هل ينفخ بوتين الروح في الاتحاد السوفييتي؟
هنالك مقولة تُنسب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقول “من لم يحزن على انهيار الاتحاد السوفييتي فهو بلا قلب، ومن يفكر بعودة الاتحاد السوفييتي فهو بلا عقل”. وما بين الماضي واللحظة الآنية، يمكن وصف ما يحدث في أوكرانيا اليوم بأنه زلزال جيوسياسي، لم يضرب أوروبا وحسب، بل العالم بأجمعه، كما لم يعرف الواقع الدولي حدثا مثله خلال الثمانين عاما، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فهل حقا يريد الرئيس الروسي إعادة الاتحاد السوفييتي من جديد؟
يقينا أن الرجل يدرك تماما أن عودة الاتحاد السوفييتي من جديد، كما كان هي ضرب من الخيال، ومراهنة مستحيلة في ظل الواقع الدولي الراهن. صحيح أنه أكد مرارا وتكرارا أن انهيار تلك المنظومة كان خسارة جيوسياسية كبرى لروسيا والعالم، لكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء غير ممكنة.
مع ذلك لا يمكن القول إن العقل السياسي الروسي يعيش حالة انكفاء تام، ضمن الحدود الجغرافية المرسومة له على الخريطة، فمنذ وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الكرملين وحتى اليوم، كان واضحا أن روح حلف وارسو يدور في عقله، وأن تعزيز الكيانات الإقليمية اقتصاديا وسياسيا، يمكن أن تعطي روسيا دورا على الصعيد الدولي، يحاكي دورها في السابق. لذلك وُلد الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، وانبثقت منظمة شنغهاي، وظهرت إلى الوجود منظمة الأمن الجماعي، التي تحولت من نمر على الورق إلى مطرقة، حيث كان لها دور في كازاخستان مؤخرا. كما رأينا خلال الثلاثين عاما الماضية، أن ردود فعل الكرملين دائما عنيفة على دول الجوار المتاخم لروسيا، تلك التي حاولت تغيير بوصلتها السياسية أو الاقتصادية بعيدا عن موسكو، فكان مصيرها دائما التقسيم أو أن تفقد السيطرة على جزء من أراضيها. حدث هذا في جورجيا في عام 2008، وبعدها في أوكرانيا عام 2014. وهذا يعطي انطباعا أن صانع القرار في موسكو، يعتبر أن منظومة الأمن القومي الروسي تبدأ عند حدود الدول السوفييتية السابقة. كما أنه أيضا مؤشر قوي على أن السياسات الداخلية والخارجية لموسكو مرتبطة ارتباطا كليا بالأمن الاستراتيجي، لكن هل يفهم الغرب هذه الاعتبارات الروسية في موضوع الأمن القومي؟
يبدو أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ينظران إلى المطالب الأمنية الروسية، بأنها عودة إلى الوراء، لذلك لم ينتج عن اللقاءات المتكررة بين الطرفين شيء يذكر. كان الجانب الروسي يصر في كل اللقاءات مع الغرب على حصوله على ضمانات أمنية بعدم توغل “الناتو” في المجال الحيوي المتاخم له. كانوا يقولون “نحن بحاجة إلى ضمانات صلبة موثوق بها وملزمة قانونيا، ليس تأكيدات أو تعهدات بكلمات من مثل ينبغي أو يتوجب أو غيرها” على حد قول نائب وزير الخارجية الروسي. في حين يريد “الناتو” إحكام الطوق على موسكو ومد نفوذه على حدودها، ويرد بالقول “لن نتنازل أبدا عن حق كل دولة في أوروبا في اختيار طريقها الخاص، بما في ذلك المنظومة الأمنية التي تريد أن تكون جزءا منها”. وهذا يدفع بالرئيس الروسي إلى اعتماد أدوات يعتبرها “الناتو” من زمن الحقبة السوفييتية الماضية، وهي التهديد باستعمال القوة العسكرية لتعزيز نفوذ بلاده في محيطها الإقليمي، وفي مناطق أخرى من العالم، منطلقا من فكرة أن تمدد “الناتو” على حدود روسيا هو تهديد وجودي لها. وهذا أحد الهواجس الأساسية في العقل الروسي، منذ أيام القياصرة وحتى اليوم. لكن “الناتو” ليس كل الغرب، وأوروبا ليست على قلب رجل واحد مع الولايات المتحدة، هنالك دول أوروبا الشرقية المنسجمة تماما مع السياسة الأمريكية تجاه موسكو، بينما فرنسا وإيطاليا وألمانيا ودول أخرى لها رأي آخر في موضوع المطالبات الأمنية الروسية. صحيح بعضها يرى في روسيا عدوا محتملا، لكنهم يقولون بأمكانية إدارة الصراع مع موسكو وفق المصالح الأوروبية، وليس وفق مصالح “الناتو” أو وفق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تؤمن بها فرنسا وإيطاليا. كما أن برلين وباريس لديها رؤية مختلفة تماما عن الآخرين في موضوع الأمن الأوروبي. هما يعتبران روسيا جزءاً من هذا الأمن، ويجب أن لا يكون الأمن في أوروبا قائما على حساب موسكو، بل إن الفرنسيين طرحوا فكرة استيعاب روسيا في نظام اقتصادي أمني أوروبي، لكن واشنطن لم تصغ إلى هذا الحل.
