هدى شعراويّ وريّادة التاريخ النسويّ
تتأتى أهمية كتابة المذكرات من أهمية الذاكرة نفسها بوصفها مصدراً مهماً من مصادر التوثيق والتأرخة. أما اللغة فتؤدي دورها الوسيط في عمل هذه الذاكرة إذ بها تخزن الأقوال التي تدلل على ذكريات السنين محافظة عليها من النسيان. والفعل الذاكراتي نوعان نمطي معتاد ورمزي غير معتاد؛ فأما الأول فيمثله تذكرنا الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف واللقاءات التي نحفظها عن ظهر قلب، وأما الثاني فيمثله تذكر المرء العالم الذي به تصبح ذاكرته متعولمة مدموغة بإعادة إنتاج الماضي.
والخوف من النسيان هو أحد دوافع تدوين الذكريات، والبحث عن ذكرى يعني النضال ضد النسيان وإطلاق الذكريات يعني إنقاذها من براثن النسيان. وهو ما يدخل في باب ما يسميه بول ريكور (فينومينولوجيا الذاكرة).
وكتابة المرأة لمذكراتها أداة مهمة في أرشفة تاريخها النسوي، ممارسة دور المؤرخ الذي حرمت من أدائه على طول التاريخ البشري. وهو ما مارسته هدى شعراوي في كتابة سيرة حياتها فجمعت بين الفعل الذاكراتي المعتاد والفعل الذاكراتي الرمزي، مازجة معهما اليوميات والاعترافات والسيرة بأسلوب سردي مشوق منتقية من ذاكرتها أحداثاً وصوراً ترسخت ولم يطلها النسيان ووسمتها بأنها (مذكرات) لتكون الرائدة في كتابة هذا اللون من السرد التاريخي.
ولأن لهدى شعراوي حياة حافلة بالعطاء النسوي، تركت صورة مشرِّفة للمرأة العربية المضحية من أجل بنات جنسها. وهي وإن تمتعت برخاء العيش وترف الحياة؛ إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تقف في صف العموم النسوي المضطهد بحجب التحريم والوصاية.
ولم يكن مشوار هدى شعراوي ممهدا وهي تسير في دروب شائكة لم تطأها قبلها امرأة على صعيد وطنها مصر أو على صعيد العالم العربي وربما الشرقي، متطلعة وواثقة أن هناك غدا قريبا، فيه سيتحقق للمرأة المصرية والعربية التحرر وستحظى بالتعليم مغادرة الهامشية ومواجهة الإقصاء.
ولا يخفى ما في كتابة مذكراتها من شجاعة هي بمثابة بادرة من بوادر النهضة النسوية في العصر الحديث، فيها سردت سيرة حياتها بضمير المتكلم وبجرأة واضحة في المكاشفة والمواجهة مع علمها بخطورة هذه المواجهة لا من ناحية كشف المخبوء وإماطة اللثام عن المستور حسب، وإنما من ناحية الخوف من الذاكرة نفسها حين تغفر أو تنسى أو تسترسل أيضا.
وقد افتتحت شعراوي مذكراتها باسترجاع طفولتها وذكرياتها مع والدها الذي فقدته وهي في الخامسة من عمرها لكنها شعرت أن الذاكرة تخونها وأنها تنسى كثيرا من الأحداث ولا تمتلك عن أبيها ـ الذي أرادت الدفاع عنه ـ أخبارا أكيدة لذلك استعانت بالأقرباء والأصدقاء العارفين بأحوال أسرتها وأسرار والدها، مفنِّدة التهم التي وجهت إليه.
واهتمامها بتدوين الاستشهادات الشفوية سواء التي لها أو لغيرها وكذلك عنايتها بإدخال الكتب الرسمية والمقالات المنشورة والبيانات الحزبية هو الذي جعل ذاكرتها ذاكرة مؤرشفة، فيها الفعل الذاكراتي يجمع بين الأرشيف والشهادة بوصف الأرشيف كتابة مقروءة، تخزن في التاريخ كمحفوظات ورقية وهو ما يقوم به المؤرخ المحترف بينما الشهادة شفهية في الأصل أي أننا نصغي إليها ونسمعها في لحظة الدخول في كتابة التاريخ.
ولا يعني هذا أن هدى شعراوي استعملت التوثيق كغاية بحد ذاتها؛ وإنما هو وسيلة بها سعت إلى إنصاف والدها محتجة بالكتب والمقالات والشهادات الشفاهية لتدعم ردودها على المزاعم التي شككت بنزاهة أبيها وللبحث أيضا عن المسؤول الأول الذي خاطر بمستقبل البلاد ومدى حقيقة الثورة العرابية. ولعلها بعملها هذا قد صححت جانبا من جوانب التاريخ الحديث.
ومن ذكرياتها التي بها دللت على وعيها النسوي ما دونته عن التربية العربية التي تفضل الذكور على الإناث وكيف كان هذا التفضيل يترك آثارا نفسية كبيرة عليها كجزء من الوصاية الذكورية التي جعلت المرأة منحازة للرجل بشكل غير واع مؤيدة سطوته عليها. وليس غريبا أن يأتي هذا التفضيل من النساء أنفسهن والدتها وزوجة أبيها التي كانت تسميها الأم الكبيرة وكذلك جدتها وغيرهن من اللواتي كن يشعرنها أن الأنثى أقل من الذكر.
