أحمد بن بلّة… الطهرّية الثورية
عبد الحسين شعبان
كان أول مرّة ألتقي بها بالزعيم الجزائري أحمد بن بلّة في العام 1999، وكنت في جنيف، وعلى هامش مؤتمر دُعيت إليه من جانب وزير خارجية سويسرا جوزيف دايس، بمناسبة الذكرى الـ50 لتوقيع اتفاقيات جنيف الأربع في 12 آب/أغسطس 1949، في إطار مجموعة “خبراء المجتمع المدني”، علماً أن الاجتماع الرسمي الذي يمثّل الحكومات قد ألغيّ بعد 10 دقائق من بدئه بسبب معارضة الولايات المتحدة لانعقاده ممالأةً لإسرائيل التي تقف موقفاً سلبياً من اتفاقيات جنيف، وخصوصاً ملحقَيها: الأول الذي إعتبر الاستيطان جريمة دولية، وهو البروتوكول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلّحة. أما البروتوكول الثاني فهو الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية، وكلاهما صادران عن المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف 1974 – 1977 مع دعوة لتطويرها وجعلها أكثر استجابة للتطورات والمتغيّرات الدولية.
وعلى الرغم من انفضاض المؤتمر الرسمي (الحكومي) إلّا أننا واصلنا اجتماعنا وأضفنا نقطة جديدة على جدول أعمالنا ألا وهي التغوّل الدولي للقِوى المتنفّذة، ومحاولة فرض رأيها على الاجتماع الأمميّ، وهكذا استثمرت مجموعة الخبراء في المجتمع المدني فرصة اجتماعها في مبنى الأمم المتحدة، لإصدار عدد من القرارات والتوصيات التي رفعتها إلى الأمم المتحدة بمناسبة مرور خمسة عقود على إبرام اتفاقية جنيف.
وقفتُ أمام بن بلّة، أتفحصه قبل أنّ نجلس ونتحدث في همومنا المشتركة، وكان يحضر معي تاريخ طويل وعويص من الذكريات والحكايا والقصص عن الثورة الجزائرية التي اندلعت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، ففي أول تفتح وعييّ كنت أهتف مع أبناء جيلي في العراق للثورة الجزائرية ولأحمد بن بلّة (أحمد بن بلّة… يسوه العرب كلّه) وكم كانت مؤثرة عملية اختطاف الطائرة من جانب المخابرات الفرنسية خلال تحليقها من الرباط إلى تونس وعلى متنها خمسة من قادة ثورة التحرير الجزائرية وهم: أحمد بن بلّة ومحمد خيضر وحسين آية أحمد ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف، وذلك في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 1956.
الجزائر وثورة تموز العراقية
شهدت الأشهر الأولى لثورة 14 تموز/يوليو 1958، تعاطفاً منقطع النظير وانعطافة كبيرة باتجاه الثورة الجزائرية، حتى أنّ الزعيم عبد الكريم قاسم أعلن دعمه وتزويده الجزائر بالأسلحة والمعدّات ومساعدتها بالأموال أيضاً، وذلك استكمالاً لجهود القاهرة وجمال عبد الناصر في دعم ثورة الجزائر، وحين قررّت الجزائر بعد توقيع “اتفاقية إيفيان” في العام 1962 مع فرنسا ونالت بموجبها استقلالها، دخول معركة التعريب، تطوّع الآلاف من الأساتذة والمدّرسين العراقيين في تلبية نداء العروبة والواجب، للقيام بهذه المهمة النبيلة، وذلك فرحاً واغتباطاً باستعادة هذا البلد العربي، الأصيل والمكافح، هوّيته وروحه.
وقد قام الصديق الدكتور عثمان سعديّ سفير الجزائر في العراق في السبعينيات باقتفاء أثر الثورة الجزائرية في الشعر العراقي، وكان حصيلة عمله الموسوعيّ أن وجد 255 قصيدة نظمها 107 شاعراً وشاعرة “عراقيون”.
ومن بين هؤلاء الشعراء الكبار: الجواهري وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة. ويتألف كتاب عثمان سعدي من نحو 1000 صفحة، وطبع في جزئين (ثلاث طبعات) عن وزارة الثقافة الجزائرية.
تظاهرة شيوعية
وإذا كنت أنسى فلا أنسَى التظاهرة التي نظمًها الحزب الشيوعي العراقي والتي كانت تهتف للجزائر وثورتها وعروبتها وذلك خلال “مباحثات إيفيان” مع فرنسا وهدفها التضامن مع الشعب الجزائري والضغط على المجتمع الدولي للإسراع في منح الجزائر استقلالها، خصوصاً بعد أن فشلت محاولات الاستعمار الفرنسي في “فرنسة الجزائر” وتهميش هوّيتها ولغتها، من جهة، ومن جهة أخرى إخفاق فرنسا في قمعها للثورة الجزائرية، وفلّ عزيمة الثوار، سواء من جانب الجيش الفرنسي أو قوات “الكوماندوز” والمظليين والمرتزقة من جنسيات متعددة، أو المستوطنين الذين شكلوا منظمة سريّة باسم “اليد الحمراء” لخطف المناضلين الجزائريين وتعذيبهم. ولا يفوتني إلا أن أذكر الضربة القوية التي تعرّضتُ لها على ظهري حين هاجمتنا الشرطة لتفريق صفوفنا واعتقلت عدداً من المشاركين.
أول زيارة للجزائر
كانت أول زيارة لي للجزائر في العام 1982، حيث كنتُ ضمن وفد شعبي عراقي ضمّ: عوني القلمجي ومحمد النهر والمشهداني وإلتحق بنا كاظم حبيب، حيث كان مقيماً في الجزائر، والوفد كان باسم “جوقد” أي (الجبهة الوطنية والقومية الديمقرطية التي تأسست في دمشق نهاية العام 1980، والمجموعة المشار إليها تمثل بعثيين وقوميين وشيوعيين) وقد احتفيّ بنا بشكل خاص وأسكنّا في منطقة (سيدي فرج)، والتقينا فاعليات سياسية ومهنية وأكاديمية جزائرية.
بعد أن قابَلني بن بلّة بابتسامة لا تخلو من مسحة حزن واضحة، سألته كيف قضى أيامه في السجن؟ والتي زادت على أربعة عشر عاماً، فتدفق يتحدث عن معاناته والجحود الذي تعرّض له، وعدم الوفاء من جانب البعض، الأمر الذي ندمتُ عليه وشعرت بالحرج من سؤالي، وهكذا استبدلت الموضوع للحديث عن العراق، فـأشاد بالدور الرسمي العراقي على الرغم من معرفته أنني لست على توافق معه، لكنني كنت أقف بشدّة ضد الحصار المفروض على بلدي وأدين المشاريع الخارجية التي لا تضمرُ للعراق ودّاً، وهدفها بالدرجة الأولى تحقيق مصالحها الأنانية الضيقة ومآربها اللّا أخلاقية، فالحصار فعل إبادة لشعب أعزل وليس عقاباً للحاكم.
واتفقنا على تكثيف الجهود وتعبئة الطاقات وفتح الحوار مع أنشطة وفاعليات دولية حكومية وغير حكومية، للضغط بجميع الوسائل من أجل رفع الحصار المفروض على العراق، وانتهزتُ تلك المقابلة لتأكيد رأييّ بشأن أهمية وضرورة وقف الانتهاكات لحقوق الإنسان والانفتاح على القِوى الوطنية وإجراء إصلاحات داخلية وإطلاق الحريّات وإقرار التعددية والتنوّع وحكم القانون وحلّ القضية الكردية وإعادة المهجرين العراقيين وتعويضهم. وتلك منظومة كنت أدعو إليها، فمواجهة الإمبريالية ومشاريعها تتطلّب خطوات داخلية عملية وانفتاحا على القِوى الوطنية والتخليّ عن نهج احتكار العمل السياسي وقمع الحريات. وهي رسالة كانت رديفاً لخطابي بشأن لاإنسانية الحصار الدولي الجائر الذي تفرضه واشنطن.
ضد الحصار
وصادف حينها، وفي الفترة ذاتها، أن نظّم النادي العربي ورئيسه ضياء الفلكي مؤتمراً في لندن ضد الحصار الدولي الجائر، وبالتعاون مع المؤتمر القومي العربي وزعيمه خيرالدين حسيب، وذلك بعد مؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أتشرّف برئاستها، وكنت قد ألقيت فيه بحثاً بعنوان “الحصار الدولي وتشريع القسوة” تناولت فيه الحصار المفروض على العراق وليبيا والسودان، فضلاً عن الجوانب النظرية والقانونية لكون الحصار عملية إبادة جماعية. وكان من المفترض حضور بن بلّة لهذا المؤتمر، حيث قام أديب الجادر بإيصال الدعوة إليه، لكنّ ظرفاً طارئاً حال دون حضوره، كما علمت.
حق تقرير المصير
أمّا اللقاء الثاني فكان في الجزائر العام 2010، وذلك بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة رقم 1514 بشأن “تصفية الكولونياليّة” الصادر في 14 كانون الأول/ديسمبر 1960، وهو الأمر الذي فتح الباب أمام تطورات حق تقرير المصير على المستوى الكوني، حيث ظل خلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية) أقرب إلى مبدأ أخلاقي أو قيميّ أو مطلب سياسي منه إلى الصيغة القانونية التي كُرست في ميثاق الأمم المتحدة، ولاسيمّا ما تعرضت له البشرية من مآسي خلال الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945، علماً أن وثيقة الأطلسي الصادرة عن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس وزير بريطانيا ونستون تشرشل في العام 1941 لَحظت في أحد بنودها “مبدأ الحقوق المتساوية وحق تقرير المصير للشعوب”، وكانت رافعتان أساسيتان قد ساهمتا في إعلاء مبدأ حق تقرير المصير، وهما:
الرافعة الأولى – هي الحركة اليسارية الاشتراكية وتيارها الأساسي الماركسي الذي تجسدّ في مؤتمر الأممية الثانية – المنعقد في لندن العام 1896، والذي اتخذ قراراً بشأن حق تقرير المصير، حين أعلن “تأييده لحق جميع الأمم في تقرير مصيرها”، وكما أوضح فلاديمير لينين، أن فكرة “حق الأمم في تقرير مصيرها”، تعني بوجه الحصر حق الأمم في الاستقلال بالمعنى السياسي، وفي حرية الانفصال السياسي عن الأمة المتسلّطة المضطهِدة. ومن الناحية العمليّة أيّد البلاشفة استقلال بولندا وفنلندا وأوكرانيا وليتوانيا.
وكان لينين مثل سائر الاشتراكيين يعتقد أن القوميات إحدى مظاهر الحقبة الرأسمالية التي ستزول بزوالها، ولذلك فقد كان خياره قيام الدولة – الأمة وصولاً إلى المجتمع الاشتراكي، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة جديدة وتدقيق أشد ومراجعة نقدية في ضوء التجارب الاشتراكية السابقة، وفي ضوء الواقع وما أفرزه من ظواهر جديدة متداخلة ومتشابكة.
وكان “مرسوم السلام” الذي صدر بعد ثورة تشرين الأول /أكتوبر العام 1917، خطوة متقدّمة على طريق حق تقرير المصير، والذي أكدّ على السلام بلا ضم أو استيلاء على أراضي الغير وإلحاق شعوب أجنبية بالقوّة بها، واعتبر الحرب جريمة ضد الإنسانية، مثلما أكدّ “إعلان حقوق شعوب روسيا” على حق تقرير المصير، بما فيه الانفصال وتكوين دولة مستقلة.
أمّا الرافعة الثانية، فقد كانت إعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون مبادئه الـ14 والتي أكدّت على حق تقرير المصير، ولعبت دوراً كبيراً ومركزياً في تطوّر فكرة حق تقرير المصير على المستوى العالمي، ولاسيمّا خطابه الشهير في الكونغرس الأمريكي في 8 كانون الثاني/يناير 1918، حيث جاء عليها في الفقرة 13 واعتبرها لاحقاً في خطاب ألقاه في شباط/فبرير من العام نفسه مبدأً واجب التطبيق، وحاول إدخالها في عهد عصبة الأمم التي تأسست العام 1919، لكن الظروف لم تكن موآتية لذلك بسبب تحفظات بعض الدول ومصالحها.
وكان أحمد بن بلّة وهو يستمع إلى التحليلات النظرية والعملية، خصوصاً بعد قيام الأمم المتحدة، يستعيد دور الجزائر التاريخي، حتى وإنْ كانت لا تزال حينها تحت الاستعمار الفرنسي، إلّا أن كفاحها ومقاومتها لعبت دوراً كبيراً في بلورة قرار الأمم المتحدة 1514 الصادر في العام 1960 بشأن “تصفية الكولونيالية” وحق تقرير المصير، وهي جدلية مستمرة بحيث أصبح الحق مبدأً قانونياً وسياسياً وإنسانياً، وردَ ذكره أيضاً في العهدين الدوليين الصادرين عن الأمم المتحدة: الأول، في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي دخل حيّز التنفيذ في كانون الثاني/يناير 1976، والثاني، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي دخل حيّز التنفيذ في 23 آذار/مارس 1976، حيث نصّت المادة الأولى من كليهما على حق تقرير المصير.
بهلوي- صدّام
لفتَ أحمد بن بلّة انتباهي إلى أنّ القاعة التي نجتمع فيها، وخصوصاً في جلسة الافتتاح في “قصر المؤتمرات” هي التي ضمّت لقاء شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي حينها صدّام حسين، وذلك بوساطة من الرئيس هواري بومدين ودور متمّيز لوزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، خلال مؤتمر انعقد في الجزائر العاصمة، حيث تسلّم يومها بومدين رئاسة الاتحاد الإفريقي، وتم خلال هذا المؤتمر وعلى هامشه إبرام اتفاقية الجزائر في 6 آذار/مارس 1975، التي أدّت إلى تخليّ شاه إيران عن الحركة الكردية المسلّحة التي انهارت حينها، واضطر الزعيم الكردي مصطفى البارزاني إلى وقف القتال والانسحاب إلى إيران مع العديد من قيادات وكوادر الثورة المسلّحة.
وبموجب اتفاقية الجزائر قدّم نظام الحكم في العراق تنازلات عديدة لصالح إيران، منها ما يتعلق باعتبار “خط الثالويك” هو الحدّ الفاصل في الحدود النهرية لشط العرب، وهو خط وهميّ يبدأ من أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر، في حين أن شط العرب هو نهر وطني عراقي، إضافة إلى تنازلات بحدود 1000 كم2 بالحدود البريّة في منطقة نوكان (ناوزنك) في كردستان العراق، وكذلك ما يتعلق بمحاربة حركات التمرد، ولاسيمّا في ظفّار واتفاقية تعاون أمني لمنع تسلّل المعارضة إلى البلدين.
مؤتمر غير تقليدي
كان مؤتمر الجزائر مؤتمراً غير تقليدي، وقد حضره 200 شخصية سياسية وأكاديمية وثقافية، وتكلّم فيه بيار غالون نيابة عن المجتمع المدني في افتتاحه وهو أمر غير مألوف، كما تحدث دايفيد أوتاي عن الإعلام والسينما، وتناوب على المنصّة نيفين تي بينه نائبة رئيس الفيتنام، وتابو إمبيكي رئيس جنوب إفريقيا وعبد العزيز بلخادم ممثلاً عن الجزائر، إضافة إلى تاي بروك زرهون عن الأمم المتحدة، وعمرو موسى عن جامعة الدول العربية، وجون بينغ رئيس منظمة الوحدة الإفريقية، وتكلم أولو سيجون أوبانجو رئيس نيجيريا السابق. وقد أعاد المؤتمر عزّ حركات التحرر الوطني ومجدها حيث كانت في قمّة تألقها في سنوات الخمسينيات وساهم كفاحها في بلورة صدور القرار الخاص “بتصفية الكالونيالية” العام 1960.
وكم كنت فرحاً حين صادف جلوسي بالقرب من أحمد بن بلّة في المؤتمر، فحاولت أن أقتنص الفرصة لمراقبته، وأتذّكر على الرغم من وضعه الصحي، فقد حاول الوقوف أحياناً ليبدأ بالتصفيق حيث تضجّ القاعة حينها بذلك، وكم كان مزهوّاً أنّ مثل هذا الانجاز التاريخي كان للجزائر دورٌ فيه حيث كانت سبّاقة إليه في إطار حركات التحرر الوطني.
كوبا- الحلم الغامض
لعلّ هذه الذكرى ظلّت عالقة بذهني كثيراً، وحاولت استعادتها باستمرار، وجئتُ على ذكر بن بلّة في كتابي الموسوم “كوبا – الحلم الغامض” (دار الفارابي) بيروت 2011، بفقرة طويلة بعنوان “غيفارا وأحمد بن بلّة – العنفوان”، والعنوان يعكس نُبل مقاصد تلك الأيام الثورية ذات الطهرّية العالية والشعور بالتضامن الأممي والمصير المشترك.
وفيما يلي نصّ الفقرة التي سبق ونُشرتها في إحدى الصحف العربية والتي نقلتها عنها العديد من المواقع والصحف الإلكترونية قبل ضمّها إلى الكتاب حيث مثلت هذه الفقرة حصيلة حوار ومتابعة واستقصاء:
“ثلاث شخصيات عربية كبرى جمعتها صداقة مديدة مع تشي غيفارا، أولّها أحمد بن بلّة أول رئيس جزائري بعد الاستقلال، وثانيها الرئيس جمال عبد الناصر، وثالثها المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس في ظروف غامضة.
تميّزت علاقات غيفارا بأحمد بن بلّة بالتفاعل والتأثّر المتبادلين، لاسيمّا وقد نظرا إلى أفريقيا كفضاء جديد للثورة، خصوصاً في أعقاب إحراز الجزائر استقلالها بعد معاناة مع الاستعمار الفرنسي دامت 132 عاماً. وكان غيفارا قد عُيّن في بدايات الثورة الكوبية “سفيراً بصلاحيات مطلقة” من قِبل زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو، حيث توّجه في 12 حزيران/يونيو 1959 إلى زيارة العديد من البلدان للتعريف بكوبا وثورتها ونضال أمريكا اللاتينية، في جولة طويلة زار خلالها 15 دولة.
وفي جولته تلك أبرم غيفارا اتفاقيات تعاون اقتصادية وعسكرية مع العديد من البلدان في آسيا وأفريقيا، ولاسيمّا دول عدم الانحياز. وزار الجمهورية العربية المتّحدة (القاهرة ودمشق)، كما اطلّع على تجاربها فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي والنظم الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل التصنيع وسبل الانفكاك من هيمنة الاحتكارات وإحراز الاستقلال.
بعد الاستفتاء الذي حصل في الجزائر يوم 13 تموز/يوليو 1962 وتصويت الجزائريين على الاستقلال عن فرنسا بنسبة 93,7% في 19 آذار/مارس من العام ذاته بين قيادة الثورة الجزائرية (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) والحكومة الفرنسية، وقد تشكّلت الحكومة الجزائرية برئاسة أحمد بن بلّة أول رئيس بعد الاستقلال.
وكان من أوائل البلدان التي زارها أحمد بن بلّة هي كوبا، وذلك بعد مشاركته في أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث توجّه بعدها إلى زيارة كوبا في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1962، والتقى فيدل كاسترو وتشي غيفارا وراؤول كاسترو وقيادات الحزب والدولة.
دلالات زيارة هافانا
ولعلّ للزيارة دلالاتها: الأولى أنها جاءت إثر احتدام حدّة التوتر بين واشنطن وهافانا بسبب أزمة الصواريخ الكوبية التي بناها الاتحاد السوفييتي في الجزيرة لمواجهة احتمالات هجوم تقوم به واشنطن للإطاحة بالنظام الكوبي، تلك التي تطورت إلى أزمة دوليّة عُرفت بأزمة الصواريخ بعد خليج الخنازير والتي كادت تهدد بحرب عالمية، لولا محاولات احتوائها من جانب الإدارة الأمريكية والرئيس جون كيندي والقيادة السوفييتية ممثلة في نيكيتا خروشوف حيث تمت المساومة على سحب الصواريخ، مقابل الحصول على تعهّد يقضي بعدم مهاجمة الجزيرة، في إطار تسوية سمحت بها ظروف تلك الأيام.
والدلالة الثانية أن الزيارة كانت بإصرار من جانب أحمد بن بلّة الذي يقول إن كيندي حـّذره من زيارة هافانا مباشرة بعد حضوره اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويضيف: «دُعيت في صباح 15 تشرين الأول (أكتوبر) (أي قبل يوم من زيارته إلى كوبا) إلى البيت الأبيض حيث أجريتُ حوارات ساخنة وصريحة مع الرئيس كيندي بشأن كوبا» ويواصل: «أجابني الرئيس على سؤال مباشر وجهته له: هل أنتم ذاهبون إلى مواجهة مع كوبا؟» ومن دون أن يترك مجالاً للشك في نواياه الحقيقية أجاب: «لا إذا كانت الصواريخ السوفييتية غير موجودة.. نعم إذا كان الأمر عكس ذلك»، ولعلّ إجابة الرئيس كيندي تلك تحمل قدراً من التهديد ورسالة إلى القيادة الكوبية عبر أحد أصدقائها وهو أحمد بن بلّة، ويمضي أكثر من ذلك ليؤكد تهديداته حتى بالنسبة لـ”بن بلّة” حين يقول الرئيس الجزائري الأسبق: «حاول كيندي أن يُثنيني وبإصرار عن الذهاب من نيويورك إلى كوبا مباشرة»، حتى إنه ذكر احتمال حصول اعتداء على الطائرة التابعة للقوات الجوية الكوبية التي سأستقلها، من قبل «المعارضة» الكوبية المتمركزة في ميامي.
ويجيبه بن بلّة بكل ما تحمل إجابته من بساطة وعفوية، لكن لها دلالاتها في الصدق والشجاعة حين يعلّق ردّاً على تهديداته المبطّنة: «إنّي فلاح لا ترهبني المعارضة الجزائرية ولا الكوبية» (من خطاب ألقاه بن بلّة حين أدلى بشهادته عن غيفارا بعد مرور 30 عاماً على استشهاده ونقلته جريدة لومانيتيه الفرنسية التي يُصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي في 9 تشرين الأول/أكتوبر/1997).
كان تاريخ زيارة بن بلّة إلى كوبا هو تاريخ صداقة مديدة مع غيفارا استمرت بضع سنوات قبل أن يقطعها الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال هواري بومدين في 19 حزيران (يونيو) عام 1965، ويذكر بن بلّة في شهادته أن يوم 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 مكتوب في ذاكرته بأحرف من نار، لاسيّما وهو سجين متفرّد، عندما سمع من جهاز الراديو إعلان خبر رحيل «أخيه» غيفارا كما يقول.
غيفارا في الجزائر
زار غيفارا الجزائر بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال ممثلاً لكوبا وذلك في 4 تموز/يوليو عام 1963، ومكث فيها نحو 3 أسابيع، اندمج غيفارا خلالها بالجو الجزائري طبيعياً وسياسياً، حيث المناخ الحار و«الناشف» الذي ذكّره – كما يشير- بطبيعة أرض الأرجنتين التي ترعرع فيها، كما أبدى إعجابه بقدرة الشعب الجزائري وبطولته في طرد المستعمرين الفرنسيين، لاسيّما بعد اندلاع الثورة، وفي حرب الأنصار والكفاح المسلح الذي دام 7 سنوات (من عام 1954 وحتى عام 1962)، وإضافة إلى علاقته مع بن بلّة، فقد استضاف في كوبا خلال عودته قائد القوات المسلحة الجزائرية هواري بومدين بمناسبة يوم 26 تموز (يوليو)، وهو يوم انطلاقة الحركة المسلحة التي قادها فيدل كاسترو.
