الاستاذ/علاء اللامي .
إنَّ مشكلة روسيا بالأمس كما هي اليوم ليست في أوكرانيا أو في محيطها فقط بل هي أيضا في استراتيجية حكام الكرملين اللاهثين خلف الغرب، والنخبة “المثقفة” الروسية المهيمنة على المشهد الإعلامي والثقافي، وها هو الخيار الغربي القاسي الوحيد يتجلى أمامها، بعد أن ذاقت مجددا سيف العقوبات والحصار الغربي الشامل لأنها تحركت لضمان أمنها القومي كدولة كبرى، هو التوجه شرقا والتحالف مع الأمم والشعوب المستهدفة بالعدوان الغربي وفي مقدمتها الصين! هذه الخلاصة قد تبدو بديهية حين نضعها في سياق العلاقات التاريخية التي ربطت بين روسيا وأوروبا الغربية والولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر في أقل تقدير، ولكنها قد تعتبر من قبل البعض المراهن على الخطابة البلاغة دعوة للانعزال عن العالم المعاصر، حيث الهيمنة الغربية الأميركية على العالم هي التجلي النهائي والوحيد لما يسمى العالم المعاصر، وهذا الاعتبار غير صحيح بحسابات الوقائع التاريخية الجارية والمتراكمة طوال القرنين الماضيين وبحسابات آفاق هذا الواقع المنتج لحقائق الجغرافيا السياسية على المدى المنظور وحتى البعيد.
بناء على هذا الاعتبار الخاطئ، يريد لنا البعض، وبحجة الدفاع عن روسيا المستهدفة غربيا بوصفها جزءاً من العالم المستهدف بالهيمنة الغربية والتفكيك والاستتباع، أن ننسى أو نتناسى أن روسيا يلتسين ثم بوتين حاولت الحصول على عضوية الناتو التي تريد منع أوكرانيا من الحصول عليها اليوم، لكن الغرب الأطلسي رفض طلب روسيا بكل غطرسة واستعلاء، وهاهو الغرب اليوم يشرح لها السبب عمليا ويقدم لها الدليل بمفردات هذه الحرب الاقتصادية والأمنية والإعلامية والثقافية التي لم يسبق لها مثيل التي لم تستثن حتى موسيقى عالمي رائع مثل تشايكوفسكي ، أو الروائي العظيم فيودور دستويفسكي المتوفيان في القرن التاسع عشر، لأنهما روسيان ليس إلا.
ومن الأحياء طردت السلطات في مدينة ميونخ الالمانية كل من :المايسترو الروسي فالري جرجيف و المغنية الأوبرالية الروسية آنا نيتريبكو والتي تعد واحدة من أكبر نجوم الأوبرا العالميين. كما شمل القمع الكاتب النمساوي بيتر هاندكه الحائز على جائزة نوبل للآدب عام 2019 ليس لأنه أيد الاجتياح الروسي لأوكرانيا ببيان خاص، بل لأنه رفض التوقيع على عريضة تدين هذا الاجتياح فدعا أصحاب العريضة الى معاقبته بسحب جائزة نوبل منه وصدرت تصريحات متشنجة وعدائية ضده، وكأن لغة توحيد المواصفات القمعية “الليبرالية الجديدة” لا تسمح بأي تحفظ على بيان سياسي أو عريضة لجمع تواقيع المثقفين قد لا يتفق المدعو للتوقيع عليها مع هذا تفصيل أو ذاك فيه، وهذه هي آخر طبعة من الليبرالية الغربية في مرحلة انحطاطها وتحولها الى ذيل قميء للخطاب السلطوي وتحالف الناتو!
إن الخطاب الغربي واضح فهو يقول لروسيا إنها “ستبقى معادية حتى يتم تفكيكها وإلحاقها كدويلات خاضعة وضعيفة بالمتروبول الغربي الأطلسي بغض النظر عن كونها قيصرية أو اشتراكية بلشفية أو رأسمالية يلتسينية.
لقد فعلت القيادات الروسية الرأسمالية القومية الحاكمة منذ تفكيك وانهيار الاتحاد السوفيتي كل شيء، نعم كل شيء كان يحلم به الغرب الإمبريالي ويتمناه؛ فأباحت له روسيا وثرواتها الظاهرة والباطنة، وفككت ودمرت اقتصادها وصناعاتها وزراعتها وعلومها ومؤسساتها الأمنية، وسمحت لحلف الناتو بتطويقها بالقواعد والقوات العسكرية في جميع الدول المجاورة لروسيا وهي تتفرج، ولكن الغرب لم يرضَ عنها ويمنحها شهادة حسن السلوك “الديموقراطية”، وحين أحست بحرارة صواريخ الناتو على لحمها الحي وانتفضت، جاعلة من شقيقتها السلافية أوكرانيا استثناء، جنَّ جنون الغرب وأطلق كل ما في خزين وعيه ولا وعيه من عداء لروسيا وجعل منها شيطانا رجيما يستحق المحق والإقصاء من المشهد العالمي!
أما بخصوص ما يقال ويكتب عن الحركات النازية الجديدة والقومية المتطرفة في أوكرانيا، فيمكن القول إن هذه الحركات في أوكرانيا تختلف عن شقيقاتها في جميع دول أوروبا الشرقية بما فيها روسيا ذاتها بكونها. ولكن، ومن ناحية أخرى، وبمنظار الموضوعية التاريخية التراكمية، فإن أية محاولة لفهم انخراط الكتلة الشرقية التي تشكلت في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية وسيطرة الجيش السوفيتي عليها، انخراطها في المشروع الغربي وحلف الناتو خارج إطار أخطاء وخطايا المرحلة الستالينية والستالينية الجديدة محكوم عليها بالفشل. فشعوب هذه المنطقة لا تنسى بسهولة ذكرياتها المرة عن القمع الستاليني والحرمان من الحريات الفردية والعامة وتهشيم الهويات الوطنية لمصلحة سيادة هوية “الأخ السوفيتي الأكبر” بعد ان تغيرت هوية الاتحاد نفسها من ديموقراطية سوفيتية “مجالسية” الى دكتاتورية فظة وصريحة.
تختلف أوكرانيا في كونها البلد الوحيد التي انحازت نخبها وقياداتها السياسية في الغرب الأوكراني وبنسبة مهمة إلى النازية، وقاتل قوميوها بزعامة ستيبان بانديرا الى جانبها ضد السوفيت، وهي تنحاز اليوم للخيار الغربي الأوروبي الناتوي، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار العداء التقليدي ذا البعد الطائفي “الكاثوليكي الأرثوذوكسي” في بولندا لروسيا الأرثوذوكسية، فإن الدول الشرقية الأخرى التي انخرطت في حلف الناتو، فعلت ذلك تحت ضغط التاريخ ووقائعه الساخنة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة القمع الستالينية.
بالعودة إلى محور العلاقات الروسية الغربية، يمكن الاستشهاد بما قاله الرئيس بوتين قبل أيام، ففي سياق تبريره لعميلة الاجتياح العسكري المستمرة لأوكرانيا، قال بوتين مذكِّرا الغربيين أن روسيا “سبق وأن أرادت الانضمام الى الناتو ولكنكم رفضتم أن تكون روسيا صديقا وفضلتم التعامل معها كعدو”! وبوتين هنا يتناسى دورس التاريخ القديم والحديث والذي لم يقدم لنا مثالا واحدا على صداقة عقدت بين روسيا وأوروبا الغربية طوال القرنين الماضيين على الأقل!
ليس القصد هنا هو الدفاع عن قيام أوكرانيا بالإخلال بالأمن القومي الروسي لمصلحة الغرب، ووضع صواريخ الناتو على مسافة بضع دقائق من قلب موسكو، ولا هو في تبرير احتلالها ونزع سيادتها واستقلالها من قبل الكرملين، بل هو محاولة لتفكيك منطق وحجج المدافعين عن خيار قيادات ونخب روسيا نفسها في الاندماج والتماهي من موقع التابع مع الغرب، بعد كل هذا التاريخ من العداء الغربي المتأصل والبالغ حدود الرُّهاب الجماعي “الفوبيا العصابية”!
لقد جعل الغرب من روسيا عدوا تاريخيا سواء كانت هذه الروسيا قيصرية إقطاعية (غزو بونابارت سنة 1812)، أو اشتراكية سوفيتية (حرب التدخل لأربع عشرة دولة أوروبية في الحرب الأهلية بعد الثورة البلشفية سنة 1917)، أو دكتاتورية ستالينية (الغزو الألماني النازي في الحرب العالمية الثانية)، أو الحرب الباردة وإحاطة روسيا بالستار الحديدي بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أن روسيا السوفيتية ضمن الاتحاد السوفيتي قد تحملت الثمن الباهظ في الأرواح والممتلكات، فهل ستأخذ روسيا العبرة مما يجري وتكافح أوهام حكامها اللاهثين خلف الغرب وعضوية الناتو، وتحسم خياراتها الاستقلالية وتتجه شرقا ضمن مشروعها الاشتراكي بعد مراجعته وتفادي أخطاء الماضي، وتترك الغرب يغرق في أزماته وآثامه بحق شعوب العالم حتى انهياره؟!
