات الأمنية لصفوف الحزب الشيوعي العراقي ، كان حزب البعث يبُـثُّ، بين الحين والآخر،إشاعات بين الناس مفادهـا” أن هـناك محاولات إنقـلاب فاشلة، كي يعرفوا ردود الأفعال في الشارع العراقي، وقـد قام حـزب البعـث وأجهـزته الخارقة في كشف تلك المحاولات الإنقلابية” ويعقب ذلك موجة من “الإعـدامات” لمعارضين قابعين في السجون العراقية./ ص216
وقـد سلكت أجهزة الأمن العراقية أسلوباً قـذراً في تنفـيذ خُـططهـا مع من جَـنّـدتهـم من الشيوعيين، فقد كانت تبعث بهم إلى المناطق الكردية، للتجسّس على منظمات الحزب الشيوعي ونشاطاته، باعتبارهم ” رفاق الحزب” وبالمقابل تقوم أجهزة المخابرات والأمن باعتقال ذويـهـم، بغرض التـمويـه وإبعـاد الشُـبهة عـنهم في أداء مهـامهم الجديدة” / ص219 . وقد إستطاع هـؤلاء المندسّـين من الوصول إلى قوات الأنصار ” وتـمّـت تزكيتهـم من الحزب” ونُـسِّبوا إلى الفـوج الثالث في بهـدينان، وشاركوا بمهمات في المفارز والمهمات التي أُوكلت إليهم، كما شاركوا ببعض العمليات العسكرية، وبمحض الصُدفةِ كُـشف أمرهم، حيث كانوا في ذات يوم قائض، كانوا يجلسون في أحد غُـرف الفوج وهـم يتحـدّثون عن خططهم المستقبلية ومصيرهم في حال تم كشفهم من قبل تنظيمات الحزب، أو من قبل رفاقهم الأنصار، وكانوا غير منتبهـين- كما يقول الكاتب – إلى أن أحـد الرفاق كان مُـتـدثِّـراً ببطانية في زاوية الغرفة، وسط حُـزمةٍ من الأغطية إستعـداداً للنوم، فسمع كل حديثهم حتى نهايته، وفي نفس اليوم بلّـغ التنظيم بما سمعه، فتـمّـت متابعة حركاتهم وسلوكهم، وتـم اعتقالهم بعـد أيام في منطقة ” زيـوة” وأدلوا باعترافاتهم، بعد أن حاولوا الهروب . / ص220 .
* * *
* حينما يفـقـد المكان بهجتهُ،فإن الحياة تفقـدُ بريقها، ولم تَـعُـد للأيام معنى، حتى وإن كان النضال يستوجب التضحية والبقاء في ذلك المكان، لكن قـذارة السلوك السياسي للبعـث، جعلت من كل الأمكنـة جحيماً للساكنين، لا سيما حين بـدأت الحرب العراقية – الإيرانية وأخذت منحىً آخرَاً، بـدأت معالمه تُضلِّـل الوجود اليومي بـتوابيت الشُـهـداء، وقواغل الجرحى المرسلين إلى العاصمة بغـداد كُـلِّ يوم، حتى غـدا هـذا المشهـد هـو الثـابت اليومي لمسرح الحياة العراقية في ظل البعث الفاشي.
* ضاقت بصاحبنا الكاتب محمد السعدي، كل مطارح بغـداد وضواحيهـا، عـندها قـرّر الذهاب إلى الجبل، واستئناف حياة النضال هُـناك، فشـدَّ الرحال من بغـداد متوجّهـاً إلى المـوصل، وبها عـرّج على رفيقهِ ” أبـو آشور” حيث سيقوده للوصول إلى المقاتلين هـناك، عِـبر قريتي ” خـورزان و كرسافة” وهما القريتان اللّـتان دخلهما ومنهما واصل السير إلى قرية ” بيرستك و إيسيان” على سفحِ جبل ” شيخان القـوش”، ومن هـناك يكون الإتصال بسرايا المقاتلين الأنصار في جبال كردستان العـراق . /ص 222 .
* يقول الكاتب : حين وصلت إلى المقر الصيفي، كان هـناك الكثير من الرفاق، ونهم ” الرفيق أبو داود – حميد مجيد موسى، السكرتير الجديد للحزب” وغيره من الرفاق،” وبـدأت أعِـدُّ نشرة إخبارية، لصحيفة الحزب، مع تقرير كامل عن الوضع العام في بغـداد، عاكساً فيه آراء الرفاق والأصدقاء للحزب، ومن خلال شبكة علاقاتهم اليومية، وبكل أمانة وجرأة، وبعيد عن أي مجاملات” ، وهذه واحدة من مشاكلي في علاقتي مع الحزب وفي حياتي أيضاص. ويسـتأنف الكاتب حديثه بالقول : ” لم أُهـادن أو أتملّق أحداً، وكنتُ صريحاً في التعبير عن آرائي، حتى ولو كانت ضد التيار الجارف، ومهما كانت النتائج، وكنتُ أطرح قناعاتي بشفافية، وهـذا ما سَـبّب لي صدامات، لا تخلو من الحقد مع مَـنْ لم يستطع من الرفاق أن يتبنّـى مثل هـذه المواقف الجريئة ” ./ص226 .
* في غمرة النضال السياسي، بل وحتى في غمرة شؤون الحياة، تـمُـرُّ بالإنسان لحظاتٌ من التـداعي، ليستدرك بها بعض المواقف السلبية والإيجابية، فـثمّـة شخصٍ إسمهُ ” قـادر رشيد” كان الكاتب محمد السعدي قـد التقـاهُ في طريق العبور بين ” قـادر كـرم وكركوك والسُـليمانية” وهذا الشخص، هـو القائد الحزبي لمنظمة الحزب الشيوعي هناك، الأمر الذي دعا هـذا الشخص لن يكون أحد الأسباب التي أوقعت الكاتب محمد السعدي بيـد المخابرات العراقية عام 1987م، لذلك يذكر تفاصيل تلك الواقعة، بكل حذافيرها بكتابه ” سجين الشعبة الخامسة” / راجع تفاصيل ذلك في كتاب ” بيني وبيت نفسي” ص239- 240 .
* وعندما يكتشف لإنسان ” المناضل” أن هُـناك خـللاً مـا في مسيرتهِ النضالية، ويحاول أن يجد لها حـلاّ بين رفاقهِ، وحين يكتشف أن هُـناك ” جِـداراً أصم، لا يصغي إليه، فإن وساويس القلق تنبشُ في النفسِ ما هـو دفين وراكد، فـفي عام 1987م، وصلت القناعة بعقل صاحبنا ” محمد السعدي” وهـو في منطقة جبال قرداغ في السليمانية، بأن الحـوار مع رفيقه ” طـه صفوك – أبو ناصر” وصل إلى طريق مسدود، في مسألة ” رغبتهِ في استعادة حياته المدنية ” لذلك قـرّر ترك مواقع النضال، والتوجّـه إلى الأراضي الإيرانية” بوصفها المنفذ الوحيد إلى العالم الخـارجي، والإتصال بالعالم الآخر . / ص242 .
ولذلك قـرّر الكاتب محمد السعدي أن يغـادر موقعه النضالي في كردستان، والتوجّـه إلى بلدٍ آخر، ولذلك طلب من رفيقه، المسؤول عن القاطع ” الرفيق طه صفوك – أبو ناصر” ان يسمح له بالتوجه إلى إيـران، مع بعض المفـارز العاملة في الطريق، ولكن أبو ناصر قال بشئ من التشفّـي ” إن حياتك في إيران ستكون جـوعاً وعوزاً وحسرة على قطعة خبزٍ يابسة، لا يسـهل مضغهـا، إلاّ بتغميسها في الماء الساخن” . / ص243 .
