فجوات الحضارة الغربية: شعوب فوق وشعوب تحت
حسنا فعل الإعلام الغربي حين أظهر لنا كل أولئك الذين أعلنوا أن البشر ليسوا سواء. فالإعلام هو مرآة الحالة السياسية والاجتماعية والنفسية الموجودة على أرض الواقع، والتي تكون أحيانا مختبئة فتُظهرها الأزمات. إنه حقا مأزق فكري وأخلاقي فظيع يكاد يكون عنوانا لهذه المرحلة الأوروبية في هذه الفترة الحضارية.
لقد نشر الإعلام الغسيل الغربي القذر على الملأ، حين فتح مزاد المواصفات العرقية للشعوب الأوروبية، في ظل الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، ففضلهم على بقية شعوب الكون، لأنهم بعيون زرقاء وشعر أشقر، أذكياء ومتعلمون ولديهم سيارات، ومتأكدون من هويتهم ولهم ماض واضح وليسوا إرهابيين. كما أعاد تبني التقسيم القديم للعالم، المتكون من مجتمعات متحضرة أوروبية على وجه الخصوص، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تمسها الحروب.
وشعوب أخرى غير متحضرة، بعيون سوداء وشعر أسود وبشرة سمراء، ليسوا أوروبيين، بل شرق أوسطيين وأفارقة، غير متأكدين من هويتهم أو بلا هوية، وماضيهم غير واضح، وربما كانوا إرهابيين، هذه المواصفات تؤهلهم لأن يكونوا وقودا للحروب في أي زمان ومكان، من دون أن يأبه العالم المتحضر بهم. أما الهُجرات فقد دخلت المزاد الأوروبي أيضا، وتم تقسيمها إلى هُجرات من نوعية عالية، توجب على أوروبا أن تفرش لهم الأرض بالورود، لأنهم «يبدون مثلنا» على حد قول المعلق البريطاني في صحيفة «ديلي تلغراف» فيصطف المستقبلون على الجانبين مرحبين بهم، بعد أن هيأوا لهم الغذاء والدواء والملابس والسيارات، وأماكن تم إعدادها مسبقا تليق بهم. كما سُنّت لهم على عجل القوانين والتشريعات التي تسمح لهم بالإقامة والعمل والتعليم. أما الهجرات الأخرى فهي من نوعية دُنيا، توجب على الأوروبيين أن يغلقوا حدودهم في وجهها، وأن يضعوا الأسلاك الشائكة والكلاب البوليسية في طريقهم، ويصبح العمل على إعاقتهم واجبا يجب القيام به باليد والقدم واللسان والقلب، وذلك أضعف واجب، لذلك قامت المحكمة بتبرئة تلك المراسلة التلفزيونية الهنغارية، التي كانت تركل المهاجرين، ومن بينهم رجل كان يحمل طفله فأسقطته أرضا كي تعيق دخوله إلى الحدود. وفي الشهر الماضي قام حرس الحدود اليوناني بإجبار اللاجئين على خلع ملابسهم وإعادتهم إلى الحدود مع تركيا سيرا على الأقدام في أجواء البرد القارس، ما تسبب في وفاة 12 شخصا منهم. يقينا إن ما سمعناه من تصريحات عنصرية في الإعلام الغربي، هي ليست زلات لسان، ولا توجب التبرير والاعتذار من قبل الذين تحدثوا بها على الفضائيات، سواء كانوا إعلاميين أو سياسيين أوروبيين، هي دلائل مؤكدة على العنصرية المؤسسية، التي تشير بشكل واضح إلى أنه من السابق لأوانه إعلان أوروبا والغرب عموما بأنها مجتمعات ما بعد العرق. وإذا كانت أوقات الأزمات هي الحجر الذي تُحك به معادن الناس فتظهر على حقيقتها، فإن الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا أثبتت أن الغرب يعيش في لحظة فكرية خطيرة، إنها لحظة العيش مع ماض لا يموت أبدا. ويبدو واضحا أنهم لا يريدون تعديله أو إعادة كتابته على الأقل، لذلك يأبى الماضي الأوروبي القبيح إلا أن يعاود الظهور بمزيد من الضراوة، كما يتضح أن كل المحاولات لتغيير كيفية تمثيل الماضي في الوقت الحاضر قد فشلت فشلا ذريعا، لذلك باتوا يقولون ما لا يفعلون فينزعون الإنسانية عن أقوام وشعوب، ويضعونهم في أدنى السُلّم البشري الذي رسموه بأيديهم، وينتقصون من كرامتهم وحقهم في العيش والحياة الحرة الكريمة، بينما يرفعون شعارات القيم الإنسانية وحقوق البشر، ويستعملونها كمبررات يضغطون بها على الدول الأخرى، فيحتلون دولا ويسقطون أنظمة ويدمرون مستقبل شعوب، لكنهم لا يتورعون عن وضع ملف حقوق الإنسان على الرف إن وجدوا في ذلك مصلحة لهم، لذلك بدت معاييرهم المزدوجة ظاهرة للعيان في سياساتهم تجاه الآخرين، فهل بقي بعد ذلك من يقين يمكن أن يعتصم به الناس بما يقوله الغرب من أن مصالحهم تقوم على قيمهم، في حين نرى على أرض الواقع أن قيمهم فيها موازين مختلفة، لا تعتمد على إنسانية الإنسان، بل على لون عينيه وشعره وبشرته وانتمائه الجغرافي ودينه؟