إن العداء الأوروبي الغربي لروسيا ليس جديدا، وهو لا يتعلق بالسبب السياسي المباشر غالبا، بل بشبكة من العوامل والأسباب التاريخية والاقتصادية والجيوسياسية القارية وحتى الطائفية الدينية. فقد كان أول غزو شنته أوروبا الغربية ممثلة بنابليون بونابارت ضد روسيا القيصرية وحكمها المطلق في بداية القرن التاسع عشر “1812” ولسبب اقتصادي معلن وهو منع روسيا مع المتاجرة مع بريطانيا، أما الهدف الحقيقي وفق العديد من المؤرخين فكان تحرير بولندا الكاثوليكية من الهيمنة الروسية. وفشل الغزو وهُزمت فرنسا بونابارت هزيمة مذلة تكبد جيشها 380,000 قتيل وحوالي 100,000 أسير، رغم أنه دخل موسكو فاتحا فوجد أن الروس احرقوا كل ما فيها مما يمكن ان يفيد الغزاة، ليبدأ بعدها ا بدأ بعدها انكماش وسقوط البونابرتية في العالم!
وفي عام 1917 أطاحت روسيا بالحكم البرجوازي الوليد، واختارت طريق حداثتها الخاص عبر النموذج الاشتراكي الماركسي بعد الثورة البلشفية، فرفضت أوروبا الغربية هذا الخيار الذي أرعب طبقاتها المسيطرة وتدخلت أربع عشرة دولة أوروبية عسكريا في ما سمي “حملة الأربع عشرة أمة” ومنها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ورومانيا وإستونيا وأستراليا وكندا واليونان واليابان وغيرها. وقد عَمَّدَ تشرتشل في بيان له هذه الحملة الغزوية باسم “حملة صليبية معادية للسوفيت من أربع عشرة أمة” حينها، وقد وصف مؤسس الجيش الأحمر وقائده ليون تروتسكي حينها هذه الجيوش بأنها “ليست أكثر من أربعة عشر كيانا جغرافيا وأربع عشرة فرقة فرنسية إنكليزية. ص 455 النبي المسلح/ دويتشر”، وانتهت هذه الحملة بأن سحقت روسيا السوفيتية هذا التدخل العسكري الغربي وسحقت معه القوى الرجعية الروسية البيضاء.
ثم، وفي عهد روسيا الستالينية، شنت أوروبا الغربية ممثلة هذه المرة بالآلة الحربية الألمانية النازية الهائلة التي أرادها الغرب في البداية أن تكون حفار قبر روسيا السوفيتية هجوما دمويا على الاتحاد السوفيتي، ولكن ألمانيا النازية لم ترحم أوروبا الغربية نفسها في طريقها شرقا للالتهام الاتحاد وثرواته، وقد نجحت روسيا السوفيتية ضمن الاتحاد السوفيتي، وبعد تضحيات وخسائر جسيمة في التصدي للآلة الحربية النازية وهزمتها هزيمة شنيعة في معركة ستالينغراد دمَّرَ السوفيت خلالها الجيش النازي السادس والفيلق الرابع التابع للجيش الرابع بانزر، واللذين يقدر عديدهما بربع مليون عسكري، لم يعد منهم حيا إلى ألمانيا إلا قرابة الستة آلاف فرد، وشقت الدبابات السوفيتية لاحقا طريقها نحو برلين وأسقطت النازية الألمانية في عقر دارها ورفعت العلم السوفيتي على الرايخشتاغ معقل النازية الهتلرية! ورغم أن روسيا السوفيتية قاتلت هذه المرة جنبا إلى جنب مع دول الحلفاء الغربيين ودفعت الثمن الأضخم في هذه الحرب والذي فاق نصف خسائر جميع الشعوب والدول الأخرى، ولكنها حين انتهت الحرب وجدت نفسها محاصرة خلف الستار الحديدي وتخوض الحرب الباردة التي بادر إليهما الغرب بزعامة أميركا!
لقد طلب ستالين من الغرب أن يمدَّه بقرض بقيمة خمسين مليون دولار ضمن خطة مارشال الأميركية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، ولكن الرئيس الأميركي هاري ترومان رفض ذلك الطلب، وبدأت إثر ذلك عملية عزل ومحاصرة روسيا التي لم تنته إلا بتدمير الاتحاد السوفيتي من قبل حلفاء الغرب الروس بقيادة بوريس يلتسن ومعاونه الأول بوتين ورئيسهما غورباتشوف!