* مُحـبِطٌ هـذا الرد الحزبي، من مسؤولٍ يشرف على قاطعٍ كبير في المنطقة الجبلية، وتحت إمـرتهِ مئاتٌ من الرفاق المناضلين من الشيوعيين والأنصار، وحتى أن الكاتب محمد السعدي يُـعلّـق بشئ من الخيبة قائلاً : “هـل هـذا حقّـاً ختام مسيرتي النضالية، وتضحياتي الجِـسام، كمناضلٍ سياسي يحلم بوطنٍ مُـعافى، خـالٍ من الديكتاتورية ” . / ص243 .
* شكّـل هـذا الرد الحزبي، غـصّـة في ضمير الكاتب محمد السعدي، فراح يستقصي تجارب الآخرين من الرفاق الأنصار وغيرهم، من الذين مـرّوا في تجارب قاسية ومُـرّة، حدثت لهم في المنطقة الجبلية، ولذلك : تـركوا مواقع النضال” للعـديد من الأسباب والدوافع، وقـد إسـتُهـدفـوا بأقسى التُهـم القبيحة ” العمالة للنظام” وهي الورقة الأكثر نـذالة للتسقيط السياسي للمعارضين في الرأي والموقف والسياسة ، حتى أن الكاتب محمد السعدي يصفهـا بـ” أنها أساليب لا تقـلُّ خِـسّـةً عن ممارسات النظام البعثي في هـذا السياق ” / ص243 .
بعـد حينٍ، ودّع الكاتبُ رفاقه في الجبل، بغية الإلتحاق بمفرزة منطلقة من جبال قرداغ باتجـاه الحدود الإيرانية، بليلةٍ شتوية، قارسة البرودة، وسلّم سلاحه ومتعلقاته إلى رفيقهِ ” سلام العـﮔـيلي – محمد عرب” والذي ودّعـه ببكاءٍ وحزن، وسلّم لرفيق آخر رسالةً، كي يوصلها إلى أهله وذويه، بحكم المعرفة بينهما، ومن هُـناك بـدأت رحلة أخرى من إيران إلى سوريا ومنا إلى السـويـد . /ص243 .
* * *
* عِـندمـا يتحّدث الضمير : د. خيرالله سـعيد
القسم الثالث – 3/3
* إن اختبار المبادئ يكون في اللّـحـظات الصعبة وفي المواقف المصيرية، حيث يختبر الإنسان تلك المبادئ في داخلهِ، ويكون في مواجهتها بذاتـه، لمعرفة صدق انتمائه لهـا، وبـأيِّ درجة هـو متمسّـك بها، وهذا الإختبار وقع فيه صاحبنا الكاتب محمد السعدي، حين انطلق من كردستان بمصاحبة تلك ” المفرزة الحزبية” المنطلقة من جبال قرداغ صوب الحدود الإيرانية، يقول هـو في ذلك :” بعد يومين مُـضنيّين، وقطعنا مسافات طويلة، حيث رافقني حينها الرفيق علي الكرّادي، حتى وصلنا إلى قرية ” قزلـر” والتي تقع على أطراف جبال السليمانية، وكان الجو ماطراً، وعواصف ثلجية مخيفة، وحين دخلنا “جامع القرية” قد انحشرنا حول موقد الجامع لتدفئة ملابسنا ومقاومة البرد القارس، حينها قال لي ” مسؤول المفرزة” أبو حسين الحـلاّوي:( لـدينا قرار من قبل قيادة القاطع – أي من أحمد باني خيلاني- أبو سرباس، وطـه صفوك – أبو ناصر، ومحمد النهر – أبو لينا، أن تكون هذه آخر محطّـة لـنا معـكم ) / ص244 .
هـكذا وبكل بساطة، تتخلّى ” هـذه القيادات الحزبية” عـن رفاق الأمس وتتركهم للمجهول، حتى أن ردود فعل صاحبنا محمد السعدي كانت قويّـة وعنيفة بعض الشئ، يقول: تفـاجأت، وكان ردُّ فعلي حادّاً، وتكلمت مع النصير ” سـردار” والذي كان غير مقتنع بذلك التصرف المشين، إلاّ أنه كان عاجزاً عـن عمل أيِّ شئ” ويضيف : تركونا في قرية محاطة بالربايا الحكومية، ومقرات إيرانية لحرس الثورة الإيرانية، في جبهة حرب ساخنة، ووسط عواصف ثلجية قاتلة، إلى درجة أن القرويين نفسهم، عـدّوها الأولى من نوعها ” / ص244 .
* بتهـميشاتي على هـذا النص، كتبت عبارة شعبية تقول ” خـلّـوك واجـفـوا ووه يـﮔـلبي ” وأنا أُتابع مسيرة القافلة التي خلّـفت رفيقاً لهـا، كان بالأمس أحّـد الناشطين في العمل السرّي داخل القُـرى والمُـدن العراقية، وقـد تـمَّ التخلّي عنه بكل بساطة! .
وفي حالة من التداعي لمثلِ هـذه الحالة، قد حدثت سابقاً، يتذكّـر الكاتب محمد السعدي، أنه كانت له تجربة مؤلمة في بدايات ” الكفاح المسلّح”، حيث فُـرضت على مفرزة من الأنصار معركة غير متكافئة، راح ضحيّـتها الشهيد ” معتصم عبد الكريم” وآخرون ، حين تخلّت عنا مفرزتنا، ونحن نبيت في جامع القرية ” قـزلر” ووقتها تعرّضت القرية إلى إنزال جوي، عبر الطائرات السمتية، ودارت معركة غير متكافئة، راح ضحيّـتها عـدد من الأنصار، وفي حينها انتشر خبرٌ يقول بأن أهـالي القرية وسكّـانها الأصليّين يعملون لصلح السلطة الحكومية كمخبرين./ ص244 – 245 . ويستدرك الكاتب بالمٍ واضح، أنّـهم وُضِعـوا/ كرفاق درب، ومصير مشترك/ في فُـوّهـة المدفع، وبعـد أن توصلنا إلى قناعة بأنـنا على شفير الموت، وتحرّكنا نحو المجهول، وبعد ساعاتٍ رهيبة وخطيرة من السير، وسط عـواصف ثلجية، وبين ألغـام الربايا العراقية والإيرانية، وتحت لهيب جبهة حرب ساخنة، وجدنا أنفسنا داخل ” مقرات الإتحاد الوطني الكردستاني ” وفي مناطق سـرﮔـلو وبرﮔـلو، حيث استقبلونا بكل احترام وتقدير من قبل ” مامستا بكر، وكاكا شورش” وهما قياديّـان بارزان في ” ئـالاي شورش” التنظيم اليساري في الإتحاد الوطني الكردستاني ، وكانا محضورين عن اي تشاط حزبي، لتقاطع مواقفهم مع سياسة الإتحاد الوطني الكردستاني ، وبقينا معهم شهوراً، نتقاسم معهم رغيف الخبز، حتى شنّـت الحكومة العراقية علينا ” هـجوم الأنفال عام 1988م،( وكنّـا آخر حلقةٍ في الإنسحاب، بعـد أن أخلى مقاتلو الإتحاد الوطني الكردستاني ” أوك” مقرّاتهم ومواقعهم للجيش العراقي والجحوش، وصفّـوا حساباتهم مع قِـلّة من السُجناء في عمق الوادي، وقاموا بتصفيتهم وقتلهم) ./ ص245 . وقد انتهت عمليات الأنفال بالقضاء على أكثر من ( 4000 قـرية) وقُـتلَ ما يزيد عن ” 180 ألف كردي” ونـزوح ما يقارب المليون شخص من الأكراد، وقـد كان ” علي حسن المجيد” هـو من يقود عمليات الأنفـال .
* في مكوثـهِ ضمن قاطع الإتحاد الوطني الكردستاني ، يُشير الكاتب محمد السعدي إلى انّـه إلتقى مع ” مجموعـة سامي حركات” وأبو عليوي الكربلائي، علي الكرّادي، ولطيف ” والأخير هـو الكاتب نفسه، كان يحمل هـذا الإسم ” التنظيمي”، حيث جمعت هـؤلاء جميعاً ” وجهات النظر السياسية المعارضة لسياسة الحزب، تجاه جملة الأحداث والأوضاع الداخلية، والتي لم يكن الحزب الشيوعي مُهـتمّـاً بها، حتى تفاقمت على كل المستويات، وأصبح عاجزاً عن النظرِ إليها. / ص246 .
* هذه الملاحظات العميقة، ظلّت ترافق الكاتب في حِـلّهِ وترحاله، لأنها لا تخصّـه وحده،، بل هـناك المئـات، إن لم نقل الألاف من الرفاق، تشغلهم هـذه الملاحظات والمشاكل، وكُـلّما أُجِّلَ النظر فيها تفاقمت أكثر، ولذلك هي تظهر عند كل لقاء، داخل العراق أو خارجه، من قبل الشيوعيّين القدماء الذين غادروا مواقعهم من الحزب ووصلوا إلى إيران في منطقة ” كـوجه مـروي”، وبهذا الصدد يقول الكاتب :” كنتُ في مدينة طهران – بأوراقٍ مزوّرة- على تواصل مع رفاق شيوعييّن، تعرفت عليهم عن طريق الشهيد ” سامي حركات” وهـم : جمال عيدي ورزاق أبو وهيّب، وأبو أحمد الصيدلاني” وكانت معاناتنا مشتركة في الوطن والحنينُ إليه /ص247 .
* تبقى مسألة الوطنية العراقية، في ذهـن كل الشيوعيين العراقيين، هـي الحامل الأرأس لكل سُـبل النضال السياسي، وهي تبقى متفاوتة بين السياسيّـن، وحسب درجة الإيمان بها، وتكاد تكون هـذه المسألة الوطنية هي ” بـوّابة النقاش السياسي” عند أولئك الشوعيين الذين سكنوا المهـاجر، وخصوصاً الذين وصلوا إلى طهـران، وبقية المُـدن الإيرانية في ظلِّ قيام الحرب العراقية – الإيرانية، ولذلك يتوقّـف الكاتب عـندها، ويحلِّـلها وفق رؤيتهِ على النحو التالي : ” بـدت لي مرحلة صعبة، وتحدياتٌ جديدة في مواجهةٍ يومية بالموقف من الحرب والدفاع عن الوطن، والمفهـوم الماركسي في النضال الوطني، وثـمّة أصواتٍ نشاز لم تستطع أن ترتقي للموقف الوطني، وفق متطلبات المرحلة وتـداعياتها، فلم يبقَ أمامها من عـذر إلاّ مهاجمتك شخصياً، بِـتُهمٍ يضنون أنها تضعف موقفك في الدفاع عن العراق وأهـله، والتهـديدات والمخاطر اليومية التي تعترض طريقك في النضال، وفي بلدٍ مُـعادٍ لبلدك ووطنك، والنقطة الثانية نظامه السياسي يتعارض تماماً مع موقفك من الوطن ومن صيغة أدائه السياسي ” . /ص247 .
* إن هذه المسألة الوطنية ( الدفاع عـن الوطن) في تلك الفترة، فترة قيام الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980 – 1988م ،شغلت الوسط السياسي العراقي بِـرُمّـتهِ، وانقسم الشيوعيين في هـذا الموقف، فقسـمٌ مع الحرب ( جماعة عـزيز محمد وفخري كريم زنكِـنة) وقسمٌ ضد الحرب ( أعضاء في المكتب السياسي واللّـجنة المركزية، أمثال ” باقر إبراهيم و آرا خـاجادور وغيرهم) وقسم آخر كان يدعـو إلى ” إيقـاف الحرب بين البلدين، وإيجاد صيغة نضالية مشتركة أخرى “تـوقف الحرب، وتُـضعف النظام”، وقـد تميّـز بهـذا الموقف تيّـارٌ جـديد، إنشقَّ من الحزب الشيوعي العراقي، عُـرف بإسم ” جماعـة المنبر ” وهـناك أفـرادٌ من الشيوعـــيين القدماء ” القاعـدين” يميلون بمواقفهم من هـذا الفريقِ أو ذاك، فلا غرابة أن نرى الراحل ” د. ماجد عبد الرضا” أن يشدَ الرحال، ويترك الحزب الشيوعي العراقي، وهـو عضو لجنة مركزية، ويلتحق بالنظام، تحت شعار ” الدفاع عـن الوطن” .
* * *
* دمـشق وأيـّامـهـا الشاميّـة، ومراجعة مع الـذات .
* بعـد تراكم المشاكل والإشكالات مع الحزب الشيوعي العراقي، ورحلتهِ الطويلة وتنقُـلاته بين المُـدن العراقية، ومـا عـانه من وجودهِ في المنطقة الكردية، وخلافاته السياسية مع التنظيم السياسي الذي ينتمي إليه، وحتى خروجهِ من آخر قرية في السليمانية، وتوجُّـهِـهِ إلى إيران- كما تابعنا في الصفحات السابقة، ظهـرَ تـوجّـهٍ جـديد لدى الكاتب محمد السعدي، وهـو ” التـوجّـه إلى الحياة المدنـية” خارج سياق الإلتزامات الحزبية والتنظيمية في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، بعـد أن وصل إلى قناعة ذاتية بأن الأمر الخاص بتغيير سياسة الحزب مع رفاقهِ المختلفين معه، ضمن السياسة التي يسير عليها، بـدت ضرباً من الخيال، (ولم يَـعُـد في القوسِ منزع) كما يقول المثل العربي. فـآثر السلامة والبقاء، وكأنّـه يردد قول إمرئ القيس :
” وقـد طـوفـت في الآفـاقِ حـتّى ،،،، رضيتُ من الغـنيمة في الإيــــابِ”
شَـدَّ رحاله نحو دمشق، تلك المدينة التي تُـغري الكثير من الثوريين اليساريين والقوميين وغيرهم، للوصولِ إليها، ولذك طار من طهران ووصل دمشق بتاريخ 15/آب/ 1988م مكسوراَ، كما يوصّف نفسه / ص251 . ومهزوماً من نتائج تجربةٍ فاشلة، قـادته ورفاقه إلى ” التشتت والتشهير، والتي وصلت إمتـداداتها إلى أرض الشام، والصراع كان محتدماً – كما يقول- بين يميني ويساري، إلى حـد كـسرِ العظم، في الطعنِ والمقاطعة، طـرفٌ يكيل الإتهام للطرف الثاني، بين خـطٍّ وطني يدافع عن العراق وحربهِ ضد إيران، وبين خـطٍّ يعـوِّلُ على إيران باحتلال أرض العراق وإسقاط النظام ” /ص251 .