ولا تخلو مذكراتها من بعض الحكايات التي تسردها أما لتوعية المرأة بها ولتكون على دراية بما حولها كحكاية النسوة اللواتي يدرن على البيوت وهن يحملن بضاعتهن على رؤوسهن، أو تسرد هذه الحكايات لأجل التدليل على واقع مأساوي عاشته هي وتعيشه معها كل امرأة تتزوج وهي في الثالثة عشرة من عمرها ويكون زوجها رجلا متزوجا من امرأة أخرى وله منها أولاد وبنات.
وقد عبرت هدى شعراوي عن هذه المأساة بأسلوب شاعري عكس عمق الشرخ النفسي الذي يخلفه الزواج المبكر وتعدد الزوجات في كيان المرأة العربية.
ولهدى شعراوي آراء تربوية متقدمة، تعتمد فيها على خبرتها الشخصية، وبعضها تنطوي على أبعاد حضارية سابقة لعصرها، منها رأيها في أهمية مخالطة البنين للبنات في المدارس، وبعد أن تأقلمت مع حياتها الزوجية ورضخت للأمر الواقع انصرفت بكليتها إلى تربية ولديها وابتعدت عن الحياة العامة إلى العام 1895 الذي فيه نشبت الحرب بين تركيا واليونان الأمر الذي أوجب على المصريين مساعدة الأتراك فنشطت الحياة السياسية، واستغلت هدى شعراوي الاحتدام السياسي فخرجت إلى الحياة العامة لتبدأ مرحلة جديدة في رحلة جهادها النسوي السياسي المنظم، مفيدة من مكانة زوجها علي الشعراوي في حزب الوفد، ومتأثرة بدعوات قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة» الذي تعده حجر الأساس في بناء النهضة النسوية العربية. وكان أول عمل لها هو سعيها مع بعض النسوة الارستقراطيات المتعلمات نحو تشكيل جمعية لرعاية الأطفال ورابطة أدبية.
ومن أهم الذكريات التي أثّرت في مسيرتها لقاؤها بمارجريت كليمان أول باحثة تلقي محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية في مسألة الحجاب على جمع من السيدات في الجامعة المصرية. ولأن بعض الذكريات مسجلة لديها في دفتر يومياتها لذا تعمدت إدراجها في مذكراتها، وتبرر الدمج بأن ما يكتبه الإنسان من وحي اللحظة يكون له وقع آخر مختلف عما يدوّنه من ذكرياته فيما بعد. وتتحدث في يومياتها أيضا عن الثورة والحرب وتبرع النسوة بحليهن واعتقال سعد زغلول واشتغالها بالحركة الوطنية عام 1919 وهو العام الذي شهد أول مظاهرة للسيدات ضد الانكليز. وفي عام 1920 رأست هدى شعراوي لجنة الوفد للسيدات والتقت بسعد زغلول الذي كان آنذاك بمنصب رئيس الوزراء وخاطبت الأزهر ومجلس النواب والصحافة والرأي العام.
ولعل الجزء الأكبر من مذكرات هدى شعراوي هو عبارة عن وثائق مكونة من بيانات مدنية ومقالات صحفية وحوارات ومناقشات مع سلامة موسى في جريدة «الأهرام» وجريدة «التاج المصري»، وكتب رسمية وخطابات سياسية كانت تلقيها في مؤتمرات دولية منها خطبتها في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي في روما عام 1923 وبعد عودتها إلى مصر قررت تأسيس الاتحاد النسائي المصري وكانت معها نبوية موسى وكان هدفها من إنشاء الاتحاد المناداة بحقوق المرأة وأهمها المساواة بين الجنسين في التعليم وفتح أبواب التعليم العالي وسن قوانين تنظيم العلاقة الزوجية وتعدد الزوجات والطلاق.
وعلى الرغم من أنها كانت فخورة بما أحرزته المرأة المصرية والعربية من تقدم لكنها في الوقت نفسه وجدته تقدما بطيئا جدا بالقياس إلى التقدم الذي تحرزه المرأة الغربية إذ أن ما تحققه هذه الأخيرة في عام لن تصل المرأة العربية إلى تحقيق مثله في جيل، علما أن هدى شعراوي هي التي أكدت أن الحركة النسوية الأمريكية بدأت في تاريخ مواكب لتاريخ الحركة النسوية المصرية.
وظلت على طول رحلة كفاحها النسوية حريصة على تأكيد حقيقة دامغة وهي أن المرأة نصف الخليقة البشرية.
إن جهود هدى شعراوي لم تكن مقصورة على الدفاع عن حقوق المرأة حسب، بل دافعت عن حقوق المظلومين من الفقراء والمهمشين بالعموم. وهو ما تؤكده كتابتها لمذكراتها كصورة متقدمة للنهضة النسوية وكدليل عملي على فاعلية المرأة المتعلمة وهي تؤدي دورها الثقافي بروح غيرية وبنزعة ذاتية فكانت هي المؤرخة التي وضعت من خلال ذكرياتها لبنة في معمار التاريخ النسوي، وهي القائدة التي راهنت بوعي تاريخي على مستقبل نسوي تتحقق فيه الأماني والتطلعات. وأهم تلك التطلعات أن يكون للتعليم دور أساس في النهضة النسوية، وبه وحده تُفتح أمام المرأة أبواب الحياة العصرية ثقافةً وفكراً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً.
*كاتبة من العراق