وأخيرا، فربما يبدو المنظر الاقتصادي الروسي المرموق فالنتين كاتاسونوف متفائلا أكثر مما ينبغي حين لخص رأيه بالعقوبات الانتقامية الغربية الحالية ضد روسيا فقال ما معناه؛ إذا كان الستار الحديدي ضد الاتحاد السوفيتي الضعيف والمدَّمر في الخمسينات من القرن الماضي بفعل الحرب العالمية الثانية قد حوله إلى دولة عظمى بالاعتماد على قواه الخاصة، دولة واجهت دول القطب الغربي كلها، فإن روسيا الصاعدة اليوم اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا ستخرج من الحصار الغربي الجديد الراهن أقوى من ذي قبل/ برنامج قصارى القول قبل يومين. إن الوضع الجيوسياسي العالمي الراهن لا يحله ويفسره هذا النوع من المقارنات الشكلانية التي لا تقيم اعتبارا جدليا لحقائق الواقع التاريخي ومنه أن القيادات الروسية الراهنة لا تحمل في عصرنا مشروعا جيوسياسيا واجتماعيا أمميا مستقلا ينافس الغرب، وهذا الطموح الكوني الكبير للجم ومحاصرة الإمبرياليات الغربية المعادية للشعوب وردعها لن يكون ممكنا دون أن تتخلى القيادات الروسية عن أوهامها وتعويلها الذيلي على صداقة بأي ثمن مع الغرب الإمبريالي.
إن الغرب لن “يخرج من جلده طوعا” ويتخلى عن طبعه ومضمونه الإمبريالي لسواد عيون بوتين أو سواه من قيادات الكرملين البرجوازية، بل هو – الغرب- لا يفهم إلا نوعا واحدا من الصداقة هي “صداقة الاستسلام الكامل والتام” والتحول إلى تابع يدور في فلكه، وهنا – في فقدان المشروع الروسي المستقبلي وهيمنة الأوهام الروسية الحاكمة – تكمن نقطة ضعف روسيا الكبرى والتي ستجعل هذا التفاؤل الكاتاسونوفي لا محفوفا بالمخاطر وذا أساس جيوسياسي هشّ!
يمكن لهذه المواجهة والحملة الغربية ضد روسيا في هذه الحرب أن تكون فرصة ثمينة لروسيا لتتخلص من أوهامها الغربية بشكل نهائي وتفعل تحالفاتها الشرقية وتبني وتضع موضع التطبيق بدائلها المالية والتكنولوجية والإعلامية للأساليب والأنظمة الغربية التي شهرت ضدها كسلاح ومنعت من استخدامها، بدءا من الاستغناء عن نظام “سويفت” للتحويلات المالية وتمتين استقلالها المالي والانفكاك التدريجي عن اقتصاد الدولار وليس انتهاء بمراجعة دورها في المنظمات التي تسمى دولية ومحايدة وانكشفت على حقيقتها كمنظمات تابعة للمنظومة الغربية الإمبريالية، وهذا قطعا طموح كبير لا يمكن أن يتحقق بين يوم وليلة ولكن شرطه الأول يكمن في تبني فلسفة جيوسياسية استقلالية وتقدمية حقيقية، وتلك ستكون مهمة المستقبل التي ستفرض نفسها على القوى التقدمية الروسية ذات الخبرة الضخمة خلال السنوات القادمة كما نرجح، وخصوصا إذا ما تخلى الحزب الشيوعي الروسي عن مواقفه المتماهية تماما مع مواقف الكرملين ودون أدنى تحفظ تمليه مبادئه الطبقية والأممية المعلنة.
أما البديل الذي يقدمه المنظر الأيديولوجي القومي الروسي ألكسندر دوغين ويتبناه الرئيس بوتين والمتمثل بالنظرية الجيوسياسية القائلة بالمشروع الأوراسي بقيادة روسيا الأرثوذوكسية “الاستثنائية” ومعاداة الحداثة والليبرالية الغربية ككل ودون تمييز بين الجوهر التقدمي التأسيسي لها والعدوانية الإمبريالية المتفاقمة ضد شعوب العالم وتمظهراتها الأيديولوجية في الخطاب الليبرالي السلطوي الحالي، وعلى ركيزة أخرى هي تصنيم الرئيس الروسي الحالي ضمن مقولة دوغين “هناك الرئيس بوتين وأنا والشعب الروسي المحافظ/ مقابلة تلفزيونية معه 14 تشرين الثاني 2021″، فهي لا تعدو كونها نسخة شاحبة من أيديولوجيات اليمين القومي الروسي المحافظ، ولا تصلح لتكون بديلا ونقيضا كفاحيا يواجه بجدارة المشروع الإمبريالي العالمي ولا تصلح لتكون حلا واعدا حتى لمشاكل روسيا ذاتها في البعد القومي المحلي!
*كاتب عراقي