الاقتتال الشيعي الشيعي… بروفة أولى
اندلع في شهر شباط/فبراير الجاري قتال بين فصيلين شيعيين مسلحين في مدينة العمارة مركز محافظة ميسان (320 كم جنوب شرق العاصمة بغداد)، لكن يبدو أن أغلب مظاهر الاقتتال كانت خفية، ولم يظهر منها سوى “قمة جبل الجليد”، إذ أحيل الكثير من تفاصيل النزاع إلى أسباب عشائرية، أو تم التعامل مع بعض الاغتيالات على إنها حالات فردية لها طابع جنائي وليس سياسيا.
النزاع الأخير اندلع بين “سرايا السلام”، الجناح العسكري للتيار الصدري، و”عصائب أهل الحق” الميليشيا المسلحة المدعومة إيرانيا، ومن المعلوم أن العصائب والسرايا لهما أصل مشترك هو جيش المهدي، الميليشيا الصدرية المسلحة، التي خاضت عمليات عسكرية ضد الوجود الأمريكي في عام 2004، أشهرها معارك النجف، ومعارك مدينة الصدر، ثم انخرطت في الحرب الطائفية القذرة عام 2006.
ومع تجميد نشاط جيش المهدي، انشق قيس الخزعلي رافضا التجميد ومشكلا فصيله الذي سماه “عصائب أهل الحق ـ المقاومة الإسلامية” في العراق ، وبقي يقاتل الوجود الأمريكي، حتى اعتقل وأودع سجن بوكا في البصرة. وعند الافراج عنه بعد 2010 عاود نشاطه العسكري في الحرب الأهلية السورية، وحصل على دعم ومباركة فيلق القدس الإيراني، ثم عاد للنشاط في العراق مع اندلاع المعارك ضد تنظيم الدولة (داعش) صيف 2014 عندما انضوى فصيل العصائب تحت مظلة هيئة الحشد الشعبي. ولا بد من أن نشير إلى حدوث بعض الاحتكاكات في السنوات الماضية، التي تحولت في بعض الأحيان إلى نزاعات محدودة بين الفصائل الشيعية، وبشكل خاص بين “سرايا السلام” و”عصائب أهل الحق”، على الرغم من كون الفصيلين كانا منضويان تحت مظلة الحشد الشعبي في قتال تنظيم الدولة (داعش)، إذ تصاعدت الاتهامات بين “سرايا السلام” من جهة و”العصائب” و”منظمة بدر” من جهة أخرى في كانون الثاني/يناير 2017، في ما وصف بنزاع النفوذ على الأرض، والإمساك بالمناطق المحررة من سيطرة التنظيم، وقد ألقى الصدر حينها باللوم على من يسميهم “الميليشيات الوقحة”، في إشارة باتت تعرف أنه يقصد العصائب. موجة الصراع الأخيرة، ارتبطت بأزمة نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، وفوز التيار الصدري بالكتلة الأكبر في مقاعد البرلمان، بينما كانت ميليشيا عصائب أهل الحق جزءاً من قوى الإطار التنسيقي التي مثلت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة. أما ساحة الصراع فهي محافظة ميسان الجنوبية، التي مثلت منطقة نفوذ التيار الصدري منذ سنوات، إذ سيطر التيار على الحكومة المحلية في المحافظة، لكنه كان يتشارك مع القوى الأخرى فوائد السيطرة على مصادر تمويل مهمة في المحافظة، يقف في مقدمتها منفذ الشيب الحدودي المهم مع إيران، والإتاوات التي تفرض على شركات البترول العاملة في المحافظة.
رأى المواطن الميساني بأم عينيه، إن قرود العملية السياسية العراقية إذا اتفقوا أكلوا المحصول، وإذا اختلفوا سُحقت كل المحاصيل تحت أقدامهم الغليظة
الصراع الأخير ابتدأ بعمليات اغتيال طالت شخصيات مختلفة بينهم، قضاة وضباط وناشطون وصحافيون، إذ قام مسلحون مجهولون يوم 3 فبراير الجاري بقتل حسام العلياوي وهو ضابط برتبة رائد في وزارة الداخلية، وهو شقيق وسام العلياوي القيادي في”عصائب أهل الحق”، الذي قتل في تشرين الأول/اكتوبر 2019 أثناء موجة التظاهرات التي شهدتها محافظة ميسان. قد توعد قيس الخزعلي الأمين العام لعصائب أهل الحق بالانتقام للعلياوي، ودعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للبراءة من قتلة الرائد حسام العلياوي قائلا: “قتلة العلياوي قد صدرت بحقهم أوامر إلقاء قبض من قضائنا العادل، لكن الأجهزة الأمنية تعجز عن تنفيذ هذه الأوامر”. وجاءت دعوة الخزعلي للصدر على خلفية “ادعاء هؤلاء المجرمين الانتساب إلى سرايا السلام”، وكذلك “ضرورة تعريتهم ووأد الفتنة في مهدها”، كما ذكر الخزعلي في تغريدة على منصة تويتر، قال فيها “إنّ قتلة حسام العلياوي هم ذاتهم قتلة شقيقه وسام”، لكن مقتدى الصدر لم يرد على دعوة الخزعلي. كما اغتيل القاضي أحمد الساعدي، وهو قاض متخصص في قضايا المخدرات، يوم 7 فبراير برصاص مسلحين مجهولين في مدينة العمارة مركز محافظة ميسان. وقال ضابط في شرطة الطوارئ في المحافظة، “إن مسلحين مجهولين فتحوا نيران أسلحتهم باتجاه القاضي المختص بقضايا المخدرات، قرب محكمة استئناف ميسان وأردوه قتيلا”. وفي يوم 9 فبراير أطلق مسلحون يستقلون دراجة نارية النار على سيارة يستقلها كرار أبو رغيف القيادي في “سرايا السلام” وكانت زوجته برفقته، وتمت عملية الاغتيال في حي المعلمين في مدينة العمارة، قتل ابو رغيف فورا نتيجة الهجوم، فيما أصيبت زوجته بجروح. حادث الاغتيال أطلق موجة هياج واسعة بين أفراد التيار الصدري، الذين وجهوا أصابع الاتهام الى ميليشيا “عصائب أهل الحق” واتهموهم بتنفيذ الاغتيال وتوعدوا بالرد القاصم.
تخوف الحكومة من توسع النزاع ووصوله إلى مرحلة اقتتال عشائري، دفع برئيس الوزراء ووفد عسكري وأمني عالي المستوى للذهاب إلى محافظة ميسان، ومحاولة وضع خطة لإيقاف التدهور الأمني، الذي طال أقضية العمارة والمجر الكبير والكحلاء وقلعة صالح التابعة لمحافظة ميسان. وقد أعلنت خلية الإعلام الأمني في 11 فبراير بيانا جاء فيه: “تنفيذاً لتوجيهات القائد العام للقوات المسلحة، والمراجع العسكرية، وبإشراف قيادة العمليات المشتركة، تواصل القطعات الأمنية في قيادة عمليات ميسان، فرض الأمن في مركز مدينة العمارة والأقضية والنواحي. وفي اليوم الثاني للعملية، نفذت فرقة القوات الخاصة والقطعات الأمنية المساندة عمليات دهم وتفتيش في قضاء المجر الكبير جنوبي مدينة العمارة، أسفرت عن إلقاء القبض على (8) من المطلوبين. وضبط كميات من الأسلحة والأعتدة المستخدمة في عمليات تعكير السلم الأهلي”. مع ازدياد التوتر نشر إعلام التيار الصدري خطابا مكتوبا بخط اليد من مقتدى الصدر، ردا على تساؤل حول ما يجري في ميسان قال فيه؛ “إنّ ما يجري هو تصعيد على مستويين: عشائري، وسياسي بين العصائب والتيار”. لكن قيس الخزعلي من جانبه قال في تغريدات على تويتر “نشكر ونؤيد كل خطابات التهدئة التي تدعو إلى تفويت الفرصة على مريدي إشعال الفتنة”، وحذر “من خطأ الاندفاع بتوجيه الاتهامات من بعضنا إلى البعض الآخر، لأن في هذا مصلحة أعداء العراق، وإسرائيل في مقدمتهم”.
جهات إعلامية تابعة للتيار الصدري نشرت على موقع تيلغرام إن، “القوات الامنية في ميسان ألقت القبض على (حسن طراد غليم الكناني) الذي ينتمي رسميا إلى “عصائب أهل الحق”، قد اعترف بارتكابه عدة جرائم بينها اغتيال مشرف تربوي متقاعد وثلاثة من أقاربه، اغتيال القاضي أحمد الساعدي، زرع العبوات الناسفة في المحافظة، تجارة المخدرات والكريستال، تسليب أحد المواطنين السنة والاستيلاء على سيارته”. لكن ميليشيا”عصائب أهل الحق”، سرعان ما أعلنت يوم 12 فبراير بيانا رسميا بينت فيه براءتها من حسن طراد غليم الكناني، إذ ذكرت في بيانها: “ندعم إجراءات الأجهزة الأمنية في المحافظة، لتنفيذ أوامر القبض الصادرة بحق المطلوبين بجرائم القتل والاغتيال والخطف، من دون النظر إلى انتماءاتهم الجهوية أو العشائرية”، وأضاف البيان، إن “الشخص الذي ادعى بعض المدونين المعروفين بدورهم المشبوه في وسائل التواصل الاجتماعي، انتماءه للحركة والمدعو (حسن طراد) ليس لديه أي انتماء رسمي لحركتنا، وليس لنا أي علاقة به، وسبق أن ادعى ذلك وصدرت براءة منه قبل عامين بتاريخ 10 فبراير 2020”.
لاحتواء الأزمة بين الفصيلين الشيعيين، اجتمع وفدان من السرايا والعصائب منتصف شهر فبراير في محافظة ميسان في اجتماع أطلق عليه “اجتماع أبناء الأب الواحد” وخرج المجتمعون بتوصيات بينها: “ندين ونستنكر جميع جرائم القتل في المحافظة. و ندعم ونساند القضاء والأجهزة الأمنية من أجل أخذ الدور الأكبر في فرض القانون والحد من الجريمة .ونقف على مسافة واحدة من الجميع”. كما أكدت اللجنة المنبثقة من الاجتماع على استمرار عملها ومتابعة التحقيق، وكشف الجناة من أجل أخذ جزائهم العادل قانونياً. ودعا المجتمعون أهالي محافظة ميسان إلى التحلي بالصبر لتفويت الفرصة على من يريد إثارة الفتنة بين ابناء الأب الواحد (محمد الصدر).
في تموز/يوليو 2019 نُشر تحقيق صحافي استقصائي عن منفذ الشيب، الذي تمر عبره أكبر صفقات المخدرات من إيران إلى العراق والمنطقة، وقد وردت فيه إشارات مبكرة عن الصراع بين الميليشيات المسلحة المدعومة بقوى عشائرية للسيطرة على ورادات المنفذ، وكشف التحقيق قيام الجماعات المسلّحة والأحزاب وحتى العشائر التي تسيطر وتتقاسم النفوذ في المحافظة بنهب ما يقارب 80% من الواردات الحكومية المستحصلة في المنفذ الحدودي، لذلك في البروفة الأولى للاقتتال الشيعي الشيعي رأى المواطن الميساني بأم عينيه، إن قرود العملية السياسية العراقية اذا اتفقوا أكلوا المحصول، واذا اختلفوا سُحقت كل المحاصيل تحت أقدامهم الغليظة، وتبقى النتيجة: لا أحد يعلم ما هي آلية الخروج من هذا الوضع الهش.
*كاتب عراقي