* هـذا هـو المشهـد السياسي الذي واجهه في أيّـامه الأولى، وهـو يطأ أرض الشام، وكان يلاحظ أن بعض الأطراف صادقة بادّعاءاتها ومشاريعها، فقسمٌ منها، وعـدده ليس قليلاً، كانت تحرّكه ” مصالح وارتزاق” بعيداً عن المشاريع الوطنية، والأهـداف الخيرة، وكان الشيوعيون أكثر القوى السياسية على أرض العاصمة السورية دمشق صُـراخـاً وتشهيراً ببعـضهم البعض ” بين تنظيمات الحزب الشيوعي – الرسمي ، من جهة، ومن جهـة اخرى، أطراف أخرى متعـددة، خرجت من الحزب الشيوعي بـرؤىً سياسية وطنية مختلفة، منها ( جماعة المنبر، والتنسيق، وشيوعيون عراقيّـون، وجماعة القاعدة، وشيوعيّون ثوريّـون، وشخصياتٌ وطنية مستقلة ) / ص251 .
* ثمة إشارة هـامة، يلتفت إليها الكاتب عندما يقول : ” كان الحزب الشيوعي الرسمي، له سلطته في إدارة الصراع، بحكم ارتباطه بجهاتٍ سورية متنـفّـذة، وتتماشى و موقف الدولة السورية بالتضامن مع إيران في حربها ضد العراق واحتلال أراضيه، أما الأطراف الأخرى الدائرة في الصراع فكان موقفها مختلفاً من الحرب العراقية – الإيرانية، باعتبار إيران مُـتعنّتـةً بموقفها ضد دعوات المجتمع الدولي، وأن محاولاتها مستمرّة في احتلال العراق، وكانت لها تنظيمات تتعرّض إلى ” مضايقات من الجانب السوري” للحـدِّ من نشاطها السياسي والإعـلامي” / ص252 هذه التجاذبات السياسية والمواقف المختلفة، خلقت جـوّاً رديئاً في أوساط كل العراقيين المتواجدين على الأرض السورية، وأبرزت نـزعات نفسية حقيرة، لم يكن العراقيون قد اعتادوا عليها، حيث أن الحزب الشيوعي العراقي الرسمي، إتخـذَ سياسة الإقصاء والتشهير والمقاطعة والتسقيط، لكل القوى المعارضة له في التوجهات السياسية والعلاقات التنظيمية، حتى صارت ” رفقة الأمس= عـداوة اليوم” وبشكلٍ لافت، مع نشر الغسيل القذر على المـلأ، وقد وصل الحـدّ، ببعض المتنفـذين في الحزب الشيوعي العراقي إلى إعـلان المقاطعة الإجتماعية، بحق بعض المناضلين ” أعضاء سابقين في اللجنة المركزية وكوادر متقدمة في الحزب” ومحاولة تجويعهم، والمَـس في جـوهر موقفهم الوطني ./ راجع ص252 .
* وكنتُ أنا شخصياً “خ س ” مِـمّن عاش تلك الفترة، واكتويت بتلك النيران المتشظية من بعض قيادة الحزب الشيوعي، بعـد أن ” فُـصلت من الحزب الشيوعي – وأنا في دورة حزبية في بلغاريا عام 1984م، نتيجة اختلافي مع سياسة الحزب، فـروّجَ “جماعة فخري كريم” بـأني أرفض توجهات الحزب بالذهاب إلى كردستان” ومنعوا عليّ نشر أي مادة في بعض الصحف السورية والفلسطينية، وهـذا الأمر شَـمُلَ كُـتّـاباً آخرين، لا سيما المعارضين للحزب من الشيوعيين العراقيين، وحاول فخري كريم أن يستولي على مرتبات الرفاق الشيوعيين العاملين في “مجلة الحـريّـة الفلسطينية ” ومنهم فاضل الربيعي وجمعـة الحلفي وغيرهم، مما خلق أزمة مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
هذه الأخلاقيات الخارجة عن النمط الإجتماعي والسياسي، والتي كان يمارسها فخري كريم وجماعته في الحزب الشيوعي العراقي، أضرّت بسمعة الحزب كثيراً، على الصعيد السياسي والإجتماعي والثقافي، فصار البعض يتحاشى البعض والجلوس معه، حتى في المقهى، أو يزوره في البيت، فانخلق “جـوّاً مكهرباً” وغير صحي، بكل العلاقات الإجتماعية العراقية، وبـدأت جفوة حادة بين رفاق الأمس واليوم، حتى أن الكاتب محمد السعدي يلمس ذلك لمس اليـد، فيقول في ذلك :” كنت قادماً إلى دمشق، حالماً بوضعٍ سياسي آخر، يكون أكثر وعياً وتسامحاً وعمقاً، مما حـدا بـهِ لأن يقول:” هـناك وهـم كبير جداً، عند بعض الناس، بـأن الشيوعيّين يتفرّدون بخصالٍ تنظيمية، بعيدة عن البيروقراطية والإقصاء والتشهير، فلم نكن إلاّ جُـزءاً من مجتمع مضطرب، يشكو عـقدة صراع بين البداوة والحداثة، وبين الجذر الديني ونهـج العلمانية، إذ نتباهى بالإستهـزاء بمعتقدات الآخرين، بعيداً عـن رؤية موضوعية وفهم ذاتي، لمتطلبات السياسة والعصر والبناء، وما زالت تلك الأحداث حاضرة في ذاكرتي، ربما لبشاعة تفاصيلها ونحن رفاق حزبٍ واحـد ” /ص252 .
* هـذه الشواهـد والأحداث تُـضَـبِّب من رؤية المتابع للأحداث السياسية التي نشاهـدها، وهـو يختلط بالسياسيّين العراقيين والمهجرين الآخرين، وهو يستمع إلى أحاديثهم ونشاطاتهم الإجتماعية والثقافية، الأمر الذي يفقـد بوصلة التركيز على ماهـو رئيسي وما هـو ثانوي، فقـد اختلطت الحبال مع بعضها البعض، الأمر الذي أشكل على صاحبنا محمد السعدي لأن يقف على أسباب هذا التنافر السياسي والإجتماعي داخل الشيوعيين العراقيين وتجمعلاتهم في في أرض الشام، ولذلك عـمـد إلى الألتقاء بالوجوه السياسية المختلفة مع سياسة الحزب، وهـم كـل مـن : عامر عبدالله، حسين سلطان، باقر إبراهيم، عبد الوهاب طاهر، بهاء الدين نوري، عبد الحسين شعبان، غضبان السعد، عبد الرحمن القصّـاب وآخرين،بمستويات مختلفة من الرفاق خارج التنظيم أو داخله، فالأمر سيّـان” ثم يضيف الكاتب : كنتُ اسمع منهم في الأماسي اللّـيلية، ومقاهي الروضة والهـافانا، وإستقراءات عـن الوضع السياسي العراقي ومجريات الحرب العراقية، والموقف من النظام، ووقائع المؤتمر الرابع، والصراع الداخلي، وموضوع الحوار مع البعث وقيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، تماماً غير الذي كنا نقـرأهُ في أدبيات الحزب وصحافته اليومية، والتوجيهات الحزبية التي كانت تصلنا إلى كردستان في الجبل، وأيضاً أيام العمل الحزبي أيام الجبهة الوطنية.” /ص252 -253 .