زار غيفارا الجزائر مرّة أخرى بعد زيارة نيويورك في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1964، حيث ألقى خطاباً باسم كوبا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان غيفارا قد التقى خلال وجوده في نيويورك الزعيم الأسود مالكولم إكس ووجه عِبرَه رسالة تضامن إلى «إخوته وأخواته» من الأصول الإفريقية، ولاسيّما أن أفريقيا حسب تقييماته تعتبر مرتكزاً جديداً للثورة التي شغلته.
ودامت زيارة غيفارا إلى الجزائر نحو 3 أشهر، حيث وصلها يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 1964 وكانت هذه الزيارة الثالثة، واتفق مع بن بلّة على دعم ومساندة حركات التحرر الوطني، معتبراً الجزائر العاصمة البيضاء المنوّرة للثورة، غرفةَ قيادة، وهي في الوقت نفسه القاعدة السرّية للعديد من قيادات وكوادر حركات التحرر في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقد سهّلت معرفة كل من غيفارا وبن بلّة للغة الفرنسية والإسبانية، صداقتهما الحميمة وتفاعلهما المستمر والمتواصل.
وقد اقترح غيفارا على بن بلّة أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأمريكية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التي هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بلّة الموافقة الفورية والإيجابية، بل والأكثر من ذلك تحضير التجهيزات اللازمة لذلك، وحدد مركز القيادة الذي وُضع تحت تصرف غيفارا فيلاّ كبيرة في مرتفعات العاصمة تدعى فيلاّ «موزيني»، ولهذه الفيلاّ رمزية خاصة، إذ كانت مخصصة للتعذيب ومركزاً للفرنسيين أيام الاحتلال، وإذا بها تتحول إلى مركز للحركات التحررية لدول العالم الثالث، وللتغطية على نشاطها في أميركا اللاتينية، وقد أُنشئت عدة شركات للاستيراد والتصدير بهدف التمويه وذرّ الرماد في العيون.
أفريقيا: الحلقة الضعيفة
اعتقد غيفارا أن أفريقيا هي الحلقة الضعيفة للإمبريالية وهي غنية بالمواد الأوليّة، ولذلك يتوجب كسر هذه الحلقة من السلسلة، وتحضيراً لفكرته قام بزيارة 7 بلدان إفريقية نالت استقلالها في حينها، واحتسبت ضد المعسكر الإمبريالي، ولعلّ غيفارا هو من دعا إلى تأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الإفريقية، وكان قد قال: «وجدتُ شعوباً بكاملها تحت الضغط مثل الماء الذي يوشك على الغليان»، وقد سُمّي خلال زيارته إلى جمهورية مالي في 17 كانون الثاني (يناير) 1965 بـ «ماو أميركا اللاتينية» (نسبة إلى ماو تسي تونغ).
خطاب الجزائر الشهير
وخلال زيارته الرابعة إلى الجزائر في 24 شباط (فبراير) 1965 ألقى خطابه الشهير في ندوة اقتصادية لمنظمة التضامن الأفروآسيوي، والذي عُرف لاحقاً «بخطاب الجزائر»، وهو وثيقة أو لائحة مرافعة ضد بعض مواقف الاتحاد السوفييتي كما جرت الإشارة إليه، علماً أن كوبا لم تكن سوى مراقبٍ في المؤتمر، هذه الوثيقة التي تشكل محتوى الفكرة الجيفارية بعد 6 سنوات على انتصار الثورة الكوبية، وجوهر الخلاف الذي اتسّع بينه وبين التيار الاشتراكي الرسمي السائد.
ومن الجزائر توجّه إلى القاهرة في 2 آذار (مارس) 1965 ومكث فيها 8 أيام كما ذكرنا، بعد سلسلة من التأملات والاعتراضات والمراجعات، ويبدو أن هذا التحوّل كان أقرب إلى القطيعة بينه وبين المناصب الرسميّة، فعاد إلى ميدان المعركة الحقيقي في الكونغو ومنها إلى كوبا حيث اجتمع بكاسترو، وبعدها قررّ السفر إلى بوليفيا حيث اختفى هناك، حتى أعلن عن جرحه وأسره ثم إعدامه.
صداقة وتبّصر
وإذا كان عبد الناصر أو بن بلّة قد رحبا بحماسةِ غيفارا وانجذبا إليه بصداقة مديدة، لكنهما كل من موقعه حاولا تبصيره بتعقيدات النضال في أفريقيا، وقد سهّل بن بلّة جميع متطلباته، بما فيها كما يقول وضع معاونته الشخصية مريم مرزوق في خدمته، التي شعرت بصداقة قوية تجذبها إلى غيفارا، الذي داعبها مازحاً ذات يوم «أشعر بأن روحي مسلمة لأني متعدد الزوجات، واعتقد أنه بالإمكان محبّة عدّة نساء في آن واحد»، حيث كان متزوجاً مرّتين.
يقول بن بلّة: «كنت أحاول لفت انتباهه إلى أن خياراته في العمل المسلح، ليست الطريقة الأجدى في مساعدة النضج الثوري الذي ينمو في القارة الإفريقية، فإذا كانت ثورة مسلّحة، فيمكن أن تحظى بدعم خارجي، إلا أنها لا بدّ أن تتهيأ الظروف الذاتية التي تعتمد عليها»، لكن غيفارا، كما يذهب بن بلّة، ظلّ مُصرًّا على خياره، وصادقاً في اختياره مُضحياً بحياته من أجل ذلك.
ثوري من النوع غير المألوف
ويلخّص بن بلّة علاقته بصديقه غيفارا بالقول:
«من بين جميع السياسيين الذين التقيتهم في حياتي، ترك غيفارا عندي انطباعاً أكثر من الآخرين.. كان يحبّ الجزائر كثيراً وبقيّ فيها مدّة أطول مما يعتقده الناس، من خمسة إلى ستة أشهر مع ذهاب وإياب.. كان ثورياً من النوع غير المألوف، إنسانياً، وكان يعرف أن يعيش وأن يتألم، كان رجلاً ساخراً حتى من نفسه، شجاعاً ومتيقظاً..».
سخط على الماركسيين التقليديين
ويمضي بن بلّة بالقول: وذهب إلى كابيندا في أنغولا، ثم إلى الكونغو برازافيل (البرتغالية كما تسمّى)، ولم يكن مرتاحاً من علاقاته مع بعض الأحزاب الماركسية للدول التي زارها، ولعلّه كان ساخطاً على مفاهيمها وتطبيقاتها، الأمر الذي ترك عنده خيبة أمل ومرارة كبيرة، وهو الذي حاول التصدي لقتلة لومومبا وإذا به يُحاصَر، فكرياً وسياسياً، ويداهمه المرض، ليضطر إلى الرحيل بعد فشل تجربة الكونغو كما يقول، ثم يرحل ليلتقي كاسترو ويغادر بعدها راكضاً وراء حلمه، ليُقتل في بوليفيا، وفي ذلك روايات كثيرة وجدتها في كوبا ولدى أوساط الثوريين القدامى والشباب مع تفسيرات متباينة، جئت في كتابي “كوبا- الحلم الغامض”. وإذا كان أحمد بن بلة رمزاً وطنياً جزائرياً كبيراً وزعيماً عربيّاً، لإسمه وقع قوي، فقد عاش أواخر أيام حياته في أجواء أقرب إلى العزلة بسبب الصراعات الجانبية والمنافسات السياسية، ومحاولات التهميش.
* أعلن استقلال الجزائر في تموز/يوليو1962 وهو التاريخ نفسه الذي أُحتلّت فيه الجزائر في العام 1830، وقد تلى اعلان الإستقلال الجنرال الرئيس شارل ديغول عبر التلفزيون مخاطباً الشعب الفرنسي: جاء الإستقلال نتيجة استفتاء تقرير المصير في الفاتح من تموز/يوليو المنصوص عليه في إتفاقيات إيفيان في 18 آذار/مارس 1962، وتأسست على إثر ذلك الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية في 25 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه وكان أول رئيس لها أحمد بن بلّة الذي توفي عن 96 عاماً في 11نيسان /إبريل 2012، وكان نحو مليون من المعمرين الفرنسيين قد اضطروا لمغادرة الجزائر.