نشر الإعلام الغسيل الغربي القذر على الملأ، حين فتح مزاد المواصفات العرقية للشعوب الأوروبية، في ظل الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا
إن أكثر ما يُدهش في الأزمة الأوكرانية أنها أفرجت عن مصطلحات تم تحريمها على شعوب أخرى، في حين أصبحت قيما أوروبية عليا بطولية يجري التفاخر بها أمام العالم. فقد بدأنا نسمع عن حق المقاومة للأوكرانيين ضد الغزاة، وعن الرمزية الوطنية العالية التي تستحق الأوسمة لمن فجّر نفسه بدبابة روسية، وعن الجسر الجوي والبري الذي قامت به أوروبا لنقل الأسلحة إلى المقاومين من الشعب والجيش الأوكراني، ودعوات للأوروبيين للتطوع في القتال في أوكرانيا ضد الجيش الروسي الغازي. وهذه كلها حقوق للشعب الأوكراني لا خلاف عليها، لكنها ليست حقا حصريا لأصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرق والشعر الأشقر. هي حق لكل الشعوب التي تتعرض للمصير نفسه. لكن عمى المعايير المزدوجة يزيح زاوية النظر الغربية دائما، لذلك عندما كان الفيتناميون يقاتلون اليابان كانت أمريكا وأوروبا تسميهم مقاومة، وعندما قاتلوا الأمريكيين سُموا إرهابيين. وحدث الشيء نفسه واُلصقت التهمة نفسها بالمجاهدين العرب في أفغانستان. كما سرت تهمة الإرهاب على المقاومين الفلسطينيين والعراقيين والسوريين، وكل أشقائنا في المغرب العربي إبان الاحتلال الفرنسي، وشعوب أخرى في افريقيا وأمريكا اللاتينية. والسبب في ذلك أن الغرب يعتقد نفسه أمما استثنائية لا يجوز أن تسري القيم نفسها على غيرهم، لذلك لن ينسى كاتب هذه السطور ذلك الموقف، وهو يقف أمام ضابط من قوات الاحتلال الأمريكي في بغداد في عام 2005، بعد أن اعتقلوه بتهمة تحريض طلبته في الجامعة على مقاومة الغزاة، حينها أمر الضابط مساعده قائلا، اسجنوه في التواليت لثلاث ليال، وليتبوّل عليه جنودنا، كي يزيلوا قيم المقاومة القذرة من رأس هذا العربي العفن.
إن المصير المأساوي الذي يواجهه الناس على الأرض الأوكرانية لن ينال من الأوكرانيين فقط، بل من كل من هو موجود على خريطة هذه الدولة، فالقذيفة لا تميز بين هذا وذاك، ولا الطائرة ولا الصاروخ ولا الدبابة، فإذا كان المصير واحدا ومحتمل الوقوع في أي وقت، فيجب أن يكون التخلص من مواجهة هذا المصير حقا مكفولا للجميع. لكن العار الذي رأيناه هو أن تُعطى الأولوية في ركوب وسائط النقل المتجهة إلى الحدود مع الدول الأخرى، هربا من القتال، إلى فئة دون أخرى، وأن يكون هناك تمييز عرقي في عز هذه الأزمة الإنسانية التي تنضح بالمأساة. فهل الحضارة تعني أن مقياسنا لإنسانية الآخر يجب أن تكون محكومة بسيارته التي تشبه سياراتنا ومستوى تعليمه ولون بشرته؟ ولماذا يبقى العديد من الغربيين منغمسين في ما يعتقدون أنها امتيازاتهم الموروثة، فيمارسون عنصرية مقيته ضد شعوب أخرى؟ أليست الحضارة هي التواصل الناجح بين البشر من شتى الأعراق والألوان والديانات؟
إن التمييز الفردي والجمعي بالانتماء العرقي أو الديني، أو من خلال أبعاد الشخصية، لا يلغي في أي شكل من الأشكال وجود الآخر المتميز أيضا بقيمه الفردية وانتماءاته العرقية أو الدينية، وبأبعاده الشخصيه، ولا يجوز أن يذوّبه أو يصهره أو يهدده.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية