سحر «الغفران» وجرأة السّرد
إلى اليوم، يشكل نص «رسالة الغفران» لصاحبه أبي العلاء المعري (974-1057) لحظة مميزة في السرد العربي، وعميقة. ليس فقط بسبب محمولها الفلسفي الكبير، لكن أيضاً بما لنظامها البنيوي الداخلي من اجتهادات كثيرة، رفعت النص عالياً. فقد أصبحت «رسالة الغفران» علامة واضحة لارتقاء السرد العربي بين القرنين العاشر والحادي عشر، نحو الكمال الجمالي والحكائي. تطورت فيه كل البنى الداخلية التي شكلته، منها عنصرا الزمان والمكان (الفضاء) اللذان سنخصص لهما جزءاً مهماً من مساحة هذا المبحث، إضافة إلى الفعل التناصي الذي لا يمكن إغفاله ما دام يشكل جوهراً بنيوياً للنص. فالنص يتقاطع مع نصوص أخرى كبيرة الأهمية، تحمل نوعاً من القداسة: القرآن الكريم، ونص المعراج بمروياته العربية والشعبية، لكن أيضاً أخبار الشعراء وحيواتهم. فقد استعمل أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران» كل هذه الوسائط البنائية المتاحة في زمانه، لتأثيث الزمن وتنويعه بين عناصره المختلفة من الزمن الخطي، إلى الزمن اللولبي، إلى الاستباقات بكل جزئياتها، لينتج زمناً تركيبياً فرضته إيقاعات النص. كما أعطى للأمكنة (الفضاء) أهمية كبيرة، على الرغم من افتراضيتها (الحشر، الجنة والنار بكل الأمكنة الصغيرة المتفرعة، المجالس، القصور، الوديان التي تسيل منها الخمرة والعسل…) إلا أنه جعل من الفضاء في تنوعه حقيقة مرئية عندما أثثه ببشر (شعراء) عرفهم أدبياً أو قرأ لهم، لدرجة أننا نسمع ضجيجهم سواء في الجنة أو الحشر أو النار، وهم يتحدثون عن أنفسهم. مساحة فنية حقيقية، إضافة إلى مكان ثالث لا يقل أهمية، وهو المعبر أو الصراط، حيث وجد السارد ابن القارح صعوبة في السير عليه، بالخصوص بعد مغادرته الحشر.
مع هذا النص، يحتاج المرء إلى قدر واسع من التخييل ليتوصل إلى صناعة عالم شبيه بأمكنته وأزمنته المتراوحة بين ماض محكوم بسلسلة لا تنتهي من الممارسات الحياتية والفنية للشعراء أنفسهم، وحاضر يعشه الفنان بين الأمكنة الثلاثة. فقد استطاع أن يجعل من معراجه وسيلته للكشف عن عوالم أدبية جديرة بالنقاش. كما فعل الشيخ الأكبر ابن عربي في معراجه، الذي صعد، حلمياً، من خلاله نحو الملكوت الأعلى وقد أشركنا في كل مشاهداته[2]. لهذا، فنحن نرى أن عبقرية أبي العلاء المعري، كيفما كان حكمنا على أفكاره، كبيرة ليس فقط في جرأة خيارات الثيمات الإبداعية، لكن أيضاً في النظام السردي الذي اقترحه علينا في هذه الرسالة التي ارتقى فيها التخييل إلى الدرج الأعلى. وكل ما قام به فنيا يجد سبله التطبيقية اليوم بلا صعوبات كبيرة. النظريات الأدبية النصية وحتى الفنية التاريخية، المرفقة بانفتاح على الموضوعاتية، تجعل من القراءة فعلاً راهناً وغنياً. الإبداعية الخلاقة لا ترتبط لا بمكان ولا بزمان. فهي تتخطاهما، حتى ولو ظل ذلك رهيناً بهما.
يبدو واضحاً، بعد تخطي العتبات التي تضع الأشياء في سياقاتها، أن أبا العلاء المعري استند بشكل دقيق، في جمالية القص والارتحال إلى العالم الآخر، إلى الرحلة الرسولية نحو سدرة المنتهى، كما ذكرنا سابقاً. فقد اختاره المعري كبنية فنية فقط تسمح له بالصعود دون أن يبدو كلامه غير طبيعي أو خرافياً، وللشخصيات التي حاورها من خلال ابن القارح، بالانتقال من الأرض إلى العالم الآخر، وإعادة بعثها. مما يوفر لأبطال الحماية منطقاً، ولو داخل المعطى الديني، القصصي، التخييلي، منطق الانتقال من الحياة العادية أو من المقابر نحو عالم تخييلي علوي بكل خصائص الأرض وما ارتكبوه من آثام جعلتهم يخلدون في النار أو العكس. من هنا جاء تخييل المعري قوياً ومحيراً وعلى حافة الاتهام بالزندقة والكفر، لكنه وضع كل الحكاية في السياق الديني، جعل درجة التهمة تقل كثيراً، فقد كان جريئاً وسجالياً؛ أي أن أفكاره تمر عبر حلقات الشعراء الإشكاليين الذين انتخبهم ليحاورهم ابن القارح، مع كل التبعات التي يمكن افتراضها في هذا السياق. وهذا ما يرفع هذا النص إلى الأعلى، فهو يتخفى إلى حد كبير في أعماق دانتي اليغري «الكوميديا الإلهية» الذي أسس للأدبية الغربية، الأوروبية تحديداً. وكانت هذه الخيارات الفنية والتأثيرات العالمية موضوعات لدراسات كثيرة وشديدة الأهمية، ليس هذا مكانها.
أنجز أبو العلاء المعري هذه الرسالة التخييلية والواقعية في الآن نفسه، ليرد على ابن القارح. وقد اختار في سرديته أن يجعل من ابن القارح بطلاً نصياً للحكاية، بدأها بمقدمة قدم فيها رسالة ابن القارح وطيبة صاحبها، ونفوذ كلماتها إلى قلبه، قبل أن يطلق العنان لمخيلته، داخل مدارات رحلة تخييلية التقى فيها ابن القارح مع كوكبة من رجالات الثقافة والعلم واللغة والشعراء العرب، لدرجة أن أصبح ما يرويه كأنه حقيقة. لم يتوان أن ينقل لنا نقاشاته نحو العالم الآخر، كما ساجل الأدباء والشعراء واللغويين في موضوعات شديدة الحساسية وكأنه يختبر معارفهم وآفاقهم وإنسانيتهم. ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة، فاقترب منه ووصف حاله، واصفاً الجنة التي دخلها بعد حشر ثقيل وانتظار زمن طويل، الزمن الإنساني وليس الزمن الأخروي. فانتظار شهرين في المحشر هو ثانية بالنسبة لزمن الصيرورة والإطلاق. لم يغفل أبو العلاء المعري الاستناد إلى بعض الأبيات الشعرية على عادة الكتاب القدامى لتدعيم رؤيته الفكرية والإبداعية، إذ لم تكن الخيارات والشخصيات الحكائية عملاً عبثياً. مرجعه الفني والبنائي في ذلك ما تمنحه الخلفيات الثقافية والأخبار، وتواريخ الشعراء من سبل تعبيرية مثقلة بالمعارف. وربما قصد أيضاً أبو العلاء المعري أن يحول النص إلى حلبة للمباراة اللغوية التي أفلح فيها، ولو أنها كانت تحول النص من حين لآخر على نص مغلق.
من هنا، فاختيار الشكل الغرائبي لم يكن فعلاً عبثياً ولا شيئاً طارئاً، فهو جزء من فلسفة المعري في الحياة. لقد عاش غاضباً على البشر وأطماعهم وجشعهم، ويائساً حتى من إصلاحهم، لهذا هرب في النهاية نحو الشعر. وحده الشعر أعطاه التوازن الذي ظل يبحث عنه بعد خيباته المتكررة. أدخل وأخرج من الجنة من شاء من الشعراء بسبب بيت شعري أو بسبب موقف صغير، ولم ينتظر الشيء الكثير من الحياة. جولته في دهاليز الآخرة ليظهر شيئاً مهماً هو غفران الله حينما يشاء ولا يطلب الإذن من أحد، فهو الأسمى والأقوى، ولهذا تظل أحكم البشر الشكلية أحكاماً جاهرة. لهذا، فرسالة الغفران تظل ثمرة لاستراتيجية فنية اختارها أبو العلاء المعري المشبع بثقافة عصره، ليثبت جدارة حكيه، وسلطان الحق الذي لا يرى. أما الشكل الغرائبي الذي استعاره من المعراج والقرآن الكريم، فهو قيمة فنية مضافة للبنيات الأدبية في زمن كتابة هذا النص الذي وُلِدَ كبيراً، على الرغم من الزمن الظالم الذي مرَّ عبره.