* إن تجربة التواجد على أرض الشام، عـند كادرٍ حزبي ومثقّـف، تجعل من قراءة المشهـد السياسي والإجتماعي تنطلق من زاوية أخرى مختلفة، فما بالك من رفيق خارج من تجربة قاسية جـداً، عاشها بين صفوف رفاق مقاتلين، عاشوا تجربة الأنصار بشكل مختلف وأكثر قسوة من حياة الرفاق المدنيين، وهـو ما عاناه صاحبنا محمد السعدي، حين تشاكلت الرؤى عليه من أرض الشام، فما كان يستلمه من ” التوجيهات الحزبية” داخل المنطقة الجبلية، يختلف كُـليّـاً، وهـو خارج صفوف الحزب، من الناحية التنظيمية، وقناعاته السياسية قـد اهـتزّت تماماً من ” ممارسات خاطئة” واجهته وواجهت غيره من الرفاق، فانخلق حاجزاً نفسياً بينه وبين التنظيم، وبين من يشرفون عليه، وازدادت درجة الشكّ لديه، بعـد أن رأى ” ممارسات وتوجهـات” تمسّ الثابت الأخلاقي والسياسي في التزامه العقائدي، وفي سلوكهِ وممارساته، فازداد التوجّـس، وارتفعت وتيرته في داخل نفسه، فما عـاد يؤمن بذلك الحزب الذي كان ينتمي إليه، وقـدّم من أجلهِ تلك التضحيات الكبيرة، وبمجرّد اختلفت زاوية الرؤية لديه عـن الحزب، اختلف التوجّـه ضدّه، ممارسة وسلوك، وهـو الأمر الذي دفعه لأن يتلمّس مواضع قدميه في كل خطوةٍ يخطوها بأرض الشام. وبغـية فهم آراء مختلف الجهـات الشيوعية ” المنشقّـة” من الحزب، راح الكاتب محمد السعدي، يطلّلع على بعض منشورات هذه الحركات السياسية، فقد اطّـلع على منشورات ” المنبر الشيوعي” تلك الحركة التي كانت بتوجيهٍ يختلف عـن توجّهات القيادات الرسمية للحزب، حيث انطلقت هـذه الحركة السياسية، بعـد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي، وقـد ضمّت كل من : ماجـد عبد الرضا، ونوري عبد الرزاق، ومهدي الحافظ، وعبد الحسين شعبان، وعشرات غيرهم من الرفاق، ومن مستوياتٍ مختلفة، وكانت بعض القيادات الحزبية المتقدمة، والتي تم تنحيتها في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ، كانت تتعاطف مع “هذه الحركة” حيث عُـرفت هـذه المجموعة بموقفها الوطني من الحرب العراقية – الإيرانية، وتُـنـدّد بالمشروع الإيراني./ص253
* في تلك الجموع السياسية المنقسمة والمنشطرة من جسم الحزب الشيوعي العراقي، كان حضورها واضحاً على الساحة السورية، ولها رموزها وأعـلامها ومثقفيها، الأمر الذي دعـا صاحبنا محمد السعدي، لأن يرتاب ويرتعـد ممّـا رأى، فراح يعيد النظر بتاريخ الحزب، بدءاً من عام 1963م، وبالمسيرة النضالية للحزب، وكيف وصلت الأمور إلى هـذه الحالة، وبهـذه القسوة التي تتعامل بها مع رفاق الحزب القدماءوكبار السِـن، لمجرّد الخلاف في وجهات النظر حول السياسة والموقف من بعض الحالات، حتى أنّـه بدأ يعيد النظر بالكامل بإنتمائه السياسي والفكري، بعدما لاحظ ما جرى، ومورس ضد الرفيق حسين سلطان ” أبو علي” من قبل رفاقه في اللجنة المركزية، “حيث سيكتب التاريخ عـنه بألمٍ وإدانة وعار”. إن هـذا الرفيق قـد أفنى حياته من أجل الحزب، وقـدّم أبناءه شهداء للحزب، وهـو في سِـنٍ طاعنة وقـد ” قُـطعت عـنه – المعونات المالية- والتي كانت مصدر معاشهِ الوحيد، وقـد تـآمرت عليه قـيادة الحزب في دمشق، وقاطعوه حزبيّـاً واجتماعيّـاً، وسعوا على تشويه تـاريخه ومواقـفه الوطنية، وهي ” جريمة حزبية” يعاقب عليها النظام الداخلي، كما يقول الكاتب . / ص253 .
* لقـد وصلت الخِـسّـة ببعض قيادات الحزب لأن تكتب ” تقـارير سياسية كيدية” إلى الجهات السورية الأمنية، واصفة رفاق الأمس بشتّـى التُـهـم الكيدية، لدوافع وأجـندات ومصالح وأهـداف للقضاء على ” بـريق الحزب وتاريخه النضالي” كما يقول الكاتب . /ص254 .
ويستـشـيط الكاتب غضباً من هـذه السلوكيات الشائنـة، حتى أنه يقول: ” لم يُـكتب التـاريخ بأمـانة، طالما هُـناك إنتهـازيون ومنافقون ومُـتملّقون وصبيان، يعتبرون باقر إبراهيم وحسين سلطان وعامر عبدالله وبهاء الدين نوري، وآرا خـاجادور وغيرهم، متعـاونين مع الجلاّد، وقـد تمَّ تهـميشهـم ودورهم في صناعة هـذا التاريخ الشيوعي العراقي، لأنّـهم عـبّروا عـن موقفهم النضالي من محـنة الوطن، أو خـلافات فكرية، أدّت بهم إلى خارج حلبة التـنظيم، وهـؤلاء وغيرهم عشرات الكوادر المتقدمة، يبقون جـزءاً مهـماً من تاريخ الحزب الشيوعي وضميره، فـقـد جسّـد هـؤلاء معايير الأخـلاق في الحياة والرفقة النضالية” /ص255 .
وعلى ضوءِ تلك التناقضات والسلوكيات المشينة، يتذكّـر الكاتب صدى وسمعة الشيوعيين الأوائل، “عندما كانت الجماهير تتلهّـف لسماع صوتنا ووجودنا، لكننا أخفقنا في تحمّـل هـذه المسؤولية الوطنية، وفراغ الشارع العراقي من قـوّة مؤثّـرة، فقد ذهبت هذه الجماهبر يائسة إلة ” تنظيمات أحزاب الإسلام السياسي المتخلّفـة، لتخلق لك نِـدّاً جـديداً في العمل السياسي تحت يافطـة ( العملية السياسية الطائفية الأمريكية). والكاتب يعتقـد أنـه ” كان واجباً علينا أن نُـدين هـذه العملية السياسية ونرفض الجلوس على مقاعِـدها الركيكة، جُـملةً وتفصيلا، بعيداً عـن أيّـةِ صياغاتٍ فلسفية، تُـرهـن بها مواقفك، وتُـضيّـع بوصلتك النضالية والتاريخية” / ص255 .
وأزاء هـذه الأوضاع “ضاع الطاس والحمّـام”، حيث اشترك الجميع في عملية سياسية طائفية، دون أن يُـرى أيَّ مشروع وطني من هـذا الحزب أو ذاك .
*ظلّت هـذه التداعيات المتلاحقة، تضغط على تفكير الكاتب محمد السعدي، وجعلته يستغرق في تفكيرٍ عميق، يستعيد من خلاله ” حُـلماً” بمشروعٍ وطني، يجمع حوله كل طاقات أبناء العراق الخلاّقـة، وليس الوقوف عاجزين حمل السلاح لمواجهة المحتل الأمريكي،وفضح نـواياه وتعرية أساليبه، هـذ الإخفاق النضالي – السياسي في إعـلان موقف صريح من الأحداث، مُـقـترناً بمواقف عملية، تُـبرهـن صدق نيّـتنا في حملِ هـذا المشروع المضاد لمشاريع الإسلام السياسي المتخلّف عن روح المواطنة وقـيم الوطن، وهـذا ” بـرهـانٌ آخر على غيابنا الفعلي في الشارع العراقي، وضعف بصيرتنا” كما يقول الكاتب. / ص256 .
* في دمشق،تـداخلت النظريات السياسية، الماركسية والقومية والبعثية، ونظريات الإسلام السياسي، حيث أنـهـا خلقت آراءً حـادة ومتناقضة، بين غالبية الفصائل السياسية المعارضة، وانعكس الموقف على الشيوعيين بشكلٍ خاصن حيث ظهـرت ” نـزعـة الدفاع عـن الوطـن” بشكلٍ صادق عـند الكثير من الق5يادات الشيوعية المعارضة، أو المنسجمة مع الحزب الشيوعي الرسمي، وقـد تصدرت قائمة المعارضة هـذه كل من ” الرفيق زكي خيري، باقر إبراهيم، عامر عبدالله، آرا خـاجادور، ماجد عبد الرضا، نـوري عبد الرزاق، مهدي الحافظ، عبد الحسين شعبان، عـدنان عباس، ورفاق آخرون من الكادر الحزبي المتقدّم .
وقـ حاولت ” قيادة عزيز محمد وفخـري كريم زنكَـنة” الإساءة إلى هـؤلاء الرموز الوطنية، ومحاولة ” تسويق مشاريع وأجـندات تستهـدف وحدة العراق وأراضيه” ./ راجع ص258 – 259
بـدأت هذه الأجواء تعكّـر صفوَ الناس وتضعف عتزائمهم، حتى بـدأت موجات من الناس تتهـيأ للخروج من دمشق، فحـالات البطالة وضنك العيش، كانت تـدفع الكثيرين للمغادرة والخلاص من ” بـؤرة دمشق” وكثرة القيل والقال فيها، لذلك شعر صاحبنا ” محمد السعدي” بضرورة الرحيل من دمشق، وقـد ساعده في ذلك الرفيق عامر عبدالله بالحصول على ” جـواز سفر “من جمهـورية اليمن الجنوبية، فتوجّـه إلى براغ أولاً ووصلها بتاريخ 15/ أيار/ 1989، حيث كان باستقباله الرفيق عامر عبدالله وآخرين،، حيث كانت تعقد بعض المشاورات السياسية لمختلف القوى الشيوعية لإيجاد ” مشروع للمصالحة الوطنية، بين رفاق الحزب الشيوعي وسلطة البعث، والعـودة من جـديد إلى ” ميثاق الجبهة الوطنية” وكان الوسيط في هـذه المساعي د. مكرّم الطالباني، لكن المشروع أُحـبط من قبل ” عزيز محمد وجماعته، فتوقّـف كل شئ”/ ص262 .
* بعد ذلك تفجّـر الموقف داخل الحزب الشيوعي العراقي، بسبب تباين الآراء والمواقف، وما صدر من بيانات للقوى والتيارات السياسية الأخرى المعارضة لساسة الحزب الشيوعي، وقـد كانت ” رسائل الرفيق عامر عبدالله وباقر إبراهيم، وعـدد آخر من القيادات الشيوعية السابقة، إضافة إلى ما تنشرهُ ( جريدة المنبر الشيوعي) من مطارحات ونقاشات فكرية وسياسية، خصوصاً حول مسألة ” الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية” / راجع ص264 .
* عندما تتكـرّر الأخطاء في حركة سياسية، يتوجّـب على أقطابها مراجعة المواقف والمنعطفات التاريخية التي حصلت فيها، وهـذه المسألة شغلت تفكير الكثير من السياسيّين العراقيين، لا سيما مسألة ” تحالف الشيوعيين مع البعثيين” وما نتج عنها من مآسي وتـدهـور لحالة العراق السياسية، لذلك يستعرض الكاتب محمد السعدي تـداعيات هـذه الحالة بتوسعٍ واستفاضة . / راجع ص265 – 274 .
* السـويـد- المحـطـّـة الأخيرة وإعـادة التفكـير :
رحلة النضال السياسية والإجتماعية، عـند الكثير من الشيوعيين العراقيين، رست بهم في المنافي الأوربية والأمريكية، بين مهـاجرٍ ولاجئ إنساني، في هـذا البلد أو ذاك، وضاعت الأحلام النرجسية والوردية للنضال الثوري، وراح البعض منهم يسـتدرك ما تبقّـى من عُـمرهِ، ليكمل بقية حياته بهـدوءٍ ووقـار، بعـد أن تبخّـرت كل الطموحات الثورية، وصارت الأحـلام ضربـاً من الخيال .
وحين تستقـر الحـواس وتهـدأ، يبدا العقل بمراجعـة كل أفعال النفس، بغية معرفة ما فات من العُـمر، وما تحقّـق من أُمنياتٍ ومشاريع وأحـلام كانت ترسِـمُ أُفقـاً لزمانٍ مضى وانقضى، وتـبدأ حالة التـداعي لما مَـرَّ وفـات، وأوّل تلك الحالات تـبدأ بالحضور هي ” سِـني النضال المهـدورة” وما رافقهـا من إخفاقات ونجاحات، وسِـجلاّت العمر تنفـتحُ على قـراءة اللّـوحات المنكسرة في النفس، أو تلك التي أصابها التـشـوّه وعـلاهـا غِـبار السنين.
* والسـويد/ كانت حُـلماً يراود غـالبية العراقيين الذين مـرّوا بدمشق، كمحطّـةٍ إجبارية، رأينا فيها ما كان مُـخبّـئٌ لـنا من غير حساب، وحين وصلَ صاحبنا محمد السعدي إلى السويـد بتأريخ 3 / 6 / 1989م ، لم يكـن يُـصدّق لحظة وصولهِ، وكان الشـكُّ يطبق عليه، بعـد أن تـرجّـلَ من سفينة النقل البحرية، والتي أقـلّـتهُ من بولونيا، تتـثاقـل الخُـطى عـند النزول والتوجّـه إلى ” كـابينة تـدقيق الجـوازات” وبعـد أسئلة روتينية، تـم نقلهِ إلى فندقٍ وسط المدينة، كان مخصّـصاً إلى اللاّجين من مختلف الجنسيات . / ص275 . بعـد إسبوعين حصل على الإقامة في السويد ، كلاجئ سياسي، ومن بعـدها ” نزل إلى الحياة العملية، دون انتظار المساعدات المالية” من الدوائر السويدية، وهـناك بـدأت ” ملامح الأفكار السياسية” تعيد شجونها إلى مُخيّـلتهِ، فقـد ساهم بعـدّة نشاطات ونـدواتٍ وكتابات، وتوقيع بيانات كانت تُـدين أيَّ خـدشٍ يمسُّ وحـدة العراق وتاريخه، متقاطعاً بوجهات نظرهِ مـع مَـنْ راهـن ورهـنَ موقفه في التعويل على ” العامل الخارجي” /ص276 ، ولذلك راوده الحنين إلى العمل السياسي مرّةً أخرى، حيث بـدأَ في منتصف عام 1989م مع مجموعة من الوطنيين العراقين بتكوين ” تيار وطني للـدفاع عـن العراق أمام العالم، والوقوف ضد الحصار، ومعارضة احتلاله وعمليته الطائفية ومحاربة رموزهـا ./ ص276 .
* ضمن حالات الـتداعي التي رافقت تفكير كاتبنا محمد السعدي هي ” كارثة غـزو الكويت” وما قام بـهِ ( قـائد متغطرس، يجهل أبجديات القيادة) مما أوقع العراق بكارثةٍ سياسية واجتماعية، لم نخلص من نتائجها حتى اللّـحظة.
وحالة تسحب حـالة، في هـذا التـداعي، راح يستحضر الكاتب لحظة وصول ” صدام حسين للسلطة، وكيفيّـة قيامه بمذبحة رفاقهِ البعثيين بمسرحية قـاعـة الخـلد ببغـداد عام 1979، بعـد أن أجبر أحمد حسن البكر على الإستقالة من منصبهِ، ثم قيامهِ بإشعال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988 ، ثم قيامه بحالة الحصار على الشيوعيين العراقيين، وإجبارهم على التوقيع على ” قانون رقم 200 ” هذا القانون الذي ظلَّ سارياً حتى سقوط النظام الفاشي عام 2003م . / ص282 .
* تضغـط الحالة الإجتماعية التي مـرَّ بها المجتمع العراقي، على حالة التفكير المتأمّـل التي كان يعيشها صاحبنا محمد السعدي وهو في السويد، فهـو ينظر إلى ” الشخصية العراقية” بوصفها ” صانعـة الطواغيت” ، كما أنه يعتقد ” أن العراقيين هُـم الأكثر قرباً في احتراف هذه الصناعة من خلال ” رسومات السياسة العراقية التي انعكست مع الوقت على بُـنية وتكوين سايكولوجية الفرد العراقي، حيث بات الفرد يشعر أنّـهُ متّـهم ومشتبهٌ بـهِ” في ظل الدولة الفاشية للبعث. / ص285 .
* حـالة الإنتماء للحزب الشيوعي العراقي، جعلت الكاتب محمد السعدي أن يقـرأ ” لوحـة إنتمائه السياسي” بشئ من المراجعة العنيفة للذات وللتنظيم، وخصوصاً فترة ما بعد منتصف السبعينات من القرن الماضي، حينما حاصر البعث كل منظمات الحزب الشيوعي ، وجعلهم خارج حـدود الوطن، ولا تـأثير لهم في الداخل. حتى أنه يقول :” في مطلع الثمانينات لم يعد لنا وجود رسمي ولا قانوني ولا جماهيري بفعل وطأة النظام علينا” / ص286 / ولم يعُـد للجبهـةِ من وجودٍ فاعل، والسياسة في العراق- كما يصفهـا – عبارة عن صفقات وهـزائم ونفاق، وكـذب وارنزاق، وهـي بعيدة عن الصدقِ والوطن . / ص288 .
* ومـن التـداعيات المؤلمة في السويـد، ما يُـعرّج على ذكره الكاتب محمد السعدي في ص299 ،بأن ” منظمة الحزب الشيوعي العراقي ( في السويد) قـدّمت تقريراً إلى ” الجهات الأمنية السويدية” تتّــهم فيه السيد باقر إبراهيم، بـأنـه كان يخاطب أجهزة نظام البعث ” مما استدعى السلطات السويدية إلى التحقيق معه، وحين شرح لهم ” أبو خولة” رؤيته الوطنية في الدفاع عـن العراق، أرضاً وشعباً” إعـتذرت منه تلك السلطات السويدية، حتى أن بعضهم اعتذر منه وقال ” لو كُـنّـا في موقعك، وتعرّض بلدنا إلى هذه الهجمة الشرسة، وفرض الحصار الجائر، لوقفنا بمستوى موقفك” ثم ودّعـوه بسلام حار، وشـدّوا على يـديه، وأخذوا منه بتقدير، نُـسخاً من كتاباته ونشاطه وتاريخه السياسي ” راجع ص300 .
* ومن تلك الـتداعيات أيضاً في السويد، يبـدأ الكاتب محمد السعدي ” بـتقـيّـيم تجربتهِ الشيوعية” ويتوقّـف عـد فهمهِ لمعنى ” الشيوعية” فهي عـنده : الشيوعية هـي الوطن، ولكي تعلو إلى هـذا المقام وهذا الإنتماء، فـإن الوطن بوصلة عالية وغالية، لا يمكن المساومة عليه” ص309 .
* سيل التـداعيات في المغترب السويدي، تجعل الكاتب يستحضر بعض ذكرياته عـندما كان في جبال شمال العراق، وكيف أنه ” التقى بمجموعـة انشقّـت عن الحزب الشيوعي العراقي، عُـرفت بإسم ” الشيوعيين الثوريين” حيث كان هـؤلاء يتواجدون ضمن مقرات ” الإتحاد الوطني الكردستاني ” وكانوا يقضون جُـل وقتهم في القراءة والمتابعة، وإصدار بعض البيانات حول تطورات الأحداث، وهـؤلاء كانوا من جماعة ” سـليم الفخري” ذلك الضابط الشيوعي السابق، والذي خرج من الحزب إعـتراضاً على خـط آب 1964 المعروف، والداعي إلى الإنخراط والإنـدماج مع الإتحاد الإشتراكي العربي، وهـذه المجموعة تأسّـست في بيروت عام 1979، ودخلت إلى كردستان بشخصين هُـما ” زُهـير – رياض جاسم جابر، وآخر إسمهُ ” سالم” وقـد تـمَّ اغتيالهما بمسدسٍ كاتمٍ للصوت، من قبل عـناصر مُـندسّـة في الحزب الإشتراكي الكردستاني( ح س ك) والمعروفة بإسم ” جماعة رسول مامند” ، وقبورهم مازالت موجودة في ناحية ” زلي” في منطقة ” دلتو” خلف جبل مامـنـد ” / ص311 .
* تـداعيات الحـالة النفسية في بغـداد .
لم تكن العاصمة العراقية بغـداد غائبة عـن تـداعيات كاتبنا محمد السعدي، فهي القلق الأكثر حضوراً في وعـيه وفي لاوعيه، لذلك نراه يفرد لها ” فصلاً كبيراً، يمتـد من ص312 – 342 ، ويكاد يكون هذا الفصل بمثابة ” خلاصة الكتاب” ففيـه تـداعيات الحالة السياسية والإجتماعية والثقافية، وتنساب فيه الذكريات واحدة تلو الأخرى، ففي شباط 2004 ، قـرّر صاحبنا العودة إلى بغـداد، قادماً من إستوكهـلوم، بعـد ثلاثين سنة من النضال والمنفى والمكابدة والمعاناة واليأس من مشروعات الأمس، والضياع التاريخي، وغصّـة التساؤلات المشروعة، وكيفية ضياع سنوات العُـمر والتضحيات الجسيمة، والمفاهيم المغلوطة لمعنى ” الطليعة الثورية” والتي أفـقـدتنا الوطن، ومسيرة مُـتلكئة، وعملية سياسية فاسدة وباطلة، أجراها وعمّـدهـا الإحتلال بأيـادٍ محليّـة” /ص312 .
* كانت الطُغـمة الفاسدة بقيادة البعث الفاشي، هي التي قادتنا وقـادت العراق إلى هـذا الدمار الشامل، والذي أصاب البلد والمجتمع بهذا بهـذا التدهـور، فـأزلام البعث، بعـد أن أسقطوا الدولة والنظام، أبـدلوا ” بـدلاتهم الزيتونية” بِـجُبّـةٍ وعمامـة ومحابس عقيق، وتـصدروا أجندة التخريب والتقسيم والفساد والقتل. / ص318 .
* وضمن تـداعيات الموقف في بغـداد، تبرز الأسئلة حاملةً معها مشاهـدات الكاتب من خراب ودمار، وكيف أصبحت هـذه المدينة الجميلة وشوارعها مـكبّـاً للنفايات، فتعـود به الذكريات وحديثه مع الرفيق باقر إبراهيم، حين سـأله :أين كـنتم في تلك المرحلة! أولم تفكروا بإستلام السلطة!؟ فيجيب باقر إبراهيم ” كُـنّـا نعـاني من إنقسامات وانشقاقات من جهة، ومواقف رفاقنا السـوفيت في اتجاه مـدّ الجسور الوديّة مع ساسة الحكومات المتعاقبة على حكم العراق، من جهةٍ أخرى “/ ص323 .
* تـتـداعى الأسئلة الحيرى أكثر ، حين يتوجّـه الكاتب إلى ملاعب طفولته ” قريـة الهـويدر”، تلك القرية التي نشأ فيها، وكان السؤال المُـقلق أكثر : لماذا حدث انشقاق الحزب عام 1967، وكيف بـرزت قيادة جديدة سُـمّيت ( القيادة المركزية ) ؟ / ص323 .
* * *
* الخـلاصــة :
من يقـرأ هـذا الكتاب ( بيـني وبين نفسي ) للكاتب محمد السعدي، فـإنه سيقف على تجربة نضالية قاسية، لا تشمل تجربتهِ وحـده، بل تنسحبُ على آلاف الشيوعيين العراقيين، الذين تركوا مواقعهم في الحزب الشيوعي العراقي، ولكن القاسم المشترك بين هـؤلاء وتجربة ” محمد السعدي” تكاد تجـد لها تطابقاتٍ واضحة بينهم، من حيث السلوك الخاطئ للحزب الشيوعي مع هـذه الآلاف من الكوادر، الامر الذي يعكس خلخلة البُـنـية الفكرية والتنظيمية لدى قيادات الحزب الشيوعي، في كثير من المنعطفات التاريخية والسياسية، وهـو ما يجد صداهُ بوضوحٍ في هـذا الكتاب.
* تُـشكِّل هذه التجربة، وفق انعكاساتها، تجربةً ذات خصوصية، لامست بمجرياتها، جروح آلاف المناضلين عـن قرب، ورسمت معالم حياتهم السياسية والنضالية بـدقّـةٍ عالية، بحكم وجود صاحب التجربة، بالقرب من أصحاب القرار السياسي والتنظيمي، ويصح القـول أن هـذا العـمل خِـبرة نضالية مُـستقاة من الحياة اليومية للمناضلين الشيوعيين العراقيين، في مختلف ظروف العراق السياسية والإجتماعية، لا سيما في فترة صعود البعث الفاشي إلى السلطة السياسية في العـراق، بِـدءاً من تجربتهم عام 1973م وحتى سقوطهم على يـد الإحتلال الأمريكي للعـراق عام 2003م ،
* تكشف هذه التجربة، مـدى تخلّف بعض القيادات السياسية في الحزب الشيوعي العراقي، من الناحية الفكرية والتنظيمية، الأمر الذي يعكس مقدار حـالة الغضب، عـند شيوعي القاعـدة في الحزب، الأمر الذي أدّى إلى ” إنشقاقات وتكتلات تاريخية” لم يجرِ معالجتها بشكلٍ فكري وتنظيمي ، وظهرت صور هـذا التناقض في انهيار تجربة الحزب الشيوعي العراقي مع البعـثيّين في تجربة ” الجبهة الوطنية”، الأمر الذي جـرَّ الويلات على مناضلي الحزب الشيوعي ، وانعكس بتراكماته على صيرورة النضال السياسي في تجربة ” حركة الأنصار الشيوعيين” في المنطقة الكردية في شمال العراق.
* يعكس الكتـاب بمرارة واضحة، الضُعف النظري والتنظيمي لغالبية القيادات السياسية في تجربة ” الكفاح المسلّح” وكان من نتيجتهِ بـروز ” النـزعـة القـومية الكردية” عـند الشيوعيين الأكراد، وظهر هـذا واضحاً في ” أحـداث مجزرة بشت آشان” عان 1983، حيث ظهر هـذا السلوك في ” البيان السياسي ، الذي كتبه ” كريم أحمد، وأحمد باني خيلاني” وهما من القيادات الكردية في قيادة الحزب، وقـد اعتبرته القاعدة الحزبية ” بيـان الخيانـة” وقد استطاع الكاتب محمد السعدي من تسليط الأضواء على هـذه المجزرة البشعة، والتي قام بها بها ” الإتحاد الوطني الكردستاني ” بقيادة جـلال الطلباني، الذي تواطئ مع السلطات العراقية البعثية، في تنـفيذ هـذه المجزرة .
* إستطاع الكاتب من توضيح ” ردود الأفعال ” في القاعـدة الحزبية، على مهـادنة الحزب الشيوعي العراقي لجلال الطلباني وعـدم إدانته وإدانة حزبه “لمجزرة بشت آشان” وحتى هـذه اللّحظة، وعلى ضوءها زادت الإنشقاقات في الحزب الشيوعي، وظهرت عِـدّة تيارات في المنطقة الكردية في شمال العراق.
* تغـافل الكاتب – لأسبابٍ لا نعرفهـا – عـن عـدم توقّـفهِ مع مسألة” إنشقاق الحزب الشيوعي الكردستاني” من جسم الحزب، بتواطئ واضح من أعضاء اللجنة المركزية الأكراد ، الموجودين في قيادة الحزب الشيوعي العراقي، ولم يذكر الكاتب هـذه المسألة على الإطـلاق ! .
* كشف الكاتب بوضوح، مقدار حـالات الإختراق السياسي والأمني من قبل أجهـزة المخابرات العراقية، وكيف جعلت من ” رفاق الحزب” بـدرجاتٍ متفاوتـة، أن يكونوا ” عُـملاء للنظـام” وعملوا على إيجاد ” شبكاتٍ سـريّة للعملاء” داخل تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، الأمر الذي زاد الطين بِـلّـةً في تضعضع كيان الحزب الشيوعي، وجعله أن يفقـد رصيده الجماهيري بين طبقات المجتمع، نـاهيك عـن حالات الإستقالات شبه الجماعية، أو ترك مواقع النضال السياسي ، بشكلٍ أو بـآخر.
* يمكن لـهذا العمل أن يُـشكِّلَ ” وثيقة سياسية لشاهـد عيان” تُفيد عـلم ” الساسيولوجيا والأنثروبولوجيا” للتأشيرِ على حـالات الوعي والتطور السياسي والإجتماعي ، لأعرق حركة سياسية في الشرق الأوسط. ففي بعض الفصول، يعمـد الكاتب إلى كشف إنتـماءات الأعضاء في الحزب، وإلى درجة تطورهم السياسي والثقافي، ويميل كذلك إلى ” بساطة الإنتماء الطبقي” إلى جمهرةٍ واسعة من الناس الذين دفعوا أبناءهـم للإنتماء إلى هـذا الحزب، وقـدّموا حياتهم قُـرباناً من أجلِ مبادئهِ .
* يحمل هـذا العمل ” صفحاتٍ كثيرة يمكن أن توظّـف في ” عمل درامي” لمسلسلٍ تيليفزيوني، نظراً لكثرة الأحداث والشخصيات فيه، والحوارات في مختلف وجوه الحياة اليومية والسياسية من مختلف الزوايا، فقـط يحتاج العمل إلى ” مخرجٍ بـارعٍ” ليعيد صياغـة الحكاية في ” سيناريو” سياسي، يكشف فيه مـراحل تاريخية، من تطوّر حالة العمل السياسي في العراق، بين السلطة والمعارضة، ويكشف من جانبٍ آخر، مـدى حـالة التناقض في بُـنية الحزب الشيوعي، من الناحية النظرية والعملية، حيث هُـناك ” آراءً” في القاعدة الحزبية، أنضج بكثير من قيادة الحزب ولجنته المركزي.
* يحسب للكاتب محمد السعدي، في هـذا العمل، جُـرأتـهِ في كشف الحقائق السياسية التي تعرّض لها في أقبية ” المخابرات العراقية ” وطرحها على القـارئ بكل وضوح وقناعـة .
* * *
د. خيرالله سعيد / أوتــاوا 15/ شباط/ 2022 .