إن ما يريده بوتين هو ليس إعادة الاتحاد السوفييتي كمنظومة شرقية في مواجهة حلف “الناتو”، كما ليس لديه أيديولوجية ذلك النظام، ولا الفهم الشيوعي للاقتصاد الذي كان قائما آنذاك، هو يريد إعادة صياغة لنظام أمني جديد، يأخذ بنظر الاعتبار الأمن الروسي. لكن المشكلة الرئيسية هو أن مطالبات الرئيس الروسي لا ثقة بها في الغرب. هم يعتقدون أن الشروط التي يطرحها اليوم قد تكون أكبر في الغد، إذا ما تعامل الغرب معها بإيجابية. كما أن روسيا لا ثقة لها بالولايات المتحدة والغرب وحلف “الناتو”. هم يقولون إن حلف “الناتو” أعطى تعهدات لهم، بعدم التمدد شرقا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنه في سنة واحدة ضم حوالي سبع دول من أوروبا الشرقية أعضاء لديه. آنذاك كانت روسيا ضعيفة ومنشغلة في تثبيت وجودها ولم تستطع الرد. أما اليوم فوضع روسيا مختلف تماما عن تلك الحقبة، وأن ما خطط له بوتين لتحقيق أهدافه الجيوسياسية على مدى السنوات الماضية أصبح واقعا، بات لروسيا جيش حديث وسلاح يقلب التوازنات، ومشروع في المحيط المباشر وفي الإقليم.
لا يريد بوتين إعادة الاتحاد السوفييتي كمنظومة شرقية في مواجهة “الناتو”، بل إعادة صياغة لنظام أمني جديد، يأخذ بنظر الاعتبار الأمن الروسي
يقينا يبقى العقل الجيوسياسي الروسي مشبع بالتاريخ، ويفرض هواجس لا تكاد تزول وهي، أن روسيا فيها نمط تاريخي يتكرر دائما هو، إما فوضى داخلية أو تهديد من الخارج. أما الحل والمنقذ من كل ذلك فهو القائد الذي يحكم بيد من حديد، وأدواته في الحكم هي الاستخبارات، التي يجب أن يكون لها دور كبير في السلطة أولا، وثانيا السيطرة على دول المحيط، أوروبا الشرقية، لتأمين الداخل. والتاريخ الروسي المعاصر يُظهر أن روسيا قادرة على تغيير قواعد الاشتباك في المنطقة، وكذلك تغيير قواعد الردع في العالم أيضا، لكن لا يمكن التعويل على كل ذلك بدون أثمان تُدفع. ويبدو أن الثمن الأول الذي دفعته موسكو في الأزمة الحالية، هو أن من كان من الأوروبيين يعتقد أن المخاوف الأمنية الروسية مشروعة، أصبح على يقين من أن هذه المخاوف، ربما تكون غطاء تختفي تحته المطامع، فموقف الألمان مثلا وغيرهم في أوروبا كانوا حتى الأمس القريب يقدمون الأعذار لروسيا، لكنهم اليوم أصبحوا يخشون، إن لم يكن هنالك تأطير جديد لهذه الرغبة الروسية في استرداد المجد القديم، فإن الخطر على مصالحهم مقبل لا محالة.
*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية