حين يكتب حَنا مينا
الباحث/عبد الحميد برتو.
حين يكتب الروائي السوري التقدمي حَنا مينا مقدمة لعمل مسرحي ما، تصبح تلك المقدمة جزءاً أصيلاً من مسألة تقويم المسرحية نفسها، وجزءاً من عملية النظر النقدي العام إليها. في الحالة التي بين أيدينا، مسرحية (الدراويش يبحثون عن الحقيقة) بحث حَنا مينا في عصب المسرحية مُظهِراً جوهرها، وما إستبطنت من قيم ونوازع إنسانية ومحن في مخاضات الحياة ودواليبها. أبحر في بنيتها السرّدية مكثاً ومركزاً لإيقاعاتها في الزمان والمكان والمناخ.
الروائي حَنا مينا (1924 – 2018) غني عن التعريف. لكن لا بأس من بعض الإشارات عنه، لمن لا يعرفه صدفة. خاصة في تلك الجوانب، التي تنعكس على صياغته لمقدمة المسرحية وقراءته لها. سواءً كانت تلك القراءة إنعكاساً مقصوداً أو حتى غير مقصود.
ولد الروائي الكادح الدؤوب في إحدى قرى لواء الاسكندرون. خاض غمار التغرب والتنقل وضنك الحياة وإعتدالها أيضاً. عاش حَنا في مدينة اللاذقية الساحلية السورية، بعد إنتقاله إليها في عام 1939 مع عائلته. يقول عنها بحق إنها كانت ملهمته بجبالها وبحرها.
مر في بدايات حياته بظروف معيشية صعبة جداً. كدح من أجل حياة كريمة، يعتمد في مواجهتها على نفسه. عمل حلاقاً، حمالاً، بحاراً في الميناء، مصلّحَ دراجات، مربّي أطفال، عاملاً في صيدلية وموظفاً في الحكومة. إكتشف بذاته خلال تلك المسيرة ميلاً شديداً للكلمة. كانت خطوته الأولى صوب الكتابة، خلال ممارسته مهنة كتاب عرائض. ثم تقرب إلى الصحافة. وإنتقل الى كتابة المسلسلات الإذاعية باللهجة العامية السورية. وأخيراً إرتقى وإحتل موقعاً مرموقاً، بصفته كتاباً روائياً مبدعاً، خصباً ومميزاً، بل تصدر القائمة أترابه في ميدان إختصاصه.
إستقر منذ عام 1947 بالعاصمة السورية ـ دمشق. عمل في جريدة الإنشاء الدمشقية محرراً. تدرج فيها حتى أصبح رئيساً لتحريرها. هذه المسيرة الصعبة والمتنوعة الأدوار والمهن، ساهمت جميعها في صقل تجربته ومواهبته الفنية. منحته القدرة على الغوص في طبقات النفس البشرية، وإختبر أصنافها وردود أفعالها. إرتبطت حياته في بداياتها بحياة الكادحين. فتح ذلك العيش والتعايش أمامه أبواب رؤية ما يعتمل في نفوسهم، خلال لحظات القوة والضعف. إكتسب فهماً واقعياً، ملموساً وأصيلاً، من خلال مخالطته ومعايشته حياة ناس. إن تجربته لمهن متعددة ومتنوعة خلقت منه إنساناً أقرب الى الواقع دون رتوش. خلقت منه إنساناً أكثر تقدمية في تفسير ذلك الواقع. وربما دفعته بإتجاه الإنحياز الى معايير العدل الإنساني الأكثر صفاءً.
أثرت قسوة نشأته الأولى في كل جوانب مسيرته، الإبداعية منها والشخصية. علمته الإعتماد على الذات وإنتهاج حياة التفرد الإبداعي (الإستقلال الشخصي) في الرؤية الإجتماعية والفنية. ففي ميدان الإبداع ألّف أكثر من 40 رواية ذات بعد إجتماعي عميق. تتسم أعماله بالحس المرهف بهموم الآخرين من حوله. عبر سرديات محكمة ومشوقة.
ما تنتجه معاناة الفنان، العامة منها والشخصية، خاصة ما يتعلق منها بإستيعاب وهضم حالات القهر والبطش فنياً. تخلق حالة من البراعة المدهشة والإحاطة العميقة بتلك الهموم والهواجس. تجعلها تحمل خواص نابضة بأحاسيس جميلة ومركبة. كان مينا كاتباً غزيز الإنتاج من بين بعض أعماله التي أثرت في الذوق العام، أذكر منها الأعمال التالية: المصابيح الزرق، حكاية بحار، الثلج يأتي من النافذة، المستنقع، النجوم تحاكي القمر، عروس الموجة السوداء، الذئب الأسود، حين مات النهد، حارة الشحادين، البحر والسفينة وهي، الرحيل عند الغروب، المرأة ذات الثوب الأسود، المغامرة الأخيرة، النار بين أصابع امرأة وشرف قاطع طريق.
إن مسيرة التكوين الحياتية المديدة والمتنوعة لمينا لها أصداء كثيفة. ساهمت في تحديد معالم وخصائص الإنسان الإجتماعي عنده، وكذلك حال بالنسبة الى أعماله الفنية. معلوم أن تنوع نبضات الحياة الشخصية، يؤدي أو يدفع الى الإنغماس الفعلي والفعال في الحياة العامة إيجابياً. ومن شواهد ذلك الإنغماس النشيط، تذكر مساهمته مع كوكبة من الكتاب اليساريين السوريين عام 1951 في عملية تأسيس رابطة الكتاب السوريين. ثم إتسع نطاق طموحاته على هذا الصعيد. إذ ساهم من خلال الرابطة، بعقد مؤتمر للكتاب العرب عام 1954، بمشاركة عدد من الكتاب الوطنيين والديمقراطيين في سورية والبلاد العربية. كذلك لعب الروائي مينا دوراً كبيراً وفعالاً في مد جسور التواصل بين الكتاب العرب. كان دوره واضحاً ومؤثراً في الدعوة إلى ايجاد وإنشاء اتحاد للكتاب العرب، الذي تأسس فعلاً عام 1969.
يؤكد مينا في مقدمته على إعتزازه بزملائه الكتاب التقدميين المنغمسين بهموم شعوبهم. يتمنى حضور أحدهم مع الآخر في كل أعماله. يقدم لهم نتاجاتهم ويقدمون له. أنه من دعاة تعميق التواصل بين المبدعين بكل فن جميل، خاصة فن نحت الكلمة ـ الموقف والمشهد. لا أعلم الى أي مدى يحالفني التوفيق في التقدير أو التصور، بأن هناك سراً دفيناً بين مينا والحلاَج. فالأخير عاش التغريبة الفلسطينية بكل همومها وآلامها، ومينا صديقه ونظيره عاش وعانى من إنتقال آخر، حيث كانت طفولته وقسطاً من شبابه في الإسكندرون، ثم إنتقل مع عائلته الى اللاذقية.
وإذا أطلقت لنفسي مجدداً جموح التخيل من زاويته الإجتماعية، عما يعتمل في قعر أو باطن الوعي الذاتي للكاتبين الكبيرين. قد أجد خيطاً رقيقاً، ولكنه متين في الإنتساب الى ظروف متشابهة، الى جانب الوعي بكل الحالات المحيطة الأخرى. ألم تكن هجرتهما في سن مبكراً، يشكل سراً خفياً في عمق الذاكرة الملتاعة. ربما تلعب تلك الذاكرة دور مفاعل يوقد مشاعر عميقة الجذور تداهم المرء دون إستئذان.
بدأ مينا مقدمته لمسرحية الحلّاج بالقول: ـ “الصداقة معنى في الحب رائع .. لون منه، اثير، حميم، دافئ. وصداقات الناس، في الود المتبادل، علاقة من المشاعر الإنسانية الكبيرة والأصيلة. فالدنيا فقيرة لو لا غنى الصداقات فيها …. أنا اريد نقش بعض الأسماء لعلها تبقى …”. لا يقف عند حد الود الشخصي. إنما يسعى مينا الى وحدة المبدعين السوريين والعرب عامة. وأن تكون كلمتهم لما هو أبعد. أعني في بعدها الوطني والإنساني.
يدرك صاحب المقدمة خطورة دور قوى البطش المنظم ومحاولاتها للإنفراد بأصحاب الكلمة الصادقة، الجميلة والمؤثرة في الوجدان العام، كل على حدة، خاصة حين يكون الضحية منفرداً في مخازن التعذيب. يحدو الأمل المحققين بأن تخور عزائم الضحايا، بعد فرض العزلة والتعذيب عليهم. خاطب مينا أصدقاءه الكتاب: ـ “إن اتحاد كلماتنا … يوحدنا من أجل ما هو أفضل، ويجعلنا، وهنا يستعير عبارة إليزا تربولي الموجه الى الشاعر الفرنسي لويس اراغون شاعر المقاومة والحب: ـ “نقاوم مَنْ ينتزع الواحد منا من الآخر”.
أجد نفسي متفقاً مع تقويم الروائي حَنا مينا لمسرحية: (الدراويش يبحثون عن الحقيقة) حين أعتبر مصير الدراويش قضية إنسانية وفنية. هنا تكمن أهمية الفن في رسم صورة الواقع ومساعيه لتغييره. وما تتحمله مثل تلك المهمات النبيلة من أعباء ثقيلة. عاد مينا لتقدم إستعارة معبرة وجميلة أخرى، من أجل أن تكتمل صورة وحالة البشاعة في سجون الطغاة، بإستحضار عبارة من إبداعات الروائي إرنست همينغوي (1899 ـ 1961) الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1954. “من الممكن قهر الإنسان، ولكن من المستحيل تدميره”.
ربما لم تشبع مينا عبارة همينغوي، فتعمد تفسيرها بالقول:ـ “الإنسان هو الجماعة لا الفرد، هو الكل الذي يعبر عن الجزء … وقد يدمر البطش فرداً، ولكنه عاجز عن تدمير شعب .. وفي اللحظة التي يحسب الطغيان أنه إنتصر، يكون قد إنكسر، لأنه ببلوغه ذروة البطش يكون قد بلغ ذروة الضعف، ونزوعه، أصلاً، الى البطش، ليس إلا ستاراً للضراعة المتولدة من الخوف”.
كم هي حالة مقيتة أن يؤخذ الإنسان بالوشاية أو الشبهة. لقد رسم الحلّاج في مسرحيته صورة لتراجيديا القمع وتدمير المشاعر. ترك أمر إنتصار الخير على الشر ونقيضه في حالة من الصراع الدائر. إنها، أي المسرحية، عمل فني حافل بالقيم الفكرية والجمالية. إنها مسرحية حرة تطرح قضية كرامة ومعاناة الإنسان. إن الحرية هي الصفة الأعلى في الجمال، بالمقابل فالخنوع يدمّر ويشوه الحياة.
يبدأ الروائي حّنا مينا مقدمته لكتاب صديقه الكاتب المسرحي مصطفى الحلّاج بوصف الصداقة ومضامينها. إرتقت مقدمة المقدمة الى درجة الشعر الإنساني العذب، الذي يحمل في طياته موسيقا، ترانيم وغناء هامس. بلغ التواصل بينه وبين أصدقائه حداً يُفيد: “ولعله دافع مشترك، بيني وبين أصدقائي، الى كتابة أسمائهم في مدخل كتبي، وكتابة إسمي في مدخل كتبهم”. هذه العبارة تشي بنوع جليل من التواصل بين الأصدقاء الحقيقيين في عوالم الخَلق الجميل. ذلك يتجسد بالقول: “نقاوم مَنْ ينتزع الواحد منا من الآخر”.
تضيف المقدمة بأن الحلّاج لم يكتب هذه المسرحية لغرض الشهرة، بعد أن قاطع الكتابة أكثر من عشر سنوات. ولو شاء الشهرة لإختار موضوعاً آخر. كتب لأنه عانى ونضجت معاناته. رأى وسمع عن المظالم فضغط عليه ضميره لرسم صورة تلك المعاناة. إن غاية الأدب أن يكون شاهداً على فترة أو مرحلة مثقلة بالفواجع والرزايا ليخلق صيحة إيقاظ للنيان والمتناومين معاً. تستدعي الكتابة غايات إنسانية وفنية سامية.
وكما وصل الكتاب ـ مسرحية “الدراويش يبحثون عن الحقيقة” إلينا من سجين خلسه. شاءت المقدمة أن تمرر الكتاب من أمام ناظري الرقيب خلسة أيضاً. من خلال التأكيد على عبارة تُعمم وتعوم وتحافظ على البوصلة في الوقت ذاته: “ظهرت مسرحية (الدراويش) هذه عام 1970، وهي، بالتأكيد، لم تكتب للعام الذي ظهرت فيه، ولا للذي سبقه أو يليه، بل لكل عام يمضي، وكل عام يأتي، لأنها قضية إنسانية، تحمل قضية الإنسان في كل زمان ومكان، ولأنها، كقضية فنية، تحمل اضافتها من الماضي الى الحاضر فالمستقبل، وإلا ما كانت من الفن العظيم جزءاً في وحدة كنزه الذي هو تراث للبشرية جمعاء”.
أمسكت المسرحية بالجوهر الإجتماعي لأنظمة الظلم وأساليب عملها، وبكل ما هو أساسي فيها. إنها ثنائية العلاقات المشؤومة والمترابطة بشدة وعنف بين: حاكم ومحكوم، سجان وسجين، أسياد وعبيد، سلطة ورعية. لكن بالمقابل ذروة الطغيان تعني ذروة الضعف. يصل طيش الظلم حين يأخذ الناس بالوشاية والشبهة. ويكون الحكم بالإعدام على أساس الملفات، وليس على اساس الأفعال والحقائق والوقائع. من البشاعة أن يختار السجين الموت السريع على الموت البطيء تحت التعذيب. تتولى آلات التعذيب مسؤولية أن يعترف المتهم، بأنه مذنب ويتعجل رصاصة الرحمة.
وأخيراً كما ترك المؤلف الحلّاج يعبر عن نفسه. أترك ذات الفرصة لمينا يصف نفسه كما هو يراها. أقتبس عبارتين له تصف ببراعة الأسس التي شاد عليها كيانه. ربما تعطي صورة دقيقة عن إنطلاقة حياته ونتاجاته الإبداعية أيضاً: “إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟” وقوله: “احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي، أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟!”
يتبع: الدراويش يبحثون عن الحقيقة 4